حدث ما هو عجيب بين العرب (!) عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقد قطعت رءوس بعضهم، فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم (!) وبقرت بطون بعضهم، فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رءوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا ...
شكل 8-3: منظر القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وروى ذلك الكاهن الحليم خبر ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر، فعرض الوصف اللطيف الآتي:
لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها ، فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة .
ولم يكتف الفرسان الصليبيون الأتقياء بذلك، فعقدوا مؤتمرا أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس، من المسلمين واليهود وخوارج النصارى، الذين كان عددهم نحو ستين ألفا فأفنوهم على بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولدا ولا شيخا.
وأراد الصليبيون أن يستريحوا من عناء تذبيح أهل القدس قاطبة، فانهمكوا في كل ما يستقذره الإنسان من ضروب السكر والعربدة، واغتاظ مؤرخو النصارى أنفسهم من سلوك حماة النصرانية مع اتصاف هؤلاء المؤرخين بروح الإغضاء والتساهل، فنعتهم برنارد الخازن بالمجانين، وشبههم بودان الذي كان رئيس أساقفة دول، بالفروس التي تتمرغ في الأقذار.
شكل 8-4: الحرم الشريف في القدس، وفيه ترى ساحة جامع عمر في الوقت الحاضر وساحة هيكل سليمان فيما مضى (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وهاج العالم الإسلامي من استيلاء الصليبيين على القدس كما هاج العالم النصراني، ولاح، لوقت قصير، تضعضع نفوذ أتباع النبي الذي تأصل منذ خمسة قرون، وتناسى المسلمون جميع عوامل الانقسام الذي كان يفت في عضدهم مع ما أحدثه ذلك الاستيلاء من الذعر الكبير فيهم، وأغضى سلطان القاهرة عن منافسته لخليفة بغداد فتبادلا السفراء للبحث في عمل ما يجب لتلافي تلك المصيبة.
أجل، لقد خسر النصارى مليون رجل، وخرب بعض أوربة في سبيل فتح القدس، وكان النصارى يرجون أن يحتفظوا بثمرة هذا الفتح العزيز، غير أن أملهم خاب، فلم يلبث المسلمون أن استردوا القدس، وعادت القدس إلى حظيرة الإسلام إلى الأبد.
واختير غودفروا ملكا على القدس لشجاعته التي أقام الدليل عليها، ولكن الشجاعة لا تكفي لتنظيم دولة، فقد كان غودفروا عاجزا عن إدارة شؤون دولته الفتية مع شدة بأسه، ثم مات غودفروا بعد زمن قليل، ولم يكن خليفته بودوان أقدر منه على تدبير أمور الحكم.
अज्ञात पृष्ठ