यह युग और उसकी संस्कृति
هذا العصر وثقافته
शैलियों
وفي ذلك يقول توينبي ما خلاصته أن الإنسان قوامه إرادة حرة وضمير، فبالإرادة الحرة - متروكا حبلها على الغارب - يبرطع الإنسان في شئون الدنيا، ما شاءت له قدراته، فينطلق في علومه وصناعاته وكشوفه، فهو يشق الأرض هنا، ويغوص إلى أعماق البحر هناك، ويضرب في أجواز الفضاء إلى أن يطأ بقدميه سطح القمر، ثم يجاوز القمر إلى ما هو أبعد منه في متاهات الكون الفسيح، لكن الإنسان في اندفاعاته الجبارة بقوة الإرادة الحرة، قد يصيب وقد يخطئ، فإذا كان الخطأ خطيئة، ولم تجد في دنياه ما يعاقب عليها، وثب إليه ضميره، يذكره بما سوف يلقاه من جزاء يوم الحساب.
إن الإنسان من جمهور الناس، يتأرجح بين نموذجين تمثلا - كما قال توينبي - في القديس فرنسيس وأبيه، فأما القديس فقد جسد في شخصه زهد الصوفي، الذي ينشد الصفاء والنقاء ، وأما أبوه فقد كان تاجرا محموما بالرغبة في كسب المال ومتعة الأرض، ففي أبيه انفردت الإرادة، وفي ابنه القديس غلب الضمير، والإنسان العادي من سواد الناس متأرجح بين الطرفين.
ولو سمحت لشخصي الضئيل أن يعبر لنفسه عن رأي يخالف به - بعض الشيء - موقفا لتوينبي، قلت: إن فيلسوف التاريخ توينبي، كأنما أراد إحياء للدين على حساب التقدم العلمي، وكأنه يرى أن ذلك الإحياء الديني، لا يتسق مع أن يترك العلم في تقدمه السريع، وهو في هذا المقام يذكر قراءه، بأن العلم ليس هو ذلك الطاغية، الذي لا سبيل إلى تقليم أظافره؛ لنتيح الفرصة لغيره فيعتلي الذروة مكانه - «وغير العلم» الذي يشير إليه هنا هما الدين والفن - فيكفي أن نوجه أصحاب النبوغ العبقري نحو الدين ونحو الفن، لتنصرف تلك القدرات العليا عن ميدان العلم، يكفي ذلك لترى المكانة بعد قليل من سنين، قد عادت إلى الدين وإلى الفن، كما كانت لهما طوال القرون، وإني لأتساءل في تواضع شديد: لماذا لانترك أصحاب العبقرية النابغة، في وجهتهم نحو ميدان العلم، كما هي الحال الآن، مع إضافة الروح الدينية والفنية؛ ليحيا الإنسان بجناحين، كما أراد له الله تعالى أن يحيا! فليس الأمر هو إما هذا وإما ذاك، بل الأمر هو الجمع بين هذا وذاك، في كيان إنساني واحد.
ولكن قل ما شئت في شأن هذا الكتاب الأخير لتوينبي، الذي جاء وكأنه صيحة، يوجهها الرجل من قبره إلى إنسان العصر، قل ما شئت، فالكتاب للرجل هو مسك الختام.
إنسان من حروف
ترى ما الذي أسدل الستار - في أوروبا - على عصورها الوسطى، ثم كشف لها الطريق إلى عصرها الحديث؟ كيف جاءتها النذور، فاتحة أعينها على عوامل الركود والجمود، لتزيحها وتنطلق إلى حضارة جديدة، هي الحضارة التي يعيش العالم كله اليوم في خيراتها؟ ذلك سؤال نسأله لعلنا نقع على جواب، ينفع الأمة العربية، وهي تتأهب لتستقبل العصر الجديد؟ ما هي أقوى المصابيح التي توجهت بضيائها في أوروبا، ساعة انتقالها من حياة إلى حياة؟ فلعلنا لو عرفناها أضأنا مثلها ، لتنزاح الظلمة عن الطريق.
إنها قلة قليلة جدا من الكتب، بين ملايينها التي تراها، أو تسمع عنها: مخزونة في مكتبات العالم، هي التي صنعت للإنسانية تاريخها الفكري، ومن تلك القلة القليلة كانت قصة دون كيخوته للأديب الإسباني سيرفانتيس (ترجمها إلى العربية الدكتور عبد الرحمن بدوي)، ولست أشك في أن القصة معروفة ومألوفة، فمن ذا الذي يسمع بهذا الفارس الأسطوري - دون كيخوته - الذي ملأته الأوهام، حتى لقد امتشق حسامه، وادرع بدرعه، وراح يقاتل طواحين الهواء، ويهاجم قطعان الغنم، حاسبا إياها قلاعا وجيوشا! لكن الذي أشك في أن يكون معروفا مألوفا - اللهم إلا عند القلة القارئة - هو ما علق به النقاد، وشرح به الشراح، تلك الآية الأدبية الكبرى. فلا نهاية لما يقوله أولئك وهؤلاء، في استخراج المغزى الكامن في غضون القصة. ولقد كان من أهم ما قيل عنها، استخراجا لمغزاها، أنها كانت الحد الفاصل بين عصر أوروبا الوسيط - بأضوائه وظلماته معا - وعصرها الحديث، فكيف كان ذلك؟
المحور الأساسي في القصة - أو على الأقل هذا هو الجانب الذي يهمنا منها في هذا المقال - هو أن دون كيخوته قرأ قراءة مستفيضة عن حياة الفرسان كما كانت في العصور الوسطى، وتشبع بما قرأ حتى اعتزم أن يحيا فارسا على منهاجهم. فلو كان دون كيخوته يعيش في قلب العصور الوسطى، مع سائر الفرسان عندئذ، وسلك كما سلكوا؛ لما كانت هناك مفارقة تلفت النظر، لكن تلك العصور كانت قد جاوزت نهارها، وانحدرت إلى غروبها، فإذا ما أراد إنسان، ساعة الغروب، أن يرد الزمن إلى ساعة الظهيرة التي انقضت وانقضى أوانها، كان ذلك هو العبث بعينه؛ لأنه يحاول المستحيل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نقول، إنه لو كان دون كيخوته، قد قرأ عن حياة الفرسان ما قرأ، ثم وقف عند حد القراءة وحدها؛ لعددناه مثقفا استوعب التاريخ من إحدى زواياه، ولكنه قرأ، ثم صمم على تنفيذ ما قرأه في حياته الحقيقية، بأن يعيد حياة الفرسان في شخصه؛ فكان هذا الجانب منه هو الذي نقله في أعين الناس من كونه مثقفا، إلى كونه مهزلة تثير السخرية.
فعندما صور سيرفانتيس هذه الشخصية - شخصية دون كيخوته - كان بمثابة من يقدم للناس صورة رجل، يجسد عهدا مضى، فمن أراد أن يعيده كما كان، بكل قواعده وأصوله، كان بذلك أعجوبة تدعو إلى الضحك، حتى ولو مازج هذا الضحك، شيء من العطف على ذلك المسكين، الذي لم يستطع أن يفرق بين الممكن والمحال، فقد ملأ رأسه بالصور المقروءة في الكتب، ثم خرج ليحياها، فإذا الواقع من حوله، قد تغيرت معالمه عما قرأ، فبدل أن يعدل من الصورة المقروءة؛ ليجعلها تساير الواقع، حاول العكس؛ وهو أن يغير من الواقع ليجعله مسايرا للمقروء في الكتب، ومن هنا جاءت غفلته.
إن المراحل التاريخية التي ينعم الناس فيها، بالاستقرار وسكينة النفس وراحة البال، هي تلك التي يحدث فيها توافق بين المكتوب من جهة، والواقع الذي يعيشونه من جهة أخرى، لكن المراحل المطمئنة بهذا التوافق، لا تمتد إلى آخر الدهر، بل لا بد أن تتغير ظروف الواقع المعيش شيئا فشيئا، فتحدث بالتالي فجوة بين الوارد في الكتب والأمر الواقع، وتأخذ الفجوة في الاتساع، حتى تصل إلى درجة، يستحيل معها أن يطمئن للناس عيش، ويصبح حتما أحد أمرين: إما أن نعدل من المكتوب، بمكتوب جديد يلائم الواقع الجديد - وتلك هي سنة التقدم - وإما أن نحاول إرجاع الواقع الجديد إلى الوراء، ليعود إلى ملاءمته القديمة مع ما هو مسطور في الكتب، وهي محاولة إذا نجحت كان نجاحها، هو نفسه موت الأمة التي نجحت فيها.
अज्ञात पृष्ठ