यह युग और उसकी संस्कृति
هذا العصر وثقافته
शैलियों
قالت: تعليم هناك، كان وما زال، وكتابة هنا، كانت وما زالت، فماذا تريد؟ وإذا جعلنا الكتابة ضربا من التعليم، أجبتك بأن حياتي قد ذهبت تعليما داخل الأسوار وخارج الأسوار، أليس في ذلك ما يكفي؟!
قلت: كان يكفي لو أن التعليم جاء هداية، تنقل الناس من قول إلى عمل، الفرق كبير يا صاحبتي بين أسلاك من اللفظ تنثرينها على الأرض باردة، وتلك الأسلاك وقد سرت فيها حرارة التطبيق، في الحالة الأولى يتعثر السائرون فيسقطون، وفي الحالة الثانية يهتز الوجود حرارة وكهرباء. لقد زارنا هنا في مصر كاتب إنجليزي منذ سنين، والتقيت به مصادفة في فندق كنت أقيم فيه، فعلمت أنه بصدد الكتابة عن مصر، وأنبأني بأنه يتأهب للرحيل إلى بعض قرى الصعيد، يخالط الناس فيها ويشاركهم أعمالهم كما يعملونها، وذهب وقضى ما قضى من أسابيع، ثم عاد، وجلسنا معا نتحدث فيما وجد وما أحس، فكان من أطرف ما قاله لي، أنه قد وجد بعض الأعمال أشق في حقيقتها مما تبدو في ظاهرها، من ذلك العمل على الشادوف، ثم أضاف إلى قوله: الفرق بعيد بين أن أكتب لأقول «إن بعض المزارعين يستخدمون الشادوف في ري الأرض.» وبين أن أكتب ذلك نفسه، لكن بعد أن أحس من داخلي إحساس هؤلاء المزارعين وهم يعملون. في هذه الحالة الثانية تسري في كلماتي حرارة الحياة ونبضات الصدق، وأما كلماتي إذا ما قيلت وأنا بعيد، فلا بد أن تجيء وكأنها قطع من الثلج.
وهكذا أنت يا نفسي - هكذا عدت إلى نفسي أحدثها - كأن شأنك شأن معظم المثقفين في بلدنا، نقول القول ولا نمارس ما ينطوي عليه من مشقة العمل فيسهل النقد، ويهون تصوير النماذج المثلى، وكأن نجوم السماء يجوز لها، أن تنتثر أمامنا أصدافا على الأرض، استجابة لكلام نقوله أو نكتبه، ماذا كانت دنيا الناس لتخلو منه، إذا لم يكن لك يا نفسي اللسان الذي تكلم والقلم الذي كتب؟! هل كان بناء فيها لينقض، أو طريق لينسد، أو جسر لينهدم؟ ذلك لأن بضاعتك كانت كلاما لا تسري في مفاصله حرارة العمل، أفلا تذكرين - يا نفسي - كيف استهان رئيس للتحرير بما تكتبينه؛ فقرر حذف ما تكتبين، وشاءت الأحداث الساخرة أن يكون الرجل ممن تعلموا على يديك؟ أرأيت كيف ذهب تعليمك؟ وأي موقع وقعت كتابتك؟
فإذا كان هذا مبلغ ما ذهبت إليه جهودك، ثم قدم إليك هذا الشعب - العريقة أصوله، الكريم عنصره - ما قدمه من رغد العيش، ومن علائم التقدير، أفلا يكون من حقه كل ما في وسعك الضئيل، أن تقدميه إليه من تضحية، ومن إخلاص، ومن حب؟!
قامات متساوية
من الفوارق المألوفة بين العلم والفن، أن العلم «يتقدم» مع الزمن، بمعنى أن القوانين الطبيعية التي أخذ بها العلماء في القرون الماضية، لم تعد مما يقبله علماء اليوم، إذا أحلوا محلها قوانين أخرى، أصدق انطباقا على ظواهر الطبيعة، وأما في الفن فليس ثمة معنى مفهوم لفكرة «التقدم»، فربما كان أقدم شاعر عرفه التاريخ، أروع في شعره من أعظم شاعر يعيش بيننا الآن، من ذا يجرؤ على القول بأن أدباء المسرح في عصرنا هذا، هم أعلى في درجات الفن الأدبي من شيكسبير بل من سوفوكليز عند اليونان الأقدمين؟ من ذا يجرؤ على القول بأن فن التصوير على أيدي أعلام هذا العصر، متفوق على ما أبدعه رافائيل ومايكل أنجلو؟ من ذا يستطيع الزعم بأن فن النحت على أيدي نوابغه المعاصرين، أعظم - بمعايير هذا الفن - مما أبدعه أزميل النحات المصري القديم؟ ألم تقل لي أستاذة ناقدة في الفنون التشكيلية ذات يوم، وقد وقفنا في القسم المصري من متحف المتروبوليتان بنيويورك، أمام تمثال فرعوني صغير، ولكنه رائع رائع، ألم تقل لي الأستاذة الناقدة يومئذ إنها لو وضعت فن النحت المعاصر بأجمعه في إحدى كفتي الميزان، ووضعت ذلك التمثال الصغير في الكفة الأخرى، لرجحت عندها كفته؟
لا ، ليس ثمة معنى واضح مفهوم لفكرة «التقدم» في الفنون، بمثل ما هو واضح مفهوم في مجال العلوم، أو على الأقل هذا ما كنت أراه وما زلت أراه، لولا أن مؤلفة حديثة قد أخرجت كتابا في تاريخ الفن، تزعم به غير ذلك، وكان مما وقفت عنده من أفكارها في ذلك، فكرة هي غاية في الطرافة، لم أستطع لا أن أؤيدها ولا أن أنفيها؛ لأن علمي بتاريخ الفن أقل جدا مما يسعفني بالأمثلة التي تؤيد أو تنفي، وأما الفكرة الطريفة التي أشرت إليها، فهي قول المؤلفة بأنه من علامات النمو والتقدم في الفنون - كفن التصوير مثلا أو فن النحت - أنها تساير التقدم الحضاري، بما تدخله في مضموناتها من تغيرات جوهرية، ومن ذلك - على سبيل المثال - أن الفنان القديم كان يفاوت بين قامات الناس، بحسب تفاوتهم في مكاناتهم الاجتماعية، فلا يرسم الملوك في أحجام أفراد الناس من العامة، ومع سير التاريخ، أخذ الفنان يقارب بين هذه القامات شيئا فشيئا، حتى جاء عصرنا ومعه المساواة الاجتماعية شبه الكاملة، فأزال الفنان كل ضروب التفاوت التي روعيت في العصور الماضية، ومعنى ذلك هو أن يكون في حياة الفن «تقدم»، يوازي التقدم الذي نراه في أي مجال آخر من مجالات النشاط الإنساني.
تلك كانت هي الفكرة الطريفة التي وقفت عندها، وتقاطرت الذكريات كما شاءت أن تتقاطر، لا كما شئت لها، فكان مما ورد على خاطري، ذكريات عزيزة من مرحلة طويلة في حياتي، كنت خلالها أوثق صلة بالفن، وما ينتج في ميدانه هنا في مصر، وهي مرحلة سعدت فيها بصحبة موحية لصديقين كريمين، من أئمة الحياة الفنية في دنيانا الثقافية، وهما صلاح طاهر، وحامد سعيد، وما إن جاءتني هذه الذكرى، حتى قفزت لأقف عند لوحات أقتنيها من فن صلاح طاهر، ولأجمع شيئا عندي مما رسمه أو كتبه حامد سعيد.
فمن لوحات صلاح طاهر التي أقتنيها، صور لمجموعات بشرية، لعلها تمثل مرحلة من أخصب وأمجد ما أنتجه هذا الفنان؟ ولولا الفكرة التي تزودت بها من المؤلفة التي أشرت إليها ، لما تنبهت بكل هذه القوة التي تنبهت بها إلى قامات لأشخاص في هذه المجموعات البشرية، التي صورها صلاح طاهر أشكالا أشكالا وألوانا ألوانا، وإذا هي في الحق ناطقة بهذا المعنى، بل بأكثر منه، فالقامات فيها متجانسة تنعدم بينها ضروب التفاوت، حين يكون للتفاوت مغزاه السياسي أو الاجتماعي، ثم هي أيضا متجانسة في شيء آخر، وهو أنها جميعا في الخفاء سواء، فترى مجموعة النسوة قد تلفعن بملاءات سوداء، أو ترى مجموعة الرجال قد لفوا أنفسهم بأثواب بيضاء، وبذلك تقف أمام اللوحة، فلا ترى إلا تكوينا قوامه أشخاص، تعاونوا معا على تكامل التكوين، دون أن يتبين من أحدهم ما يميزه ممن عداه.
فهل نقول - على ضوء ما قرأته عند تلك المؤلفة - إن الفنان هنا قد جسد القيم السياسية والاجتماعية في الحياة المصرية الجديدة، والتي من أهمها أن تزول الفوارق الفردية، ليبقى المجموع المتعاون على إنتاج متكامل، وحتى إذا لم تكن هذه الفكرة قد تحققت في حياتنا تحققا كاملا، أفلا نقول هنا إن الفنان قد سبق برؤيته الفنية، ما لا بد أن يصل إليه المجتمع ذات يوم، ما دام سائرا على الطريق الذي بدأه؟
अज्ञात पृष्ठ