यह युग और उसकी संस्कृति
هذا العصر وثقافته
शैलियों
فأسرع المتحدث بالجواب: إنهم لا يكفون عن المطالبة بإعادة تشكيل الحياة؛ ليسايروا ركب الحضارة الجديدة، فكيف يتحقق لهم شيء من ذلك، إذا لم يكن المبدأ هو التسامي بدوافع الطبيعة البشرية، حتى لو كان الرياء جزءا من الطبيعة، التي فطر عليها الإنسان؟ وماذا تكون الحضارة في أي صورة من صورها، إذا لم تكن إلجاما لغرائز الطبع؛ لنتجه بها حيث نريد لها أن تتجه؟ إن الرياء في حياة الفكر والأدب شر من المرض، المرض لا يرائي صاحبه ولا يجامل، ولو فعل لأودى بصاحبه إلى موت سريع، إنه يظهر نفسه في صدق صريح، فيراه الرائي صفرة على الوجه، أو رعشة في الأطراف، أو غير ذلك من الصور التي يتبدى بها المرض لأصحابه، أما هؤلاء الناس في حياتهم الثقافية، فينطقون بما تقتضيه الظروف، لا بما يمليه الحق في عقولهم وقلوبهم.
صمت الرجل لحظة ليلقط أنفاسه، ثم لم يلبث حتى عاد إلى الحديث: «كان ينقصهم الرأي الشجاع، الذي يوحد في الناس بين باطن وظاهر؛ فقد أفهم أن يرائي الإنسان عدوه ليخدعه، ولكني لا أفهم أن يرائي نفسه فينطق بالباطل وهو يعلم أنه باطل، نعم إنه لأمر عسير على عامة الناس، أن يوائموا بين البواطن والظواهر، لكن ماذا يبقى من المفكر، وماذا يبقى من الأديب، إذا هو لم ينقل إلى الناس صورة الحق كما رآه؟ مثل هذه الشجاعة أمر عسير لكنها هي التي تصنع المتحضر، بل هي التي تصنع العابد القانت. لقد قرأت في هذا التوافق بين باطن المرء وظاهره، كلاما جميلا لكثيرين من أسلافنا الأمجاد، أذكر لكم منهم على سبيل المثال الحكيم الترمذي، في قوله إن الحياة الطيبة لا تدرك لمجرد الرغبة فيها أو التظاهر بمظاهرها، وإنما تدرك عندما تصبح تلك الحياة نشاطا واحدا متكاملا، يحتوي الكائن البشري من جميع أركانه، فيحتويه فكرا وإرادة، ونية وعملا، فإذا تكلم متكلم، أو إذا كتب كاتب، جاءت كتابته أو جاء كلامه صورة أمينة، لما يعتقد أنه الحق.»
هنا سمعت صوتا في باطني يقول: إن هذا الرجل بحديثه، كأنما يشير إلى مفتاح وحيد، لمن أراد لنفسه كرامة الإنسان، ولم يلبث الرجل أن عاد إلى الحديث: «لم أطق صبرا على حياة أولئك الناس، وأعني حياتهم في دنيا الفكر والفن والأدب؛ فهذه هي دنياي في المقام الأول، كما قد تعلمون، لا، لم أطق صبرا على حياتهم؛ لأنها مثقلة بالرياء، ويشوبها - تبعا لذلك - تسرع في الأحكام، وتخبط في الاختيار، لقد تقدمت بي السنون يا أصدقائي، ورأيت من جوانب حياتهم الفكرية كثيرا وسمعت كثيرا، رأيت كيف يقول القائل منهم رأيا تحت ضغط الظروف، ثم ينتقل إلى الغرفة المجاورة ليتنصل منه، التقويم الثقافي عندهم قائم على «الكليشيهات» الجاهزة المحفوظة، فإذا سألتهم: من الكاتبون؟ ومن الشعراء؟ أجابوك بقوائم حفظوها عن ظهر قلب لكثرة ما رددوها؛ ولذلك كان الفالحون في حياتهم الثقافية، إنما جاءهم الفلاح حين استطاعوا بوسائل النشر، أن يدسوا أسماءهم وسط حبات المسبحة، التي تكر على الألسنة بغير تفكير، فعندئذ تراهم يحصدون، حتى ولو لم يشاركوا - إلا بأقل الجهد - في حرث الأرض وبذر البذور ورعاية الزرع لينمو ويثمر، صدقوني يا أصدقائي، فلقد تقدمت بي السنون، ورأيت من حياتهم كثيرا وسمعت كثيرا، رأيت وسمعت نقادا يقبلون ويرفضون، دون أن يقرءوا للمقبول عندهم أو المرفوض صفحة واحدة من كتاب، إنه لتكفيهم في ذلك إشاعة يسمعونها، فيزيدونها بدورهم شيوعا، الحياة الثقافية عند هؤلاء الناس - يا أصدقائي - تنطوي على زيف كثير، العبارة عندهم لا تعبر، الصورة عندهم لا تصور، النقد عندهم لا يمحص، الرفع والخفض عندهم يستندان إلى كل العوامل، إلا أن يستند إلى العمل وقيمته، وطوبى - عندهم - لمن أتقن فن السباحة في البحر المائج، والويل - عندهم - لمن وقف عند الشاطئ، يرتقب ظهور العدل في دنيا الفكر والفن والأدب، مع ظهور المهدي المنتظر، وقد طال انتظاره، إلا أنه «الشرك الأصغر»، كما قال عنه رسول الله ...»
عدت إلى داري، ولم يزل صوت الرجل يملأ مسامعي، وحاولت جهد طاقتي أن أرده عني، مستعيذا بالله من وسواس خناس، وحمدت الله أن لم تكن حياتنا نحن مثل حياتهم.
توابع وزوابع
«التوابع والزوابع» عنوان لكتاب من عيون تراثنا العربي، كتبه ابن شهيد الأندلسي، قبيل كتابة أبي العلاء لرسالة الغفران بزمن وجيز، وبين الكتابين شبه ليس هنا مكان الحديث فيه، فلقد طار الخيال بابن شهيد إلى وادي الجن، حيث رأى بين الجان في ذلك الوادي العجيب، خصومات أدبية بين المؤيدين والمعارضين، بالنسبة لكل من عرفهم عالم الأنس من كتاب وشعراء، فلكل كاتب ممن نعرفهم في حياتنا نحن، ولكل شاعر، تابع من الجن يحبه ويدافع عنه، ولقد فرق المؤلف بين أنصار الشعراء وأنصار الكتاب تفرقة لفظية، فأطلق على أحد الفريقين اسم «التوابع»، وعلى الفريق الآخر اسم «الزوابع».
وصور لنا هؤلاء الأتباع جميعا تصويرا مناسبا يتفق مع صفات الشاعر أو الكاتب الذي جاء «التابعة» أو «الزابعة» ليناصره، مثال ذلك أن يكون صاحب المتنبي فارسا على فرس بيضاء، ينظر من مقلة ملئت تيها وعجبا، وأن يكون شيطان أبي نواس مخمورا، افترش أضغاث الزهور، واتكأ على زق خمر، وأن يكون صاحب الجاحظ شيخا أصلع، جاحظ العين اليمنى، عليه قلنسوة طويلة، يكره السجع والتكلف، وهكذا.
دارت الحرب النقدية، التي ترفع شاعرا وتخفض شاعرا، وتصب الضوء على كاتب، وتخفي في الظلام كاتبا، دارت تلك الحرب النقدية - لا بين الشعراء والكتاب أنفسهم - بل دارت بين الذيول والأتباع، وها هنا تكمن الفكرة، التي أريد عرضها على القارئ، وخلاصتها أن المكاييل والموازين التي تقوم بها أقدار العاملين في دنيا الفكر والأدب - عندنا وعند غيرنا - تخطئ بمقدار ما تصيب، فقد يحدث أحيانا أن تجيء الشهرة لمن لا يستحقها، كما يحدث - بالطبع - أن يظفر بها من هو أهل لها، وعلة الخلل عندما تختل الموازين والمكاييل، هي في هؤلاء «التوابع» و«الزوابع»، الذين تضلهم الشياطين، فيطبلون لأنصارهم ويزمرون، لتكون ثمرة صياحهم مجدا لسادتهم، الذين يهللون لهم ويكبرون، وكثيرا جدا ما تؤتي شجرتهم أكلها، وأعجب عجبي هو أن هؤلاء التوابع أو الزوابع، تأخذهم حماستهم لسادتهم، لا لنفع يعود عليهم، ولا دفاعا عن فكرة يؤمنون بصوابها، بل ليؤكدوا لأنفسهم الشعور بالتبعية، كأنما يمتعهم أن يكونوا أذنابا وأتباعا، فإذا كان في الأمر رئيس ومرءوس - مثلا - تبرع المرءوس بمناصرة رئيسه، فجعل منه شاعرا أو كاتبا أو باحثا عالما، ولا عليه أن يكون للرجل نصيب من ذلك كله أو لا يكون، فليس من الحالات النادرة في حياة الناس الثقافية، أن يعلو الصيت برجل حتى يبلغ الأوج، وأن تمنحه الدولة وهو في أوجه ذاك ما يتناسب معه من أوسمة وجوائز، ثم ما هو إلا أن تمضي السنون، وتزول دواعي التأييد المفتعل، فإذا صاحبنا قد هوى من أوج إلى حضيض، والعكس صحيح كذلك، بمعنى أن ينخسف الرجل في عصره لافتقاره إلى أنصار، يدقون له الطبول وينفخون في المزامير، ثم يلمع له نجمه بعد ذلك، حين يقام للتقدير ميزان الحكم النزيه، ومن هنا أوجبت الضرورة على رجال النقد، أن يراجعوا أسس التقويم عصرا بعد عصر، حتى تثبت القيمة لمن يستحقها، ويذهب الباقون في غمرة النسيان.
إن دنيا الفكر والأدب شبيهة بدنيا البيع والشراء، فهنالك في دنيا البيع والشراء، نوعان من عوامل ارتفاع الأسعار وانخفاضها، أحدهما وهو السوق المعتادة، التي تحمل على الرفع والخفض فيها، عوامل يمكن تقديرها بضبط الحساب ودقته، والآخر هو «صالات المزاد»، ففي هذه الصالات قد تباع السلعة النفيسة بأبخس ثمن، أو تباع السلعة الخسيسة بأعلى ثمن، فالعلاقة في المزاد مبتورة - أو تكاد - بين جودة السلعة المعروضة، وثمنها الذي يرسو عليه المزاد، وكذلك الأمر في دنيا الفكر والأدب؛ فلهذه الدنيا سوق، ولها أيضا «صالة مزاد»، أما السوق فهي ما ينتهي إليه حكم الناس، على قيمة المفكر أو الأديب، بعد طول تمحيص وتحليل، على مدار الزمن، وأما «صالة المزاد»، فهي ما يح دث لرجال الفكر والأدب في عصرهم، حين تكاد تنقطع الصلة بين جودة الإنتاج وثمنه، الذي يدفع لصاحبه شهرة ومالا وأوسمة وجوائز تقدير.
وهناك مثلا يبين لك كم تفعل الأهواء فعلها في التقدير.
अज्ञात पृष्ठ