مع هذا الانتشار الغريب العجيب، بقيت أركان الإسلام الخمسة ثابتة لم تتغير وإن كانت الفرق قد تعددت والأهواء تنوعت، ولكن هذه الفرق كانت تظهر ثم تضمحل، أو يقول بها نفر قليل، ولكن الإسلامية بقيت في مشارق الأرض ومغاربها تقول برأي الصدر الأول على وجه العموم، نعم إن الملة حدث فيها انقسام كبير، امتازت به الأقطار الشرقية، وأعني بها التي شرقي بلاد العرب، وهي فارس والهند، فظهرت فيها الشيعة خصوصا في أرض فارس، ففصلت الوحدة الدينية العامة إلى حد محدود؛ وذلك لأن رد الفعل من السنن التي جبل الله عليها هذا الكون، ولولا هذا الاختلاف لقلنا إن الجوهر الديني لا يزال واحدا منذ ظهور الإسلام إلى الآن.
أما الوحدة الأدبية فعلى عكس ذلك؛ بمعنى أنها كادت تبلغ الكمال في أيام الأمويين وفي صدر الدولة العباسية؛ إذ كان لسان العلم والأدب هو اللغة العربية، وكانت اللغات الأخرى مهملة، وأصبحت عقيمة تجاه تيار العربية الغالب؛ فدون المسلمون العلوم والآداب كلها بلسان العرب.
قام النبي العربي بالتوحيد في السياسة، وفي الدين، وفي اللغة، فبذل همته في توحيد بلاد العرب من الوجهة السياسية، وتوصل إلى شيء كثير من تحقيق هذا المطلب قبل أن ينتقل إلى الدار الأخرى، فجعل العرب أمة واحدة بعد أن كانوا أشتاتا بعضهم لبعض عدو، وهي المزية الكبرى التي لم تبلغها هذه البلاد منذ الخليقة، مزية لا يسع المنصف إلا أن يقف أمامها في موقف الإعجاب والإكبار؛ إذ ترتب عليها ظهور العرب ذلك الظهور، وقيامهم بتلك الحركة العجيبة الخصبة التي أعقبتها حضارة الإسلام.
إن كانت هذه المزية مما لا يذكر له مثال سابق في التاريخ، فهنالك مزية أكبر وأفخم، وأعني بها مجيء محمد - عليه الصلاة والسلام - بالقرآن، نترك الكلام على هذا الكتاب المقدس من الوجهة الدينية، وننظر إليها من الحيثية البشرية، فلقد أجمع أهل الرأي من أفاضل الإفرنج - وإن كنا في غنى عن هذه الشهادة - بأن القرآن هو الأساس الأول الذي أقيمت عليه معالم الحضارة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، هذا هو القرآن الذي أصبح بعد انتشار الإسلام إماما للأمم الكثيرة المتنوعة التي سردنا أسماءها، بحيث دعتهم الحاجة إلى حفظه وتفهمه أن يضعوا قواعد النحو وأن يدونوا علم اللغة؛ ولذلك اجتهد السلف من هذه الأمة في جمع أشعار العرب القديمة والمعاصرين له لمعرفة مفرداته وغريبه.
لأجل حفظ القرآن وكتابته طلب النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى من لا يستطيع أن يفدي نفسه بالمال من أسارى بدر أن يفتدي نفسه بتعليم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة.
لأجل فهم قواعد الدين من القرآن وضع المسلمون علم العقائد، ثم علم الكلام.
لأجل استخراج الأحكام من القرآن وضعوا علم الفقه.
لأجل معرفة الحوادث المنصوص عليها في القرآن عنوا بعلم التاريخ.
अज्ञात पृष्ठ