شكر وتقدير
تمهيد
1 - هابرماس والنظرية النقدية عند مدرسة فرانكفورت
2 - نهج هابرماس الجديد نحو النظرية الاجتماعية
3 - برنامج المعنى البراجماتي
4 - برنامج النظرية الاجتماعية
5 - نظرية الحداثة لدى هابرماس
6 - أخلاقيات الخطاب (1): نظرية الخطاب الخلقي
7 - أخلاقيات الخطاب (2): الخطاب الأخلاقي والتحول السياسي
8 - السياسة والديمقراطية والقانون
9 - ألمانيا وأوروبا ومواطنة ما بعد القومية
ملحق: موجز لبرامج هابرماس البحثية الخمسة
المراجع المقتبس منها
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
تمهيد
1 - هابرماس والنظرية النقدية عند مدرسة فرانكفورت
2 - نهج هابرماس الجديد نحو النظرية الاجتماعية
3 - برنامج المعنى البراجماتي
4 - برنامج النظرية الاجتماعية
5 - نظرية الحداثة لدى هابرماس
6 - أخلاقيات الخطاب (1): نظرية الخطاب الخلقي
7 - أخلاقيات الخطاب (2): الخطاب الأخلاقي والتحول السياسي
8 - السياسة والديمقراطية والقانون
9 - ألمانيا وأوروبا ومواطنة ما بعد القومية
ملحق: موجز لبرامج هابرماس البحثية الخمسة
المراجع المقتبس منها
قراءات إضافية
مصادر الصور
يورجن هابرماس
يورجن هابرماس
مقدمة قصيرة
جدا
تأليف
جيمس جوردن فينليسون
ترجمة
أحمد محمد الروبي
مراجعة
ضياء وراد
شكر وتقدير
إنني ممتن لزملائي جميعا بقسم الفلسفة، جامعة يورك، وأقدر جدا مناقشة أفكاري مع ماري ماكجين وستيفن إيفرسون. وجدت في توم بولدوين جل ما كنت أتمناه في زميل ورئيس قسم، واستفدت كثيرا من صداقته وتشجيعه ومعرفته الموسوعية بالفلسفة. كان كريستيان بيلر، فوق كل شيء، صديقا صدوقا ورفيقا لي بالقسم نفسه، وشريكا في الحوار جعلته يحيط بمعلومات عن هابرماس تتجاوز توقعاته. ولقد جعلتني أسئلته الثاقبة أمعن التفكير دوما بقدر أكبر من العمق والوضوح من ذي قبل. في عام 2003، أسعدني الحظ؛ إذ سنحت لي فرصة تدريس أخلاقيات الخطاب عند هابرماس لمجموعة من الطلاب النابغين بجامعة يورك. ولقد استقيت أفكارا من إسهامات روبن هاولز وألكساندر بيري. وإنني أدين بالفضل أيضا إلى مات براون وجوليانا سوكولوفا وسونيا شنورينج، وجون-ديفيد رودز، وتشارلي بيرنز، وويليام أوثويت؛ الذين طالعوا مسودات الكتاب أو علقوا عليها أو فعلوا الأمرين معا. وكذلك أدين بالفضل إلى مارشا فيليون، المحررة المسئولة بدار نشر جامعة أكسفورد، وأليسون ليسوينج، وبيتر بوتشر من مؤسسة ريفاينكاتش؛ الذين ساعدوني على تنظيم أوراقي وأفكاري المبعثرة. وأود أن أتقدم بخالص الشكر تحديدا إلى دكتور تينج-مينج لي وكوني ديبياسيو؛ اللذين تعهداني بالرعاية بوسائل شتى وعاملاني بسخاء ورفق على مدار السنوات القليلة الماضية. وأخيرا، فإن أبوي كاثرين وجون فينليسون، وجوليانا يستحقون شكرا وتقديرا خاصا على ما قدموه إلي من حب ودعم وألفة عولت عليها في الأوقات العصيبة التي مررت بها.
تمهيد
من هو يورجن هابرماس؟
يورجن هابرماس واحد من أهم المنظرين الاجتماعيين وأوسعهم انتشارا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكتاباته النظرية مؤثرة في مناح عدة من الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. ولا شك أن جميع دارسي علم الاجتماع والفلسفة والسياسة ونظرية القانون والدراسات الثقافية واللغة الإنجليزية واللغة الألمانية والدراسات الأوروبية؛ سيصادفون اسمه في وقت ما. وثمة أسباب عدة للأثر الواسع لأعماله. بداية يعد هابرماس منظرا متعدد التخصصات؛ فنطاق إحالاته هائل. وهو النقيض التام لما أطلق عليه عالم الاجتماع ماكس فيبر (1846-1920) «متخصصا بلا روح»؛ أي الأكاديمي الذي لا يتخطى أبدا التخصص الضيق لخبرته الخاصة. ونظرا لأن أعماله تتجاوز الحدود التخصصية التي يعمل في إطارها أغلب الأكاديميين والدارسين، فإن أغلب قرائه لم يصادفوا سوى جانب واحد وحسب من أعماله. علاوة على ذلك، عكف هابرماس على الكتابة منذ نحو 50 سنة، وله إنتاج فكري ضخم. وإضافة إلى شهرته كمنظر اجتماعي وسياسي، فهو واحد من أبرز المفكرين في الشأن العام في أوروبا حاليا. فهو عميد اليسار الديمقراطي في ألمانيا ومصدر إلهامه، ويبادر، اتساقا مع مبادئ فلسفته، بالتصريح بآرائه النقدية الغزيرة - كمواطن لا كأكاديمي - في الشأنين العامين الألماني والأوروبي حول أمور لها أهمية ثقافية وأخلاقية وسياسية عامة.
شكل 1: يورجن هابرماس.
ولأن الكتاب مقدمة قصيرة، فقد عرضت أقل القليل من المعلومات عن حياة هابرماس. وليس السبب في ذلك أن حياته غير مثيرة للاهتمام، على الرغم من أن حياة الأكاديميين نادرا ما يتأتى عنها سيرة حياتية مؤثرة ومثيرة للاهتمام. السبب أني أعتقد أن الأعمال أهم من الرجل. (مع ذلك، لن أذهب مذهب مارتن هايدجر الذي حين كتب عن الفيلسوف أرسطو، لم يذكر عن حياته سوى أنه «ولد في وقت كذا، وعمل ووافته المنية».) تأثرت أعمال هابرماس بالأحداث التاريخية الجسام التي عاشها وكانت محركة لها، لا سيما نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وانبعاث جمهورية ألمانيا الاتحادية من أطلالها الاقتصادية والاجتماعية، والحرب الباردة، والاحتجاجات الطلابية عام 1968، وسقوط جدار برلين عام 1989، ونهاية الاتحاد السوفييتي.
ولد هابرماس بمدينة دوسلدورف عام 1929، وترعرع في كنف أسرة ألمانية من الطبقة المتوسطة تأقلمت مع النظام النازي دون انتقاد ودون تأييده تأييدا فاعلا. تبلورت آراؤه السياسية الخاصة للمرة الأولى عام 1945 عندما كان في السادسة عشرة من عمره. قرب نهاية الحرب، شأنه شأن أغلب المراهقين الألمان الأصحاء من عمره، انضم إلى حركة شباب هتلر. وبعد الحرب، عندما شاهد الأفلام التسجيلية عن محرقة اليهود وتتبع وقائع محاكمات نورمبرج، تفتحت عيناه على الحقيقة المروعة لمعسكر اعتقال أوشفيتس، والمدى الكامل للكارثة الأخلاقية الجمعية للحقبة النازية.
درس هابرماس الفلسفة في شبابه في جوتنجن وزيوريخ وبون. ولم يكن راديكاليا. في الفترة بين عامي 1949 و1953، انغمس في دراسة أعمال مارتن هايدجر. ولكن سرعان ما نفض عنه أفكاره؛ ليس بسبب عضويته في الحزب النازي ومناصرته للنازيين على الملأ بقدر ما كان بسبب تملصه من الحقيقة لاحقا ورفضه الاعتذار عن أفعاله، والإقرار بها، وتجاوزها. في عام 1949، تأسست الحكومة الأولى لجمهورية ألمانيا الاتحادية بقيادة كونراد أديناور المحافظ. وكانت علاقة هابرماس بهايدجر في شبابه - تلك العلاقة التي بدأت بحماس مفعم بالأمل وسرعان ما تحولت إلى شعور بخيبة الأمل والخيانة - دالة على طبيعة علاقته بنظام أديناور بأسره؛ فقد مثلت، في رأيه، رفضا جمعيا ومدروسا للإقرار بالماضي والانفصال عنه.
شكل 2: مارتن هايدجر؛ انشغل هابرماس عندما كان طالبا بأعمال هايدجر. ولاحقا انهال نقدا على صمته حيال عضويته في الحزب النازي.
في عام 1954، حصل هابرماس على درجة دكتوراه بأطروحة عن الفيلسوف الألماني المثالي فريدريش شيلينج. والتفت بعد ذلك إلى أعمال هربرت ماركوزه والأعمال المبكرة لكارل ماركس، وبعدها بعامين أمسى أول مساعد أبحاث للفيلسوف تيودور في أدورنو بمعهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت. تأثر هابرماس بخبرة أساتذته في فرانكفورت، تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، وكلاهما من أصول يهودية ألمانية ، وكلاهما حمل شعورا متناقضا - ولأسباب مفهومة - بالانتماء للتراث الألماني. ومنهما تعلم هابرماس كيف يتفهم تقاليده الألمانية الخاصة من مسافة نقدية، الأمر الذي أتاح له على حد قوله «مواصلة اتباعها بروح ناقدة للذات، ومع شك وبصيرة الرجل الذي خدع فعلا ذات مرة» (الاستقلال والتضامن، لقاءات مع يورجن هابرماس). خلال هذه الفترة، أضحت أعمال هابرماس أكثر راديكالية وأكثر تعاطفا مع ماركس. لم يرق ذلك لهوركهايمر، مدير المعهد، الذي ضاق ذرعا بآراء هابرماس الماركسية الصريحة وخطط لرحيله عن المعهد. عام 1958، غادر هابرماس فرانكفورت قاصدا جامعة ماربورغ؛ حيث حصل على شهادة التأهيل للأستاذية عام 1961. وبعدها أصبح أستاذا للفلسفة في هايدلبرج، وفي 1964 عاد ليشغل منصب أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة فرانكفورت. وخلال هذه الفترة التي اتسمت بالاضطراب السياسي، اختلف هابرماس مع الطلاب الراديكاليين، الذين كان يتحدث معهم عموما حديثا مؤيدا، عندما أطلق - على نحو مثير للاستفزاز - وصف «الفاشية اليسارية» على سياستهم المتمثلة في المواجهة الصريحة مع أشكال السلطات كافة. وخلال الفترة من عام 1971 وحتى 1983، شغل هابرماس منصب مدير معهد ماكس بلانك في شتارنبيرج. وفي 1983، عاد إلى تدريس الفلسفة بجامعة فرانكفورت؛ حيث اكتسب سمعته كمنظر اجتماعي رائد وصوت جدير بالاحترام لليسار الديمقراطي في ألمانيا الغربية.
شكل 3: كونراد أديناور، المستشار الأول لجمهورية ألمانيا الاتحادية.
في نوفمبر 1989، سقط جدار برلين، وإثر سقوطه رأى هابرماس رأي العين اتحاد ألمانيا. وكان واحدا ممن وجهوا انتقادا شديدا للطريقة التي كانت تجري بها عملية التوحيد. ففي أوائل التسعينيات، كان اهتمام هابرماس بأعمال الفيلسوف السياسي الأمريكي جون رولز يتزايد يوما بعد يوم، لا سيما فيما يختص بمفهوم الليبرالية عنده، وكذا بفكرة الديمقراطية الدستورية الأمريكية. وعادة ما يرسم ناقدو هابرماس اليساريون صورة كاريكاتيرية لسيرته المهنية التي بدأها ناقدا ماركسيا للرأسمالية، واختتمها مناصرا للديمقراطية الأمريكية الليبرالية. وهذا التصور الكاريكاتيري، مع أنه منطقي ظاهريا، مغال في التبسيط ويستند إلى عجز عن فهم تعقيدات إخلاصه لقضايا سياسية وفكرية. فقد كان هابرماس ناقدا لماركس بقدر ما كان ناقدا ماركسيا، وطالما كانت له تحفظات حيال الرأسمالية والليبرالية. ومع ذلك ، فهو يعتبر تبني ألمانيا الغربية الناجح لتقاليد الديمقراطية الغربية أعظم إنجازاتها الثقافية، حتى ولو كان يقيم هذه التقاليد على نحو سلبي - كوسيلة «للفكاك من الصلات الخاطئة الممتدة» لثقافته السياسية الشخصية - أكثر منه إيجابيا. ولهذا السبب تحديدا، غالى عالم الاجتماع الألماني رالف داهرندوف مغالاة شديدة، لدرجة أنه وصفه، بطريقة لا تخلو من السخرية، ب «الحفيد الحقيقي لأديناور» (جمهورية برلين: كتابات حول ألمانيا). في خضم كل هذا التعقيد، ورغم التغيرات الكبيرة في المناخ الفكري والسياسي للخمسين عاما الماضية، هناك تواصل مدهش في الرؤية الفكرية والسياسية عند هابرماس.
لقد قمت برسم الخطوط العريضة للدافع السيكولوجي والأصول البيوجرافية لعلاقة هابرماس المتناقضة بألمانيا وتحفظاته المستمرة حيال فكرة القومية. ولكن، ينبغي أن يتفادى المرء إغواء شخصنة هذه الجوانب من عمله. فمن السهل نسيان أن التعقيدات والتوترات المتأصلة لتاريخ ألمانيا وسياستها حديثا لا تزال موجودة وحقيقية. ويتجلى ذلك لعامة زائري القبة الزجاجية للبرلمان الألماني المشهور باسم «رايشتاج» في برلين؛ حيث يستطيع المرء أن يتطلع بالخارج إلى بوابة براندنبرج والنصب التذكاري الجديد لمحرقة اليهود، وكذلك يرى مباشرة قاعة البرلمان بالأسفل.
لا توجد نظرية اجتماعية وسياسية تحوي هذه التعقيدات والتوترات بسلاسة وانسجام وتستغلها استغلالا سليما كنظرية هابرماس. وهذه التعقيدات والتوترات تشكل الأساس لمذهب الكوزموبوليتانية الخاص به، ودعمه للاتحاد الأوروبي، وريبته في القومية ودفاعه عن الوطنية الدستورية، ومذهبه للعمومية الأخلاقية. إن فلسفة هابرماس ألمانية خالصة، وليست محدودة بأي شكل من الأشكال.
شكل 4: النصب التذكاري لمحرقة اليهود ببرلين، وتظهر بوابة براندنبرج والقبة الزجاجية الجديدة للرايخستاج في الخلفية.
تقاعد هابرماس من منصبه في فرانكفورت منذ عام 1994، وهو يعيش ويؤلف كتاباته في شتارنبيرج، ويدرس بدوام جزئي في الولايات المتحدة الأمريكية. وما زال اسمه يظهر في الصحف بانتظام، ولا يزال معلقا نشطا على الأحداث السياسية والثقافية كعادته. ومؤخرا، تناول هابرماس بالكتابة موضوعات متنوعة جدا؛ كالأخلاقيات البيولوجية، وتكنولوجيا الجينات، والعراق، والإرهاب، والكوزموبوليتانية، والسياسة الخارجية الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر.
القسم الأكبر من هذا الكتاب مخصص لمناقشة نظرية هابرماس الناضجة، وتحديدا الأعمال التي ظهرت ما بين عام 1980 والوقت الراهن. ولقد قمت بتكريس مساحة أقل لكتاباته السياسية العارضة. ولا يحوي الكتاب حكما ضمنيا على الأهمية النسبية لحياة هابرماس كمفكر في الشأن العام وسيرته المهنية كأكاديمي؛ كل ما في الأمر أن استيعاب نظريته أصعب بكثير من استيعاب آرائه السياسية وملاحظاته الثقافية التي تستهدف العامة ويمكن أن تستقل بذاتها عن بقية أعماله.
يعتبر هابرماس - على نحو ألماني غير عصري إلى حد ما اليوم - متعهد النظريات الكبرى؛ فهو يطرح أسئلة كبرى عن طبيعة المجتمع العصري والمشكلات التي تواجهه ومكانة اللغة والخلقية والأخلاقيات والسياسة والقانون فيه. وإجاباته معقدة وواسعة النطاق؛ حيث جمعها بمنتهى الحرص والدقة من معرفته بالعديد من التخصصات المختلفة. علاوة على ذلك، أبرز أعماله مسهبة وموغلة في الجانب الفني إلى أقصى درجة. فهو لا يخاطب المبتدئين بكتاباته، ومطالعة أعماله لأول مرة يمكن أن تكون تجربة محبطة. وبينما ينصب تركيزه على الصورة الكبيرة، كثيرا ما يترك لمعاونيه وتابعيه مهمة سد الفراغات بالتفاصيل لاحقا. وأحيانا ما تسقط أجزاء من الحجة. وفي الوقت نفسه، نراه في حوار متواصل مع ناقديه، وكثيرا ما يعيد صياغة أفكاره استجابة لهم؛ حيث يدخل تعديلات طفيفة لا تكون تداعياتها دوما واضحة. ولهذه الأسباب جمعاء، من السهل على القراء - الذين يفتقرون للصورة الشاملة ولا يعرفون المحوري من الهامشي - أن يصيبهم الارتباك والحيرة. من بين الأهداف التي وضع من أجلها هذا الكتاب تقديم الصورة الأكثر شمولا، وذلك عن طريق وضع الأجزاء المختلفة لأعماله في سياق مشروعه الكلي. وتلبية لهذا الغرض، سأبدأ برسم تصور عام لكامل أعمال هابرماس الناضجة. وتنقسم هذه الأعمال إلى خمسة برامج بحثية هي كالتالي: (1)
النظرية البراجماتية للمعنى. (2)
نظرية العقلانية التواصلية. (3)
برنامج النظرية الاجتماعية. (4)
برنامج أخلاقيات الخطاب. (5)
برنامج النظرية الديمقراطية والقانونية، أو النظرية السياسية.
شكل 5: إطلالة على البرامج البحثية عند هابرماس.
كل برنامج من هذه البرامج مستقل بذاته نسبيا ويسهم في جانب منفصل من جوانب المعرفة. ولكن في الوقت نفسه، كل منها يرتبط - بشكل أو بآخر - ارتباطا نظاميا بغيره من البرامج.
تقدم النظرية البراجماتية للمعنى عند هابرماس - إضافة إلى نظرية العقلانية التواصلية - الأفكار الإرشادية لنظريته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. وتباعا، تدعم هذه البرامج البحثية الثلاثة كل منها الآخر. وأسميها برامج بحثية؛ لأن كلا منها ما زال قائما إلى الآن. وكل برنامج يجيب عن مجموعة مختلفة من الأسئلة بالمزج ما بين أفكار متعمقة من تخصصات ومعارف مختلفة. أقدم موجزا مقتضبا لكل برنامج في الملحق الموجود في نهاية الكتاب. أما في الفصول التالية، فأتناول هذه البرامج بحسب الترتيب الزمني الذي أنتجها فيه هابرماس.
الفصل الأول
هابرماس والنظرية النقدية عند مدرسة
فرانكفورت
(1) مدرسة فرانكفورت
ذاع صيت هابرماس بين المتحدثين بالإنجليزية بوصفه صاحب مؤلف «نظرية الفعل التواصلي»، والعديد من المقالات حول أخلاقيات الخطاب، ومؤلفه «بين الحقائق والمعايير»؛ وهي الأعمال التي تطورت فيها، إذا جاز التعبير، نظريته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية على الترتيب. ويعرف هابرماس أيضا باعتباره رائدا من رواد الجيل الثاني من منظري مدرسة فرانكفورت، وتفهم أعماله بأفضل ما يكون باعتبارها ثمرة الاستجابة المستمرة للنظرية النقدية للجيل الأول من منظري مدرسة فرانكفورت.
كانت «مدرسة» فرانكفورت، وهو الاسم الذي اشتهرت به، تتألف من مجموعة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعيين والناقدين الثقافيين الذين عملوا خلال الفترة السابقة واللاحقة للحرب العالمية الثانية لصالح معهد البحث الاجتماعي الممول تمويلا خاصا، ومقره فرانكفورت. عمل هؤلاء المفكرون الذين نشروا ثمرة أفكارهم في «دورية البحث الاجتماعي» التي أصدرها المعهد في سياق نموذج مشترك تقريبا؛ أي إنهم اشتركوا في الفرضيات نفسها، وطرحوا الأسئلة عينها، وتأثروا جميعا بالفلسفة الجدلية لهيجل (1770-1831) وكارل ماركس (1818-1883). ولم يكن المنهج الألماني الحديث للفلسفة الجدلية الذي عملوا تحت مظلته، وأحيانا ما كان يعرف بالماركسية-الهيجلية؛ التيار السائد مطلقا آنذاك. كانوا أقلية فكرية معارضة للمنهج الأوروبي المتمثل في الكانطية الجديدة، والمنهج الأنجلو-نمساوي المتمثل في التجريبية المنطقية. هكذا يتعين فهم الحوار الدائر بأثر رجعي عن «مدرسة فرانكفورت» ونظريتها.
شكل 1-1: ماكس هوركهايمر، مدير معهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت.
كان ماكس هوركهايمر (1895-1973) المدير الأرستقراطي للمعهد والمسئول في المقام الأول عن تطوير نموذج «النظرية النقدية» في ثلاثينيات القرن العشرين .
ويرى هوركهايمر أن النظرية النقدية يتعين أن تكون نشاطا نظريا جديدا متعدد التخصصات يكمل الفلسفة الجدلية لهيجل وماركس، ويحدث فيها تحولا بأفكار متعمقة من تخصص التحليل النفساني الجديد نسبيا وعلم الاجتماع الألماني والأنثروبولوجيا، وكذا من فلاسفة أقل شهرة مثل فريدريش نيتشه (1844-1900) وآرثر شوبنهاور (1788-1860). واتسم المنهج الناتج عن ذلك بأربع خصائص أساسية: تعدد الاختصاصات والتأمل والجدل والنقد.
لقد كانت مدرسة فرانكفورت من بين أوائل المدارس التي تتناول قضايا الخلقية والعقيدة والعلم والمنطق والعقلانية من عدة منظورات وتخصصات في آن واحد. فقد آمن القائمون عليها أن التأليف بين تخصصات ومعارف مختلفة سيثمر عن أفكار متعمقة لم يكن يتأتى الحصول عليها لو عملوا ضمن مجالات أكاديمية ضيقة الأفق ومتخصصة بشكل كبير؛ ولذا، فقد طعنوا في الفرضية المسلم بها على نطاق واسع آنذاك، والقائلة إن المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية هو المنهج الوحيد الصالح.
وعلى النقيض مما أسماه هوركهايمر «النظرية التقليدية»، التي كادت تتضمن كل شيء، بداية من الرياضيات والمنطق الصوري وحتى العلوم الطبيعية؛ كانت النظرية النقدية تأملية، أو لها وعي ذاتي متأصل فيها. فالنظرية النقدية تأملت السياق الاجتماعي الذي أدى إلى نشأتها، ووظيفتها داخل هذا المجتمع، وأغراض ممارسيها واهتمامهم، وما إلى ذلك. وتآلفت هذه التأملات داخل النظرية.
إضافة إلى تعدد جوانبها المعرفية، كان من المفترض أن تكشف الطبيعة التأملية للنظرية النقدية القناع عما اعتبره منظرو مدرسة فرانكفورت الوهم «الوضعي» الذي يشوب النظريات التقليدية (كالعلوم الطبيعية)؛ ألا وهو أن النظرية ليست سوى الانعكاس الصحيح لواقع مستقل من الحقائق.
ولقد شجعت هذه الصورة المزدوجة للمعرفة على الاعتقاد بأن الحقائق ثابتة ومسلم بها، ومحال أن تتغير، ومستقلة عن النظرية. ورفض المنظرون النقديون هذه الصورة، وفضلوا عليها مفهوما أكثر «هيجلية» وجدلية عن المعرفة يرون بحسبه أن الحقائق ونظرياتنا جزء من عملية تاريخية ديناميكية مستمرة نجد فيها أن الكيفية التي نرى بها العالم (نظريا أو خلاف ذلك) والكيفية التي عليها العالم فعليا تؤثر إحداهما في الأخرى.
وأخيرا، قال هوركهايمر إن النظرية النقدية ينبغي أن تكون «نقدية». وهذا المتطلب يحوي في طياته العديد من المزاعم الواضحة. بصفة عامة، كان هذا المتطلب يعني أن مهمة النظرية عملية، لا نظرية وحسب؛ أي إنها ينبغي ألا تستهدف وحسب تحقيق فهم قويم، بل يجب أن تخلق ظروفا اجتماعية وسياسية أكثر دعما لازدهار البشرية من الظروف الحالية. وإن شئنا قدرا أكبر من الدقة، فقد كان يعني أن النظرية لها ضربان مختلفان من الأهداف المعيارية؛ أحدهما تشخيصي، والآخر علاجي. لم يكن هدف النظرية وحسب تحديد ما «يعيب» المجتمع المعاصر حاليا، ولكن المساعدة أيضا في إحداث تحول في المجتمع إلى الأفضل عن طريق تحديد الجوانب والنزعات التصاعدية داخله.
عندما جعل المناخ السياسي للنازية من المستحيل على المنتسبين للمدرسة (حيث كان غالبيتهم يتحدرون من عائلات يهودية) مواصلة أعمالهم في فرانكفورت؛ نقل المعهد مؤقتا، أولا إلى جينيف ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث واجه القائمون عليه مباشرة ظاهرة اجتماعية جديدة عليهم؛ مجتمع استهلاكي أسير لنموذج هنري فورد للرأسمالية الصناعية والإنتاج الضخم. وأذهلهم تحديدا كيف تحولت الثقافة إلى شكل من أشكال الصناعة على يد شركات هوليوود لإنتاج الأفلام، ووسائل البث الإعلامي، ودور النشر. لقد مارست هذه الشركات الاحتكارية الضخمة أساليب استغلالية وتوجيهية ماكرة، كان لها من الأثر أن جعلت الناس يتقبلون بل وحتى يقرون بنظام اجتماعي أحبط وكبت اهتماماتهم الأساسية. على سبيل المثال، كانت النهايات السعيدة المتوقعة لأفلام الدرجة الثانية التي تنتجها هوليوود تخلق لدى الجمهور إحساسا بالرضا المصطنع. وبدلا من انتقاد الظروف الاجتماعية التي حالت دون عثورهم على السعادة الحقيقية، عكف الناس على معايشة السعادة الخيالية لأبطال أفلامهم عوضا عنهم. ولعبت الثقافة بشكل عفوي دور الإعلان عن الوضع الراهن. وأشار هوركهايمر وزميله الشاب تيودور أدورنو (1903-1969) إلى هذه الظاهرة باسم «صناعة الثقافة».
شكل 1-2: عالم الموسيقى والمنظر الاجتماعي والفيلسوف تيودور أدورنو؛ زميل هابرماس ومستشاره بمعهد البحث الاجتماعي.
ولقد شكلت صناعة الثقافة جزءا حيويا من ميل المجتمع الرأسمالي إلى خلق احتياجات الناس ورغباتهم وإحداث تحول فيها، لدرجة أنه أمست لديهم رغبة في الخبث الذي صنع لأجلهم، وانزوت لديهم الرغبة في عيش حياة مرضية ومجدية. لقد وفر تحليل هذه الظواهر أفكارا متعمقة فيما يتعلق بالطرق التي يمكن بها التلاعب بوعي الناس بواسطة الإعلانات وغيرها من الوسائل؛ من أجل خلق ما عده منظرو مدرسة فرانكفورت حالة زائفة من المصالحة. كانت المصالحة الزائفة تترتب على الاعتقاد بأن العالم الاجتماعي عقلاني ومفض إلى حرية البشر وسعادتهم ويتعذر تغييره، بينما هو في واقع الأمر يفتقر بالمرة للعقلانية ويعوق حرية البشر وسعادتهم، وهو أيضا عرضة للتغير. قبل ذلك بقرن من الزمان، وفي ظروف مختلفة نوعا ما في بروسيا، ذكر هيجل أنه تم التوصل إلى مصالحة حقيقية - أي في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية التي يستطيع أن يتقبلها العقلانيون ويقرون بها - لأنهم، بالنظر إلى جميع المتغيرات، أشبعوا أعمق رغباتهم. لقد قلبت مدرسة فرانكفورت، المتأثرة بماركس وبخبرة القائمين عليها بالقرن العشرين، تفاؤل هيجل رأسا على عقب.
عندما عاد هوركهايمر إلى فرانكفورت عام 1949، أمسى هو وأدورنو أكثر تشاؤما حيال فرص تحقيق الهدف العملي من النظرية النقدية؛ ألا وهو التحول الجذري للمجتمع. وتجذر هذا التشاؤم نظريا في التحليل الذي عرضاه في كتابهما الشهير «جدلية التنوير» (الصادر عام 1947، لكنه نشر لأول مرة عام 1944 على هيئة نسخة مطبوعة بعنوان «شذرات فلسفية»).
يمهد تحليل أدورنو وهوركهايمر لعصر التنوير الطريق للتطور اللاحق للنظرية النقدية. لقد شرعا في تحليلهما انطلاقا من الفرضية الهيجلية (التي يشاطرهما إياها ماركس) والقائلة بأن البشر يشكلون أو يحددون العالم من حولهم عبر نشاطهم العقلي والمادي، أو على حد تعبير ماركس عبر جهودهم الفكرية واليدوية. وبعدها أضافا أطروحة تاريخية مفادها أنه بحلول القرن الثامن عشر الميلادي أمست العقلانية الأداتية، أي تقدير أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق غاية أو تلبية رغبة بعينها، الشكل السائد للمعرفة. لقد منحت عملية التنوير التاريخية ميزة خاصة للأشكال العلمية الطبيعية والقابلة للاستغلال تكنولوجيا للمعرفة خلاف غيرها من الأشكال المعرفية قاطبة. وقال أدورنو وهوركهايمر إن العلوم الطبيعية، التي تطرح تعميمات وتنبؤات قابلة للاختبار عن الطبيعة الخارجية، هي شكل مستتر لاستدلال الوسائل/الغايات. من وجهة النظر الأنثروبولوجية، العلم مجرد أداة تدعم الحاجة الأساسية لدى البشر لإحكام السيطرة على بيئتهم وتسخيرها. والتكنولوجيا والصناعة امتداد لهذه الأداة وتطبيق لها.
ويزعم أدورنو وهوركهايمر أن العالم الحديث الصناعي والبيروقراطي تشكل بفعل عملية العقلنة. إن العالم الاجتماعي للقرن العشرين هو نتاج أفعال البشر الذين أصيبت ملكة تفكيرهم بالضمور حتى أصبحت مجرد حساب لأكثر السبل فاعلية لتحقيق غاية ما. لقد أفضى تشييء (التجسيد في صورة شيء) الطبيعة وحسبنتها (إضفاء الصبغة الحسابية عليها) إلى فناء وجهات النظر الأسطورية والدينية عن العالم. وفي الوقت نفسه، تنشأ المفاهيم التي يدرك بها البشر عالمهم من ظروف تاريخية واجتماعية بعينها. يرى أدورنو وهوركهايمر أن العلم والتكنولوجيا يزداد تشكيلهما للحياة المؤسسية يوما بعد يوم، وذلك بفعل العقلانية الأداتية. والأشكال الحديثة للمخالطة الاجتماعية (الأشكال المؤسسية للعقلانية الأداتية) تؤدي بدورها إلى مفاهيم وتصورات وطرق تفكير أداتية في العالم؛ إنها تخلق عقلية علمية وحذرة وفاعلة. ويتبع ذلك دائرة مفرغة تمسي فيها العقلانية الأداتية حصرية وكلية.
ثمة جانب ينذر بالشؤم في الفرضية القائلة إن العلم والعقلانية يخدمان حاجة البشر الأساسية لاستغلال الطبيعة الخارجية والتحكم فيها؛ وهو أن الهيمنة والسيطرة وثيقتا الصلة جدا بالعقلانية. والأمر لا ينحصر في العلم والتكنولوجيا وحسب، بل العقلانية نفسها تعتبر عنصرا ضمنيا في الهيمنة. بحسب هوركهايمر وأدورنو، حتى الأشكال البدائية للعقلانية، كالسحر، هي في الواقع أشكال أولية لهيمنة البشر على الطبيعة وعلى غيرهم من البشر؛ وذلك لأن السحرة يلقون بتعويذاتهم لإخضاع الطبيعة لسيطرتهم، وحيازتهم لقوى سحرية تؤدي إلى خلق طبقات اجتماعية.
من المفارقة إذن أن عملية التنوير نفسها التي كان من المفترض - بحسب المفكرين التنويريين في القرن الثامن عشر؛ مثل روسو، وفولتير، وديدرو، وكانط - أن تفك أسر الإنسان من الطبيعة وتفضي إلى حريته وازدهاره؛ أتت بنتائج عكسية. وتدريجيا، بينما أحكمت النزعتان الصناعية والرأسمالية قبضتهما في القرن التاسع عشر، تعرض البشر إلى شبكات أكثر توغلا من الانضباط والسيطرة الإداريين، وكذا إلى نظام اقتصادي لا يفتأ يقوى ويتعذر ترويضه. وبدلا من أن تفك عملية التنوير أسر الإنسان من الطبيعة، نجدها قيدت الإنسان الذي هو بدوره جزء من الطبيعة. وبدلا من الرخاء الاقتصادي، شاع الشقاء والفقر. وبدلا من التقدم الأخلاقي، حدثت انتكاسة إلى البربرية والعنف والتعصب. هذه هي «جدلية التنوير» التي استلهم منها هوركهايمر وأدورنو فهمهما لعالمهما الاجتماعي، وأثرت في تشخيصهما لعيوبه.
قوض هذا التشاؤم غير المبرر الغاية النقدية من النظرية الاجتماعية في عيني هابرماس الشاب. ولو كان تشخيصهما صحيحا، ولو كان التنوير، المفترض به أن يحقق للبشر الحرية والرخاء، منذ بدايته من المقدر له أن يجلب لهم المزيد من التقييد والشقاء؛ لوقعت النظرية الاجتماعية النقدية في أزمة؛ وذلك لأن النظرية الاجتماعية نفسها شكل من أشكال التنوير، بحسب فهم أدورنو وهوركهايمر الواسع جدا لهذا الاصطلاح؛ إنها نظرية ينبغي أن تفضي إلى فهم أوسع للعالم الاجتماعي وكذا إلى إصلاحه العملي. وفي هذه الحالة، بحسب اعتراف أدورنو وهوركهايمر في مقدمتهما ل «جدلية التنوير»، فإن التنوير ضروري ومستحيل في آن واحد؛ ضروري لأنه لولاه لاستمرت البشرية في سعيها وراء تدمير الذات والتقييد، ومستحيل لأنه لا يمكن تحقيقه إلا عبر النشاط البشري العقلاني، بينما العقلانية نفسها هي أصل المشكلة. كان هذا هو مفهوم الأبوريا الذي دفع هوركهايمر وأدورنو إلى أن يصبحا حذرين أكثر من أي وقت من الغايات السياسية الفعلية للنظرية النقدية. (أبوريا
Aporia
كلمة يونانية تعني حرفيا «لا سبيل» ومجازيا «بلبلة».) إن إيمان أدورنو بقدرات أي نظرية على توجيه التحرر الاجتماعي أو السياسي أو الأخلاقي خبت سريعا لدرجة أنه اعتبر أي تصرف سياسي جمعي سابقا لأوانه وعشوائيا وغير ذي جدوى. الفارق بين هابرماس ومعلميه أنهم حسبوا أن الأبوريا حقيقة، بينما حسب هو أنها ترتبت على زلة في تحليلهم. (2) استجابة هابرماس الأولى
يعتبر أول أعمال هابرماس الكبرى «التحولات البنيوية للفضاء العام: تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي» (1962) استجابة نقدية بناءة لمفهوم هوركهايمر وأدورنو للنظرية النقدية. ولو أن هذا العمل أشبه ب «قضية مشهورة» في ألمانيا الغربية في أوائل الستينيات، فهو لم يترجم إلى الإنجليزية حتى عام 1993. وهو محاولة لحل مشكلات النظرية النقدية للجيل الأول من مدرسة فرانكفورت؛ محاولة مخلصة في الوقت نفسه لروح النظرية الأصلية مع الحفاظ على بعض جوانب تشخيصها للآفات الاجتماعية.
يظل «التحولات البنيوية» مخلصا للنموذج الأصلي من عدة أوجه. أولا: هو متعدد التخصصات؛ حيث يمزج ما بين أفكار متعمقة من التاريخ وعلم الاجتماع والأدب والفلسفة. وثانيا: يهدف إلى تحديد الجوانب التقدمية العقلانية للمجتمع الحديث والتمييز بينها وبين الجوانب الرجعية غير العقلانية. وثالثا: يوظف هابرماس، شأنه شأن هوركهايمر وأدورنو من قبله، أسلوب «النقد المحايث». ويجوز أن يطلق عليه أيضا اسم النقد الداخلي، في مقابل النقد الخارجي. ويعتقد المنظرون النقديون أن هذا الأسلوب مستلهم من هيجل وماركس. من بعض الأوجه نراه أقرب إلى أسلوب سقراط في المحاجة؛ وهو الأسلوب الذي يتبنى صاحبه دور المحاور، تلبية لغرض النقاش، دون أن يدعمه دعما حقيقيا، من أجل بيان افتقاره للاتساق والصدق. أيا كانت أصوله، فإن غاية المنظرين النقديين نقد شيء ما - مفهوم عن المجتمع أو عمل فلسفي - في حد ذاته لا على أساس القيم أو المعايير التي تتجاوزه، بنية تسليط الضوء على زيفه.
إن «التحولات البنيوية» عمل نقدي محايث ينتسب إلى فئة «الفضاء العام» - وهي ترجمة للكلمة الألمانية
Öffentlichkeit
التي يمكن أن تعني العلانية والشفافية والانفتاح. ووفقا لهابرماس، فإن مثل التنوير التاريخي - الحرية والتضافر والمساواة - كامنة في مفهوم الفضاء العام وتوفر معيار النقد المحايث. على سبيل المثال، يمكن نقد المجتمع البرجوازي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لعدم اقتدائه بمثله الخاصة. وبالمثل، يمكن نقد المجتمع الألماني لعدم ارتقائه للمجتمع الشامل المتمتع بالمساواة والشفافية الذي بشرت به هذه المثل. ويشق «التحولات البنيوية» طريقه وصولا إلى الطموحات النظرية والعملية للنموذج الأصلي للنظرية النقدية؛ ألا وهي فهم العالم الاجتماعي، وتوجيه التغير الاجتماعي من خلال تسليط الضوء على إمكانات التغير الاجتماعي.
لكن هابرماس يقدم لنا تشخيصا تاريخيا للوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي مختلفا تماما عما يقدمه هوركهايمر وأدورنو. ورغم أنه لا ينتقدهما صراحة حتى بعد مرور ما يقرب من عقدين من الزمان؛ أي بعد رحيلهما بفترة طويلة، فإن روايتهما للعقلنة حسبما يرى هابرماس كانت أحادية الجانب ومتشائمة بشكل مبالغ فيه، ومفهومهما عن جدلية التنوير كان يفتقر إلى كل من المبرر التجريبي والتاريخي وكذا الاتساق المفاهيمي. إن أعماله نفسها تحاول إنقاذ فكرة النظرية النقدية الأصلية، وذلك بواسطة المزج ما بين تاريخ أكثر تنوعا وتبريرا للتنوير ونموذج أكثر اتساقا للنظرية الاجتماعية. (2-1) مفهوم الفضاء العام البرجوازي
يرسم «التحولات البنيوية» نشأة الجمهور المفكر من رحم جمهور الصالونات والنوادي والمقاهي المعني بالآداب في أوروبا في القرن الثامن عشر، ثم يصور تقهقره وتفسخه التدريجي. ورواية هابرماس مفصلة تفصيلا شديدا، وتكشف عن نطاق مرجعي غير تقليدي.
في بداية القرن الثامن عشر، ساعد توطيد الحقوق المدنية التي تضمن حرية التنظيم وحرية التعبير للأفراد، ونشأة الصحافة الحرة، على ظهور مساحات مادية كالمقاهي والصالونات والدوريات الأدبية، يستطيع المواطنون فيها الانخراط في نقاشات عامة حرة. لقد كانت منتديات يجتمع فيها شمل الناس طواعية، ويشاركون أندادا في حوارات عامة. وكانت هذه الساحات مستقلة من ناحيتين؛ فالمشاركة فيها كانت طوعية، فضلا عن أنها كانت تتمتع بالاستقلال النسبي عن النظامين السياسي والاقتصادي. لم يكتف المشاركون في الفضاء العام بالتعامل بعضهم مع بعض اقتصاديا عبر التبادل والتعاقد سعيا لتحقيق الربح الفردي والمصلحة الشخصية. يتكون الفضاء العام من تجمعات طوعية لمواطنين مستقلين يجمع بينهم هدف مشترك؛ ألا وهو استغلال منطقهم في نقاش غير مقيد يدور بين أنداد. وسرعان ما تطورت ثقافة مشتركة ساعدت، من بين أمور أخرى، المشاركين على اكتشاف احتياجاتهم واهتماماتهم والتعبير عنها، وصياغة تصور للمصلحة العامة. وبحسب هابرماس، تبلورت فكرة قياسية للرأي العام حول مفهوم المصلحة العامة الذي ترسخ في ساحات الخطاب العام هذه، والتي يمكن وصفها بالهشة والآمنة في الوقت نفسه.
ومع انتشار سلطة العامة وأثرهم، بدأ الرأي العام تدريجيا في لعب دور الرقيب على شرعية صلاحيات الحكومة غير الممثلة للشعب والمنغلقة على نفسها. وعن طريق التحقق مما إذا كانت القوانين والسياسات تخدم الصالح العام أم لا، يستطيع العامة اختبار شرعيتها بفاعلية. ورغم أن الفضاء العام بدأ يمارس وظيفة سياسية واجتماعية، فإنه لا يمكن الخلط بينه وبين أي مؤسسة سياسية محددة أو ربطه بها . فقد كان فضاء غير رسمي للتواصل الاجتماعي يستقر في مكان ما بين المجتمع المدني البرجوازي والدولة أو الحكومة. (2-2) الفضاء العام كفكرة وأيديولوجية
تعتبر النظرية النقدية عند هابرماس، كما هو مبين في «التحولات البنيوية»، تنويعة من النقد المحايث المعروف باسم نقد الأيديولوجية أو النقد الأيديولوجي. ولفهم فحوى هذه النظرية، يجب أولا أن ندرس فكرة الأيديولوجية. يعرف أدورنو الأيديولوجية بأنها «وهم ضروري اجتماعيا» أو «وعي زائف ضروري اجتماعيا»، ويقبل هابرماس في شبابه تعريفا شبيها بذاك التعريف. واستنادا إلى وجهة النظر هذه، فالأيديولوجيات هي الأفكار أو المعتقدات الزائفة التي يتمكن المجتمع بشكل نظامي من حث الناس على تبنيها. لكن الأيديولوجيات ليست معتقدات زائفة عادية، كاعتقادي الزائف بأن ثمة شايا في قدحي بينما يحتوي القدح على القهوة، بل هي معتقدات خاطئة يفترض صحتها على نطاق واسع؛ لأن جميع أفراد المجتمع تقريبا حملوا على الاقتناع بها بشكل ما. علاوة على ذلك، فالأيديولوجيات معتقدات زائفة فاعلة تعمل - لا سيما في ظل انتشارها على نطاق واسع - على دعم بعض المؤسسات الاجتماعية المحددة وعلاقات الهيمنة التي تؤيدها. ومن هذا المنطلق تحديدا نجد أن الأيديولوجيات «ضرورية اجتماعيا».
والأيديولوجية من هذا المنطلق يمكنها أن تلبي وظائف اجتماعية من عدة طرق مختلفة. فمن الجائز أن تشكل في الواقع مؤسسة اجتماعية من صنع الإنسان؛ ومن ثم مؤسسة قابلة للتعديل أساسا، تبدو وكأنها ثابتة وطبيعية. أو قد تشكل مؤسسة تخدم في واقع الأمر مصالح فئة محدودة من الناس تبدو وكأنها تخدم مصالح الجميع. على سبيل المثال، إذا كان الجميع يؤمنون بأن القوانين الاقتصادية توجد بشكل طبيعي ومستقل عن البشر، فأغلب الظن أن يقبل العمال الأجور الزهيدة التي يحصلون عليها لقاء كدهم بدلا من أن يروا في موقفهم إجحافا هيكليا بحاجة إلى إصلاح؛ ولذا، فإن نقد الأيديولوجية نوع من النقد المحايث الذي يفضح هذه الأوهام الضرورية اجتماعيا؛ ومن ثم يجعل، أو هكذا نأمل، موضوع النقد - وهو هنا البنية الاجتماعية المشكلة للوهم - أكثر سلاسة وقابلية للتغير.
وبحسب هابرماس، فإن مفهوم الفضاء العام فكرة وأيديولوجية في آن واحد. فالفضاء العام مساحة يشارك فيها الناس كأنداد في نقاش عقلاني طلبا للحقيقة والصالح العام. فالانفتاح والشمولية والمساواة والحرية كأفكار كانت لا تقربها الشبهات، لكنها في الواقع محض أيديولوجيات أو أوهام؛ وذلك لأن المشاركة في الفضاء العام الموجود في المقاهي والصالونات والدوريات الأدبية في أوروبا القرن الثامن عشر نظريا طالما كانت حكرا على مجموعة صغيرة من الرجال المتعلمين الأثرياء. وكان الثراء والتعليم شرطي المشاركة الضمنيين. والواقع أن السواد الأعظم من الفقراء وغير المتعلمين، وجميع النساء تقريبا، كانوا مستبعدين من الفضاء العام. ومن ثم، فإن فكرة الفضاء العام ظلت طوباوية وحسب؛ مجرد رؤية شاملة داعية للمساواة بين البشر لمجتمع جدير بأن نسعى لتحقيقه، لكنه لم يتحقق كليا قط. وظل مفهوم الفضاء العام البرجوازي أيديولوجيا بالمعنى الثاني أيضا؛ وذلك لأن فكرة المصلحة العامة أو الصالح العام، التي خلقتها الثقافة المشتركة للجمهور المولع بالأدب وسوق الحجج، طرحت ما كانت في حقيقة الأمر مصالح مجموعة محدودة من الرجال المتعلمين الأثرياء باعتبارها المصلحة العامة للبشر أجمعين.
أهم نقطة في منهج هابرماس هي إثبات أن فكرة الفضاء العام البرجوازي كانت، رغم كل ذلك، تتجاوز الوهم المحض؛ لأن هذا الفضاء كان أساسا مفتوحا؛ فكل من حصل ثروة وتعليما مستقلين، بغض النظر عن مكانته أو حالته الاجتماعية أو الطبقة التي ينتمي إليها أو جنسه، يحق له المشاركة في النقاش العام. ولم يكن هناك من يستبعد «نظريا» من المشاركة في الفضاء العام، مع أن كثيرا من الناس استبعدوا «فعليا». إن نموذج اجتماع عدد من الأشخاص المستقلين على نحو تطوعي مفتوح للجميع، يجتمعون كأنداد للمشاركة في نقاش لا يقيده قيد طلبا للحقيقة والمصلحة العامة، كان لا شك طوباويا، لكنها كانت ولا تزال يوتوبيا جديرة بالسعي إليها. ولفترة وجيزة خلال القرن الثامن عشر، لم تكتسب هذه اليوتوبيا رواجا فكريا فحسب، بل وبدأت تتحقق على أرض الواقع، بشكل عابر وجزئي، في الواقع الاجتماعي والسياسي. (2-3) انحسار الفضاء العام
يرسم الجزء الثاني من «التحولات البنيوية» تفسخ الفضاء العام وانحساره. لما شهدت الصحف والمجلات تدريجيا رواجا كبيرا على نطاق واسع، تحولت إلى شركات رأسمالية عملاقة تعمل على خدمة المصالح الخاصة لعدد قليل من أصحاب النفوذ. وتدريجيا فقد الرأي العام استقلاليته المزدوجة، علاوة على وظيفته النقدية. وبدلا من تعزيز تشكل الرأي العقلاني والمعتقدات الموثوقة، أمسى الفضاء العام في القرنين التاسع عشر والعشرين حلبة يمكن فيها توجيه الرأي العام والتلاعب به. وأمست صحف ومجلات الإعلام الجماهيري والروايات الأعلى مبيعا، إضافة إلى البث الإذاعي والتليفزيوني، عناصر استهلاكية؛ وبدلا من أن تعزز الحرية والرخاء البشري بدأت في واقع الأمر تقمعهما. ولا شك أن مؤسسات الدولة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية أصبحت أكثر براعة من ذي قبل في الفوز بتقدير الجمهور وتأييده؛ مما كفل لها غطاء من الشرعية لاحقا. ولكن هذا التأييد قوامه الآراء الخاصة لمستهلكين صاغرين غير ناقدين وتابعين اقتصاديا، لا الرأي العام السديد الذي يتشكل عبر النقاش العام المدروس.
إن هذه النظرة المتشائمة نوعا ما لتطور المجتمع الرأسمالي الغربي في القرن العشرين كانت تتسق مع جزء كبير من رواية أدورنو وهوركهايمر للطريقة التي خلقت بها صناعة الثقافة جمهورا متجانسا بشكل متزايد من المستهلكين الخانعين غير الناقدين. وتبنى هابرماس أيضا تحليل مدرسة فرانكفورت المتشائم نوعا ما، والذي مفاده أن الرأسمالية الاحتكارية وليبرالية دولة الرفاه في الولايات المتحدة الأمريكية أفضتا في نهاية المطاف إلى تضاؤل حرية الإنسان، وتفريغ السياسات الديمقراطية من مضمونها، ولم تقدما بديلا مثمرا للنظام الاجتماعي الهش لجمهورية فايمر الألمانية التي أذعنت للنازية.
لهذه الأسباب كلها، يتصف هابرماس بمزيد من الوضوح والإيجابية مقارنة بما كان عليه أدورنو وهوركهايمر في أي وقت حيال المسار الذي كان ينبغي سلوكه. فالفضاء العام الذي انحسر حقا وتشظى كان ينبغي تعميقه وتوسعة نطاقه واستمراره في ممارسة مهمة النقد وإضفاء الشرعية على النظامين السياسي والاقتصادي، والزج بهما في نطاقات تحظى بالسيطرة الديمقراطية. ويختتم هابرماس حديثه في «التحولات البنيوية» بما يحويه التحليل النهائي؛ ألا وهو تخمين يحدوه الأمل بأن هذا التطور لم يحدث بعد، وقد يطرأ في المستقبل على أساس الفضاءات الحالية للدعاية المدمجة في مؤسسات كالأحزاب السياسية. وفي ظل الظروف السياسية والاجتماعية المواتية، يحتمل سد الفجوة التي لا تفتأ تتسع بين فكرة الفضاء العام والواقع الاجتماعي والسياسي مجددا. (2-4) مفهوم النظرية النقدية عند هابرماس
يهتم هابرماس بمفهوم الفضاء العام؛ لأنه يعتبره أصلا لنموذج إرساء السياسات الديمقراطية، وأساسا للقيم الأخلاقية والمعرفية التي تعزز الديمقراطية وتحافظ عليها؛ ألا وهي المساواة والحرية والعقلانية والحقيقة. ودائما كانت أعمال هابرماس مختلفة عن أعمال أساتذته بمدرسة فرانكفورت؛ إذ كان اهتمامه الشديد بالحرية الفردية دوما مرتبطا باهتمامه بمصير المؤسسات الديمقراطية وبآفاق تجديد السياسات الديمقراطية. ومن ثم، فهو يبدي اهتماما بالبنية المؤسسية الفعلية للمجتمع الديمقراطي أكبر بكثير من هوركهايمر وأدورنو. وهو يرى أن النظرية النقدية كان يجب أن تدلي بدلوها في أنواع المؤسسات الضرورية لحماية الأفراد من مفاتن التطرف السياسي، من ناحية، وعمليات النهب التي يقوم بها الاقتصاد الرأسمالي المتنامي سريعا من ناحية أخرى.
لا يبادر أدورنو، شأنه شأن ماركس من قبله، بالخوض، إلا قليلا، فيما يجب أن يكون عليه المجتمع الصالح أو العقلاني، وشأنه شأن ميشيل فوكو (1926-1984) من بعده، فهو يتعامل بريبة شديدة مع المؤسسات عامة. إن الغاية العملية لنظرية أدورنو النقدية هي تجهيز الأفراد بالقدرات التي تمكنهم من مقاومة الاندماج في مؤسسات المجتمع الرأسمالية التي لا مناص منها، والساعية لدمج الجميع في نسيجها. وأهم هذه القدرات على الإطلاق الاستقلال الفردي الذي يفهم إلى حد ما في سياق إحساس إيمانويل كانط (1724-1804) بما يعرف ب
Mündigkeit (والذي يترجم أحيانا إلى «الرشد»)؛ وهي القدرة على استخدام المرء منطقه الخاص والتفكير بنفسه. ولكن حسبما يرى أدورنو، يرتبط الرشد
Mündigkeit
بالتحرر من جهة شديدة السلبية؛ فالتحرر في الموقف الحالي لا يعني سوى مقاومة النظام الراسخ، والقدرة على قول كلمة «لا»، والقدرة على رفض التكيف أو التأقلم مع الواقع الاجتماعي الحالي. ويريد هابرماس، في المقابل، أن يحدد الظروف الاجتماعية والمؤسسية التي تعزز الاستقلال؛ فالتحرر عنده يعني خلق مؤسسات ديمقراطية حقا لها القدرة على الصمود في مواجهة الآثار المدمرة للرأسمالية وإدارة الدولة.
ولذا فإن «التحولات البنيوية» يعطي صورة للتنوير أقل تشاؤما وسوادا بكثير من «جدلية التنوير». ففي «جدلية التنوير»، نجد أن العقلانية نفسها هي السبب المحتوم للهيمنة وفي آن واحد السبيل لفك عراها. إن نظرية أدورنو وهوركهايمر أبورية عن وعي ذاتي؛ فهي تسلط ضوءا طفيفا على الموقف المتأزم الذي لا سبيل للخروج منه. وفي المقابل نجد أن نظرية هابرماس عن الفضاء العام تتبنى نموذج النقاش العقلاني الحر بين الأنداد، مع أنه لم يتحقق حاليا باعتباره نموذجا جديرا بأن نسعى وراءه رغم ذلك.
الفصل الثاني
نهج هابرماس الجديد نحو النظرية الاجتماعية
(1) أعمال هابرماس الأولى
بعد «التحولات البنيوية» بعشرين عاما تقريبا، نشر هابرماس عمله «نظرية الفعل التواصلي» الذي يعتبر أول إعلان رئيسي عن نظريته الناضجة. ولم يكن العقدان الفاصلان بأي حال من الأحوال فترة من الصمت المطبق. على العكس من ذلك، كان إنتاج هابرماس في هذه الفترة غزيرا على غير العادة؛ حيث نشر العديد من الأعمال المهمة. فإذا كان «التحولات البنيوية» العمل الذي بشر بنهاية تبعية هابرماس الفكرية، فقد مثل هذان العقدان سنوات إبحاره في رحلته الفكرية. وخلال هذه الرحلة، أعاد هابرماس تجهيز نفسه وتعديل موقفه فيما يختص بالمنهج الهيجلي-الماركسي الذي لم يكن على وفاق تام معه على الإطلاق. وحقق ذلك بأن طور ثلاثة مسارات فكرية ذات صلة بذلك المنهج.
أطال هابرماس انخراطه النقدي مع ماركس وإرثه الفكري في الستينيات والسبعينيات، مستندا إلى فرضية مفادها أن العمل هو الفئة الأساسية لإدراك الإمكانات البشرية، وأن حرية الإنسان يمكن تصورها بشكل ذي مغزى باعتبارها تحررا لقوى الإنتاج وتحولا لعلاقات الإنتاج.
وكما أوضح غيره من المنظرين، ومنهم المنظر الاجتماعي الفرنسي سيمون ويل (1909-1943)، أن الحرية بتصورها هذا لا ترقى إلى تحرر البشر والقضاء على الظلم الاجتماعي، فيجب عدم الخلط بين العلاقات والتفاعلات الإنسانية من ناحية والعمل والكد من ناحية أخرى؛ ذلك أن العمل والكد علاقات تربط بين ذات وموضوع، وهي علاقات أداتية محضة، بينما الأولى علاقات بين الذوات وهي لا أداتية إلى حد كبير. واستجابة لذلك، شرع هابرماس في دراسة تطور البنى المعيارية، وتطور الوعي الأخلاقي كتتمة وتصحيح للفكر الماركسي، الذي كان مشغولا أكثر من اللازم بتطوير أنماط الإنتاج. ولقد أعطاه ذلك مفهوما أكثر ثراء بالروابط الاجتماعية والإنسانية مقارنة بما أتاحته عادة النظريات الماركسية.
شكل 2-1: كارل ماركس. كان هابرماس، بوصفه منظرا اجتماعيا ماركسيا، شديد الانتقاد للنظرية الاجتماعية عند ماركس.
التطور الثاني هو أن هابرماس أمسى مهتما بمنهج البراجماتية الأمريكية الذي وضعه ويليام جيمس (1842-1910) وجون ديوي (1859-1952) وجورج هربرت ميد (1863-1931) وتشارلز ساندرز بيرس (1839-1914)، والمنهج التأويلي غير المنقطع الصلة تماما والممتد من فلهلم دلتاي (1833-1911) إلى هانز-جورج جادامير (1900-2002). اشترك هذان المنهجان، البراجماتية الأمريكية والتأويلية الألمانية، في فرضية مهمة، وهي أن الفلسفة يجب أن تجد لها مستقرا في الحياة اليومية وتحافظ على رابطها بها. ويتعين أن تؤتي النظريات والمفاهيم الفلسفية ثمارها بإحداثها فارقا في حياة أناس حقيقيين وتجربتهم في عالم الواقع.
وثالثا، إلى جانب نقده لماركس وانغماسه في التأويلية والبراجماتية، قدم هابرماس نقدا للتكنولوجيا والعلم والأساليب العلمية والوضعية في التفكير. ورغم ميله إلى الوضعية المنطقية عند مدرسة فيينا بقدر أكبر من أدورنو وهوركهايمر، ظل هابرماس منتقدا لوجهة النظر القائلة بأن المعرفة كلها، ولا سيما معرفة العالم الاجتماعي، يجب أن تتسق وقوانين العلوم الطبيعية. وفي نهاية المطاف، استحدث هابرماس وجهة النظر القائلة بأن الأنواع المختلفة للمعرفة - النظرية والعملية والنقدية - تتشكل في سياق أطر مختلفة، وتخدم مصالح بشرية مختلفة. فالمعرفة النظرية تستند إلى اهتمام البشر بالسيطرة التقنية على الطبيعة؛ أما المعرفة العملية والأخلاقية فترتكز على اهتمام البشر بفهم بعضهم بعضا؛ بينما تستند النظرية الاجتماعية النقدية والتحليل النفساني على الترتيب إلى الاهتمام الجمعي والفردي بالتحرر، وبالتحلل من الأوهام، وبالاستقلالية، وتحقيق الحياة الصالحة.
ورغم أن أعماله الأولى كانت حافلة بشكل مميز بأفكار «هابرماسية»، فإنها الآن ذات اهتمام بيوجرافي وتاريخي إلى حد بعيد. بدأت تأثيرات هابرماس واسعة النطاق بعمله «نظرية الفعل التواصلي» (1981) في التحول إلى برنامج متسق للنظرية الاجتماعية تفتقت منه نظريته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. إن جزءا كبيرا من الكتاب مكرس لنقاشات عن علماء الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920) وإميل دوركايم (1858-1917) وتالكوت بارسونز (1902-1979) وصولا إلى جيورج لوكاتش الهيجلي الماركسي (1885-1971) وحتى النظرية النقدية لأدورنو وهوركهايمر. هذا العمل ليس مراجعة للأدبيات.
يتسم نهج هابرماس بأنه إصلاحي لا تاريخي. فهو يباشر عمله بانتقاء النظريات والسوابق التاريخية المتنافسة انتقاء نقديا. ودفاعا عن نهجه، يقول هابرماس إن نماذج العلوم الاجتماعية (على عكس نماذج العلوم الطبيعية) لا يرتبط بعضها ببعض كمعقبات تاريخية؛ فعلماء الاجتماع لا يسقطون نظرية ما لصالح نظرية أخرى أفضل منها؛ وذلك لأن النظريات الاجتماعية يرتبط بعضها ببعض كبدائل تتنافس، إذا جاز التعبير، «على قدم المساواة» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). ومن ثم فمن بين معايير النظرية الاجتماعية السديدة الدرجة التي تستطيع بها التعامل مع سابقاتها ومنافساتها؛ بحيث تفسر إنجازاتها وتحافظ عليها وتعالج عيوبها في الوقت نفسه. وتلبية لهذه الغاية، يقدم هابرماس ما يسميه «تاريخ النظرية بنية منهجية»، وهو نهج تركيبي مدروس ينسب إليه ثراء أعماله الرئيسية، وكذلك إسهابها المخيب للآمال.
بدلا من التركيز على تناولات هابرماس لتاريخ النظرية الاجتماعية، الأمر قد يكون متحيزا نوعا ما، سأركز على النية المنهجية في أعماله. إن هدفه المباشر في «نظرية الفعل التواصلي» هو حل ثلاث مشكلات يعتقد أنها سببت إحباطا للمفكرين أصحاب المناهج سالفة الذكر. (2) ثلاث مشكلات في النظرية الاجتماعية (2-1) مشكلة فهم المغزى في العلوم الاجتماعية
مشكلة فهم المغزى في العلوم الاجتماعية هي مشكلة تفسير أفعال البشر (أو فهم مغزاها). والكلمة المقابلة للمغزى في هذا السياق هي
Sinn
الألمانية. ولوقع هذه الكلمة على آذان أبناء القرن العشرين استخدامان فنيان مختلفان؛ فقد استخدمها في الأساس فلهلم دلتاي وغيره إشارة إلى المغزى الرمزي للأفعال البشرية. وهنا تحمل هذه الكلمة المعنى الذي يحمله «المغزى» في تعبيرات مثل «مغزى الحياة». ولكن إمعانا في الإرباك، كان جوتلوب فريجه (1848-1925) يستخدم الكلمة نفسها
Sinn
لبيان الطريقة التي يعطى بها الموضوع الذي تشير إليه كلمة أو عبارة ما إلى الذات. وميز فريجه معنى الاصطلاح الباطن لغويا، ألا وهو
Sinn ، عما يشير إليه، أو
Bedeutung
الكائن بالعالم الخارجي. فعبارة «نجم الصباح» لها معنى يختلف عن عبارة «نجم المساء»، لكنهما يشيران إلى كوكب الزهرة. مؤقتا، لنستغل استخدام فريجه لكلمة
Sinn
في جانب واحد.
ذكر دلتاي أن العلوم الإنسانية، أو
Geisteswissenschaften ، كالتاريخ والفلسفة والقانون والأدب، وهي الفروع المعنية بدراسة الأمور الإنسانية؛ مميزة منهجيا عن العلوم الطبيعية؛ فالعلوم الإنسانية سبيل لفهم العالم الاجتماعي، بينما العلوم الطبيعية تعنى بتفسير الأحداث الخارجية أو الظواهر الطبيعية. رأى دلتاي أن التفسيرات الطبيعية-العلمية السببية كانت غير كافية لفهم الحياة الفكرية والروحانية للبشر. فسر العلم الأشياء من الخارج بمساعدة النظريات المدعومة بالملاحظة التجريبية. لكن أفعال البشر كان لا بد من فهمها أيضا من الداخل، من وجهة نظر التجربة الذاتية. على سبيل المثال، يمكن أن يعطينا العلم تفسيرا فيزيائيا وحيويا-كيميائيا وافيا لحركة الجسم البشري، لكنه لا يكشف لنا عن شيء حيال أهمية فعل العدو؛ فلا يعلمنا إن كان من يعدو أمامنا هو مسرع أم فار أم متدرب. ولكي نفهم مغزى الفعل، يجب أن نفسره في ضوء التجربة البشرية الذاتية للفاعل.
وعلى نهج دلتاي، فكر فيبر أن على المرء المزج بين الملاحظات الخارجية للسلوك البشري وفهم المغزى الذاتي «الداخلي» للفعل. ويمكن الوصول إلى المغزى الذاتي السالف الذكر بتفسير السلوك البشري في ضوء السياق ذي الصلة للدوافع والقيم والاحتياجات والرغبات البشرية. وقال فيبر إن الفعل ذو مغزى ذاتي؛ ومن ثم فهو مفهوم إذا تسنى ربطه بسياق مناسب من الوسائل والغايات؛ أي إذا تسنى فهمه باعتباره أقدم عليه لسبب. وفي المقابل، فالفعل «غير ذي مغزى»، شأنه شأن غالبية السلوكيات الحيوانية، إذا لم يتسن تفسيره إلا كرد فعل لمثير خارجي. لقد ربط فيبر بين مسألة مغزى الفعل ومسألة السبب الداعي للإقدام عليه.
يعيب نظرية فيبر للفعل، رغم كل مميزاتها التي تتفوق بها على نظرية دلتاي، العديد من السقطات. يرى فيبر أن المفسر يمكن أن يفهم مغزى فعل شخص ما، لدرجة أنه يستطيع إعادة خلق أو استنساخ ما يحدث ذاتيا «داخل» عقل ذلك الشخص بشكل فيه تقمص عاطفي، لكنه لا يقدم لنا تحليلا وافيا لماهية هذا الفهم الحاصل بالتقمص العاطفي. لدى فيبر مفهوم ازدواجي عن الفعل طبقا له ينفصل العقل الداخلي عن الجسد الخارجي، وبذا تظل العلاقة بينهما غامضة في حد ذاتها. ومن ثم، يتعذر عليه أن يصرح بالقيود التي تقيد تفسير فعل ما. وهذا يعني أنه لا سبيل لديه لتفسير سبب أن ما يعد غير عقلاني أو عقلانيا من منظور الفاعل يعد أيضا غير عقلاني أو عقلانيا من منظور مفسر الفعل. ولذلك، لا يستطيع فيبر تفسير علة استمرار ثبات مغزى الفعل بمرور الوقت وإمكانية الكشف عنه.
ثمة طريقة أنفع وأجدى للتعاطي مع المشكلة برمتها؛ ألا وهي التمييز بين المعتقدات والرغبات والتوجهات الذاتية للفاعل ومحتواها «الاقتراحي» الموضوعي. فبمجرد أن نفعل ذلك، يمكننا فهم الفعل بواسطة إعادة تكوين الأغراض أو النيات الذاتية للفاعل باعتبارها حدثا من أحداث المنطق العملي: (1)
يود سميث الحفاظ على شعوره بالدفء. (2)
يملك سميث موقدا لحرق الخشب يستخدمه في تدفئة البيت. (3)
نفد الوقود الذي يستخدمه سميث لإشعال الموقد. (4)
يعلم سميث أنه يستطيع الحصول على وقود للموقد إذا ما جمع الحطب وقطعه. (5)
ولذا، ينبغي أن يجمع سميث الحطب ويقطعه.
تبرهن هذه الحجة على أن سميث لديه سبب في ظل الظروف الحالية لجمع الحطب وتقطيعه. وإذا تسنى لنا كمفسرين افتراض أن فهم سميث لهذا المنطق أدى به إلى جمع الحطب وتقطيعه، فسيمكننا، على أساس سلوكه الظاهري، فهم مغزى فعله فهما وافيا. يعتمد مغزى فعل سميث على حقيقة الافتراضات من 1 إلى 4، وكذا على صحة الاستنباط المفضي إلى النقطة 5، وهي كلها منفصلة عن الحالات الذهنية لسميث ولمفسره.
هذا نهج قياسي نوعا ما لمهمة تفسير الأفعال يحل المشكلة المتعلقة بتفسير فيبر. ورغم أن هابرماس لا يتبنى هذا الحل، فهو يوافق على أن نظرية مغزى الفعل تعول على نظرية المعنى اللغوي، ويتفق مع النقاط التالية: (1)
لفهم مغزى فعل من الأفعال، لا يكفي أن نطرح وصفا خارجيا من طرف ثالث للسلوك. (2)
الفهم السديد لمغزى الفعل يعتمد على فهم صحيح للأسباب الداعية للقيام بالفعل. (3)
لا يمكن تفسير الأسباب؛ ومن ثم الأفعال، تفسيرا صحيحا إلا بمساعدة المعرفة المسبقة للأغراض والقيم والاحتياجات والرغبات والتوجهات البشرية. (4)
المغزى وراء فعل ما، والأسباب الداعية للقيام به، لها محتوى متاح في الأساس لكل من المفسر والفاعل، وليس حكرا على الفاعل وحده.
وبناء على ما تقدم، يرى هابرماس أن النهج القياسي معيب؛ إذ يفترض خطأ أن البشر كائنات تحمل احتياجاتها ورغباتها قبل تفردها ونزوعها للتجمع. علاوة على ذلك، فهو يفترض أن كل فرد يفكر بشكل أداتي من وجهة نظره الشخصية؛ ولذا فإن المعاني العامة والمشتركة تعتمد على أسباب خاصة وفردية. وأخيرا، فهذا النهج يستبدل بكل من المفهوم التأويلي عند دلتاي والمفهوم المنطقي النفساني عند فيبر للاصطلاح الباطن لغويا شيئا آخر أكثر صلة بمفهوم فريجه عن الإشارة الكائنة بالعالم الخارجي. وفي المقابل، يرى هابرماس، كما سيتبين لنا في الفصل التالي، أن المعنى اللغوي لا يمكن اختزاله إلى شروط افتراضات الحقيقة. (2-2) اللاعقلانية ومشكلة نقد الأيديولوجية
تساءل المنظرون الاجتماعيون منذ عهد لودفيج فويرباخ (1804-1883) وكارل ماركس عن علة استعداد الفاعلين للحفاظ على مؤسسات تعوق أو حتى تحبط تحقيق مصالحهم وإعادة استنساخها. لم يجاري الفقراء والمهمشون والمضطهدون المؤسسات والقوانين نفسها - سواء كانت دينية أم اقتصادية أم سياسية - التي تفقرهم وتهمشهم وتضطهدهم؟ الإجابة التي يقدمونها هي أن هذه الفئات تتصرف بلا عقلانية؛ لأنها تتبنى معتقدات خاطئة عن ماهية مصالحها الحقيقية. استخدم ماركس اصطلاح «الأيديولوجيات» الفني (الذي تعرفنا عليه في الفصل الأول) إشارة لمثل هذه المعتقدات الخاطئة. فقد رأى أنه ليس من الكافي للفيلسوف الاجتماعي أن يجعل الفاعلين المضطهدين ببساطة على دراية بمعتقداتهم الخاطئة. فالتغيير الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق بإحلال معتقدات سليمة محل أخرى خاطئة هكذا ببساطة. فالمسألة ليست، كما كتب أفلاطون ذات مرة، بمنزلة صب البصر في أعين المكفوفين. ثمة شيء في المجتمع - شيء يتعلق بتنظيمه الاقتصادي لدى ماركس - يجعل الفاعلين أكثر ميلا لاكتساب هذه الأيديولوجيات والتشبث بها، رغم الجهود المثلى للفلاسفة الاجتماعيين الساعية لإزالة الغشاوة من على أعينهم. والأدهى أن استمرار هذه الأيديولوجيات ساعد على استنساخ الأنظمة الاجتماعية الاستبدادية نفسها التي ساعدت على نشأتها، والحفاظ عليها. لقد كانت المشكلة العملية للمنظرين الاجتماعيين الماركسيين تكمن في تحديد وتغيير الآليات المولدة للأيديولوجية التي جعلت الفاعلين ينزعون إلى التصرف بما يتعارض مع مصالحهم الحقيقية.
لقد كانت هذه الاستراتيجية التفسيرية معيبة، مع أنها لم تخل من جاذبية بديهية خاصة. أولا: يجب أن تتاح لدى الناقد الماركسي للأيديولوجية نفسه معلومات موثوقة عن ماهية الآلية المولدة للأيديولوجية، وتفسير وجيه يعلل كون معلوماته الخاصة ليست عرضة لأي نوع من أنواع الخطأ الأيديولوجي الذي ينسبه على نطاق واسع للآخرين. يجد ناقد الأيديولوجية أمامه خيارين: إما أن يستثني نظريته الخاصة من الشك في أنها وهم أيديولوجي. وفي هذه الحالة، لا بد أن تكون هناك وسيلة لتفادي تعرضه للخداع، وينبغي أن تكون معرفة حدوث خداع ما كافية للحيلولة دون تكون المعتقدات الخاطئة. (فور أن نرى حيلة البطاقة، نكف عن الإيمان بسحرها). وإما ألا يستثني نظريته من الشك، وفي هذه الحالة لا يكون هناك أي داع لتصديق ناقد الأيديولوجية أكثر من الأيديولوجية نفسها. على سبيل المثال، يدرك هوركهايمر الجانب الأول من المعضلة. وفقا لتصوره الأصلي للنظرية النقدية، فإن الطبيعة المتعددة التخصصات الانعكاسية الجدلية للنظرية النقدية كان من المفترض أن تحصنها من الأيديولوجية، وتمنح المنظر رؤى متعمقة مميزة في الواقع الاجتماعي. وبالمثل، نجد أن أدورنو أحيانا ما يزعم أنه من حسن الطالع أن واقعة خلال نشأته حصنته من آثار الأيديولوجية. ومع ذلك، فالمنظر النقدي يجد نفسه في موقف مزعج؛ فكلما كان من المفترض أن تكون الآلية المكونة للوهم أكثر عمقا وأكثر فسادا، كان زعمه بعدم التأثر بها أقل مصداقية.
ثانيا: من المقبول حاليا وعلى نطاق واسع أنه لا يمكن تفسير المعنى إلا على فرض أن الناس عقلانيون في الأساس، وأن معتقداتهم صحيحة إلى حد بعيد. إذا كان المفسر على استعداد للقبول باللاعقلانية والخطأ الشائع نفسه لدى الفاعلين الذين يحاول تفسير أفعالهم، فسيقبل الكثير من التفسيرات المحتملة لسلوكهم. (وربما أن الشخص المار من أمامنا يعتقد أن ثمة دبا خفيا يطارده). وبذلك فإن المفسر يحرم نفسه من أي وسائل موثوقة لتحديد أي التفسيرات صحيح؛ ومن ثم فهم معنى الأفعال المراد تفسيرها. لا يمكن التوسع في فكرة الوهم الأيديولوجي أكثر من اللازم دون الحط من شأنها. فإذا بولغ في الاحتكام إلى اللاعقلانية، فإن ذلك يهدد بأن يصبح العالم الاجتماعي غير مفهوم. تستجيب النظرية الاجتماعية عند هابرماس، كما سنرى في الفصل الرابع، إلى هذه المشكلة بإعادة صياغة فكرة الأيديولوجية، ومفهوم النقد الأيديولوجي المرتبط بها في سياق تمييزه بين الفعل التواصلي والفعل الأداتي. من وجهة نظر هابرماس، الإجابة ليست أن كثيرا من الناس، دون دراية منهم، يتصرفون بلا عقلانية، بل إنهم يوجهون بفعل الأنظمة الاقتصادية والإدارية إلى أنماط بعينها من السلوك العقلاني بشكل أداتي. (2-3) مشكلة النظام الاجتماعي
يهتم هابرماس - شأنه شأن كثير من المنظرين الاجتماعيين من قبله - بمسألة إمكانية وجود نظام اجتماعي. وتطرح هذه المسألة كثيرا كما أثارها توماس هوبز (1588-1679). فقد تساءل هوبز كيف يمكن أن ينشأ نظام اجتماعي متوقع ومستقر من رحم أفعال أعداد مهولة من البشر المتمايزين، قليل منهم يعرف الآخرين شخصيا، وقليل جدا فقط منهم، في أي مكان أو زمان، في موقف يسمح لهم بتنسيق أفعالهم باتفاق صريح بينهم. كانت إجابة هوبز هي أن النظام ينشأ بموجب قوانين وسلطة حاكم قدير يتكئ على استخدام القوة والتهديد الحقيقي بإنزال العقاب.
إن المشكلات المرتبطة بحل هوبز لمشكلة النظام الاجتماعي مألوفة. فمن وجهة نظر الفرد، أحيانا ما يكون الثمن المتوقع لمخالفة القوانين وانتهاك الأعراف - أي العقوبة - أقل بكثير من المنفعة المتصورة للنجاة من العقاب، وفي هذه الحالة سيكون من المنطقي أكثر مخالفة القانون بدلا من الامتثال له. إن النظريات التي تزعم بيان أن طاعة القوانين الراسخة تعود بالنفع بشكل ما على الفرد - النظريات الاجتماعية الأداتية - تصطدم بما يعرف بمشكلة «المنتفع بالمجان». فهذه النظريات لا تستطيع أن تعلل لماذا يطيع الناس، أو ينبغي أن يطيعوا، القوانين حتى ولو بدا لهم أنه من المنطقي ألا يفعلوا، وأن يستفيدوا شخصيا من طاعة الآخرين. ومن ثم، فمشكلة النظام الاجتماعي لم يوجد لها جواب شاف.
في مواجهة هذه الاعتراضات، لجأ الفلاسفة لنظريات العقد الاجتماعي التماسا لأجوبة لمشكلة النظام الاجتماعي. زعمت هذه النظريات أن النظام الاجتماعي يستند إلى شبكة من العلاقات التعاقدية الضمنية أو الصريحة. ولكن هذه النظريات يصعب عليها هي الأخرى - بل ويستحيل - تفسير متى وكيف تحديدا تم إبرام هذا العقد ما بين الناس الذين من المفترض أن يلتزموا بشروطه. علاوة على ذلك، كما بين دوركايم، ليس كل ما هو تعاقدي منصوصا عليه في العقد. بدلا من تفسير وجود القوانين والأعراف الاجتماعية، تفترض فكرة العقد مسبقا أن ثمة مجموعة كاملة من الأعراف الاجتماعية - وخاصة تلك التي تنص على تنفيذ العقود - موجودة بالفعل.
حاول دوركايم نفسه تفسير النظام الاجتماعي بافتراض أن الفاعلين يلتزمون بالأعراف التي تشكل الوعي الأخلاقي الجمعي. وهم يفعلون ذلك لأسباب إيجابية وسلبية على حد سواء. فمن خلال التطبع الاجتماعي، يربطون بين عقوبات بعينها وانتهاك الأعراف، ويتعلمون كيف يتجنبون هذه العقوبات بالفعل الطوعي. وفي الوقت نفسه، يخالجهم شعور تدريجي بالألفة والتماهي مع الوعي الأخلاقي الجمعي للمجتمع الذي يعيشون فيه. طور عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز وجهة النظر هذه، فتحولت على يديه إلى نظرية أكثر تعقيدا نوعا ما، مفادها أن امتلاك نظام من الأعراف والقيم يفضي إلى التناسق والاستقرار الاجتماعي. وقال إن الفاعلين يكتسبون نزوعا لتصنيف الدواعي الأخلاقية (اللاأداتية والموجهة نحو الآخرين) في مرتبة أعلى من الدواعي اللاأخلاقية (الأداتية والموجهة نحو الذات)، ونزوعا إلى إنزال العقاب بمن يفشلون في ذلك. وحيث إن أغلب الناس يكتسبون النزعتين معا، فمن الممكن الحفاظ على النظام الاجتماعي مع أن بعض الفاعلين قد ينحرفون من آن لآخر عن الأعراف الاجتماعية. وفي حال فشل الآلية المعيارية في ضمان الالتزام في بعض الحالات، تظل شبكة أمان أداتية في محلها وراء هذه الآلية؛ لأن الناس سيخشون أن ينزل بهم العقاب إذا لم يلتزموا بما تلزمهم به الخلقية.
يكمن حل هابرماس لمشكلة النظام الاجتماعي في إعادة صياغة جديدة لأجزاء مختلفة من تلك النظريات. سأبادر برسم الخطوط العريضة للفكرة الرئيسية بإيجاز شديد. بحسب هابرماس، يتم تنسيق الأفعال البشرية دوما وفي المقام الأول باستخدام الكلمات أو اللغة. وإذا استخدم الفاعلون اللغة لتنسيق أفعالهم ، فإنهم يلتزمون التزامات محددة بتبرير أفعالهم (أو كلماتهم) على أساس دواع وجيهة. ويطلق على هذه الالتزامات «ادعاءات الصحة». سندرس ما يعنيه بكل من «ادعاء الصحة» و«الصحة» في الفصول التالية. يكفينا الآن أن نلاحظ أن هذه الالتزامات لها نوع من المكانة «الأخلاقية»؛ لأنها منطبقة عموما على الفاعلين ولا مناص منها، وتخلق تعهدات تجاه المستخدمين الآخرين للغة. ولادعاءات الصحة أيضا مكانة «عقلانية»؛ لأنها ترتبط بدواع وجيهة. ادعاء الصحة هو التزام نحو تبرير المرء لأفعاله وكلماته للآخرين. وهذه ليست ظاهرة لغوية ودلالية وحسب؛ فادعاءات الصحة لها وظيفة عملية بما أنها توجه أفعال الفاعلين الاجتماعيين. تقام المجتمعات الحديثة بحيث يمكن أن يطلب من أي فاعل في أي موقف تفسير فعله، ويلزم مسبقا بذلك. بهذه الطريقة، توفر الدواعي الخطوط الخفية التي تتجلى معها تسلسلات التفاعل، وتنأى بالفاعلين عن الصراع. وبينما يألف الفاعلون الاجتماعيون توجيه أفعالهم بواسطة الكلام، والإقرار المتبادل بالدواعي الوجيهة، تبدأ أنماط مستقرة نسبيا من النظام الاجتماعي في التشكل؛ أنماط لا تعول مباشرة على تهديدات معقولة بإنزال العقاب أو على التقاليد العقائدية المشتركة أو قيم أخلاقية سالفة.
هذا تصوير موجز للفكرة الرئيسية وراء نظرية هابرماس الناضجة. وهذه الفكرة ليست أساس نظرية المعنى والعقلانية الخاصة به وحسب، بل وكذا نظريته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والقانونية. وهذا يعني أننا لن نحصل على حل هابرماس لمشكلة النظام الاجتماعي كاملا حتى الفصل التاسع. لكن هذا لا يعني أن نظريات هابرماس الأخلاقية والسياسية ما هي إلا مكونات لنظريته الاجتماعية، وأن أعماله ما هي إلا طريقة طويلة جدا ومسهبة للإجابة عن مسألة النظام الاجتماعي وحدها. إن برامج هابرماس للفلسفة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية مهمة كل على حدة، ولكن كما نتذكر من المخطط الذي أوردناه سلفا (الشكل
5 )، فكل منها يدعم الآخر. وكون النظرية الأخلاقية والسياسية لهابرماس تصب أيضا في نظريته الاجتماعية يعكس حقيقة أن المجتمعات الحديثة شديدة التعقيد، وأن المعايير الأخلاقية، وقوانين الدولة، والمؤسسات الاقتصادية والإدارية والسياسية جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي.
الفصل الثالث
برنامج المعنى البراجماتي
(1) التحول اللغوي ونهاية فلسفة الوعي
يزعم هابرماس أنه ابتكر طريقة جديدة لتناول الفلسفة الاجتماعية؛ طريقة تبدأ بتحليل استخدام اللغة؛ مما يجعل الأساس العقلاني لتنسيق الفعل يكمن في الكلام. ويربط هابرماس هذه الطريقة الجديدة بتحول أكثر عمومية في الفلسفة يطلق عليه اسم «التحول اللغوي». ميزت هذه العبارة أصلا محاولات مختلفة قام بها مختلف فلاسفة القرن العشرين لحل الخلافات المعرفية والميتافيزيقية المستعصية ظاهرا عن طريق دراسة الحقائق المفاهيمية المتأصلة في استخدامنا للغة. قامت الاستراتيجية الأساسية على معالجة أسئلة تتعلق بما هو موجود، وما يمكن التعرف عليه، وكيف يمكن التعرف عليه، باعتبارها أسئلة خاصة بما نعنيه، أو ما نشير إليه، وكيف نفعل ذلك. ويطبق هابرماس استراتيجية مثيلة على أسئلة متعلقة بطبيعة ما هو اجتماعي وإمكانية وجود نظام اجتماعي.
التحول اللغوي عند هابرماس ليس مجرد تحول باتجاه اللغة وحسب، بل هو تحول يبتعد به عما يسميه «نموذج فلسفة الوعي». وهما وجهان لعملة واحدة؛ ففلسفة الوعي تحدد نموذجا فلسفيا عاما جدا يمكن اختزاله في القليل من الأفكار المميزة: (1) «الذاتية الديكارتية»: الفكرة المألوفة التي مفادها أن ثمة شيئا يعرف باسم الذات التي هي محل العقل المتصور كعالم ذهني داخلي من الأفكار والتصورات. (2)
عادة ما تلازم الذاتية الديكارتية «الازدواجية الميتافيزيقية»: وهي فكرة أن هناك نوعين من المادة؛ التفكير والكيان الممتد. وأحيانا ما تعرف باسم «الازدواجية الديكارتية» أو «ازدواجية العقل والبدن»؛ لأن ديكارت كان يحسب العقل والبدن كيانين مختلفين أساسا. (3) «ميتافيزيقا الذات-الموضوع»: هذه هي النظرة الأكثر عمومية ومفادها أن العالم هو مجموع الموضوعات التي تقف في مواجهة تعددية التفكير والذوات الفاعلة. وما يميز هذه الفكرة أن الذوات لا تعتبر أجزاء من العالم الذي تعمل عليه. (ليست كل النظريات المثيلة نسخا من الازدواجية الميتافيزيقية. على سبيل المثال، يحدث هيجل تحولا في نموذج الذات-الموضوع من الداخل، وذلك عن طريق تصور العالم على أنه نتاج روح ذاتية مفردة عارفة للذات؛ ولذا، فإنه يملك ميتافيزيقا ذات-موضوع أحادية.) (4) «التأسيسية»: من منظور محدود، تشير التأسيسية إلى المذهب المعرفي لمدرسة فيينا أو الوضعيين «المناطقة» الذي مفاده أن المعرفة راسخة في بيانات حسية أو في فئة من العبارات الرصدية البدائية. ومن منظور عام، تشير التأسيسية إلى البحث المعرفي عن اليقين الذي يميز كثيرا من الفلسفات الحديثة بداية من ديكارت وما بعده. (5) «الفلسفة الأولى»: فكرة أن الفلسفة، التي لا تفترض مسبقا الحقائق الراسخة بفعل العلوم الطبيعية، مطلوبة لتقديم برهان على صحة أنماط البحث العلمي. وهي شائعة بين الفلاسفة التأسيسيين بالمعنى العام، ومنهم على سبيل المثال ديكارت وكانط اللذان يؤمنان بأن مهمة الفلسفة الأساسية تكمن في وضع معايير للمعرفة السليمة.
هناك فكرتان أخريان يربط هابرماس بينهما وبين فلسفة الوعي؛ وهما ترتبطان بشكل أكثر مباشرة بالنظرية الاجتماعية. (6) «الذرية الاجتماعية»: الفكرة الشائعة في قسم كبير من الفلسفة الاجتماعية والسياسية بأن الأفراد سابقون منطقيا ووجوديا وتفسيريا للواقع الاجتماعي أو السياسي أو الأخلاقي. واستنادا لهذا الرأي، يتكون المجتمع من مجموع العلاقات التي تربط بين أفراده المحددين كاملي التكون السابقين للوجود الاجتماعي والسياسي. النقطة الجوهرية التي تميز الذرية الاجتماعية هي أنه رغم أن الأفراد لا يتشكلون بفعل علاقاتهم بعضهم ببعض أو بالمجتمع ككل، يتشكل المجتمع بفعل العلاقات التي تربط بين أفراده. ويترتب على ذلك أنه لا ينظر إلى المجتمع على أنه يحمل أي قيمة متأصلة فيه، وأن الانتماء إليه لا يعتبر ذا قيمة أصلا. بدلا من ذلك، نجد أن المجتمع يوجد لخدمة المصالح والرغبات المسبقة لأفراده، والانتماء للمجتمع ذو قيمة أداتية وحسب. (7) «المجتمع ذات كبرى»: يمكن العثور على فكرة كون المجتمع ضربا من ذات كبرى في أعمال أفلاطون وروسو وشيلر وهيجل وماركس ودوركايم. وتقوم الفكرة على أن المجتمع كل عضوي موحد، لا مجرد تعددية أو مجموع أفراده، بل شخص جمعي نوعا ما.
لا يدعي هابرماس أن كل فيلسوف ينتمي إلى هذا النموذج يقبل كل أفكاره المميزة. الواقع أنهم لا يستطيعون ذلك؛ لأن هذه الأفكار ليست مجموعة متسقة. الفكرتان السادسة والسابعة مثلا تبدوان غير متسقتين تماما. القصد أن هذه الأفكار مؤثرة جدا وراسخة بشدة في الفلسفة الحديثة، وأن هابرماس يرفضها كلها.
وبالعمل في اتجاه خارج عن تحليل التحول اللغوي ذاك، يمكننا تمييز بعض السمات العامة لفلسفة هابرماس. بداية، لا تصور النظرية الاجتماعية لهابرماس العالم الاجتماعي باعتباره موضوعا (أو مجموعة من الموضوعات) يقف في مواجهة مجموعة الذوات التي يتفاعل معها سببيا. وليس العالم الاجتماعي موضوعا أو مجموعة من الموضوعات، وهو ليس تحديدا شيئا خارجنا، بل هو وسط نعيش فيه. إنه «داخلنا» بالطريقة التي نفكر ونحس ونتصرف بها بقدر ما نحن «داخله». هذا أمر تعلمه هابرماس من علاقته في شبابه بهايدجر. وثمة نقطة ثانية مهمة، وهي أن هابرماس لا يرى الفلسفة تخصصا متميزا يتمتع بالأولوية على العلوم الطبيعية؛ فمهمة الفلسفة العمل في تضافر مع العلوم الطبيعية والاجتماعية التي تستقي منها مادتها. وحيثما دعت الضرورة، قد تلعب الفلسفة دور البديل لما يسميه هابرماس «النظريات التجريبية ذات الادعاءات العمومية القوية»؛ أي إن لديها القدرة على سد الفراغات في العلوم الطبيعية بتقديم فرضيات للتأكيد التجريبي (الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي). أخيرا، تعطي النظرية الاجتماعية لهابرماس أفضلية للبعد الذاتي المشترك للواقع الاجتماعي. إن المجتمع ليس مجموع الذوات المفردة، كما أنه ليس وحدة عضوية تيسر فيها الأجزاء غاية الكل. فما هو اجتماعي، بحسب قوله، ليس «ذاتا كلية» فحسب، بل إنه ليس حتى موحدا أو متسقا. وكما سيتضح لنا في الفصل الخامس، فما هو اجتماعي يكون بنية معقدة ومتعددة الأوجه بين ذواتية تشمل نطاقات متداخلة مميزة يتفاعل بداخلها الفاعلون. (2) نظرية المعنى البراجماتية عند هابرماس
بالنظر إلى التحول «اللغوي» عند هابرماس من وجهة نظر إيجابية، سنجده تحولا «براجماتيا» أيضا بالقدر نفسه. يحاول هابرماس أن يحدث تحولا في النظرية الاجتماعية بمساعدة ضرب خاص من نظرية المعنى؛ أي النظرية البراجماتية للمعنى. في السبعينيات، توصل هابرماس متأثرا بكارل-أوتو آبل زميله بجامعة فرانكفورت إلى رأي مفاده أن المعنى اللغوي لم يستنفده المعنى الافتراضي، وأن للمعنى «بنية مزدوجة أدائية-افتراضية»، أو أن المعنى الافتراضي والبراجماتي كانا متلازمين. ولتقدير هذا الموقف وأثره على نظرية هابرماس، سندرس كلا مما سبق على حدة. (2-1) المعنى الافتراضي
بحسب النظرية القياسية الشائعة للمعنى حاليا ، يتألف معنى الجملة من شروط صحتها، وفهم معنى جملة من الجمل ما هو إلا معرفة ما يجعلها صحيحة أو خاطئة. ولقد ثبت أن نظرية المعنى المشروطة بالصحة محكمة ومفيدة. فمن ناحية، هي قادرة على تفسير الحقيقة المميزة المتعلقة باللغة؛ ألا وهي أنه من بين عدد محدود من المفردات والعبارات ذات المغزى والقواعد النحوية التي تحكم المزج بينها، يمكن تشكيل عدد لا نهائي من الجمل الجديدة المفيدة الأكثر تعقيدا. ويفسر ذلك بدوره علة فهمنا لمعنى الجمل التي لم نسمعها من قبل قط.
ولكن، ثمة صعوبة واحدة تشوب نظرية المعنى النموذجية المشروطة بالصحة؛ ألا وهي أنها تبدو منطقية لجزء محدود من اللغة وحسب، وهو الجزء الافتراضي أو الوصفي. ولا بأس بها في تأكيدات على غرار «الثلج أبيض»، لكنها لا تناسب تعبيرات مثل «كيف حالك؟» يبدو من العبث أن نزعم بأنه لمعرفة معنى التعبير «كيف حالك؟» يتعين على المرء معرفة الشروط التي بموجبها تكون جملة «كيف حالك؟» صحيحة (أو خاطئة). هناك الكثير من الأمثلة الشبيهة نرى فيها اللغة ذات معنى، مع أنه يبدو من الغريب الزعم بأن معنى الجمل أو أجزاء الجمل يعول على شروط صحتها. ولهذا السبب، يعتقد هابرماس أن علم الدلالة المشروط بالصحة موصوم ب «مغالطة وصفية»؛ فهو يقع في خطأ توسعة نطاق نظرية المعنى التي تسري دون مشكلة على بعض أجزاء اللغة؛ ألا وهي الافتراضات، التي لها حقا وظيفة وصفية أو تمثيلية، بحيث تناسب اللغة بأسرها. وهذا واحد من الأسباب التي دعت هابرماس لتفضيل نظرية المعنى البراجماتية. (2-2) المعنى البراجماتي
نظرية هابرماس للمعنى براجماتية لأنها لا تركز على ما «تقوله» اللغة، بل على ما «تفعله»؛ فهي نظرية ل «استخدام» اللغة. وينطلق هابرماس من تعريف للغة عند كارل بوهلر (1879-1963)، المنظر اللغوي الألماني، باعتبارها «أداة ينقل بها المرء فكرة للآخر عن العالم.» وينسب بوهلر ثلاث وظائف للغة تقابل منظور المتكلم والمخاطب والغائب على الترتيب؛ ألا وهي: الوظيفة «المعرفية» لتمثيل الحال، ووظيفة «الالتماس» لتوجيه الطلبات إلى المتلقين، والوظيفة «التعبيرية» للإفصاح عن تجارب المتكلم. ويوضح مخطط بوهلر الطبيعة الثلاثية للتواصل.
شكل 3-1: نموذج الأورجانون لدى كارل بوهلر للغة.
يزعم بوهلر أن أي حدث من أحداث استخدام اللغة ينطوي على ثلاثية قوامها المتكلم والمستمع والعالم، وأن نظرية اللغة يجب أن تعاملهم جميعا بإنصاف. ويوافقه هابرماس الرأي؛ فهو يعتقد أنه من الخطأ أن ينصب تركيز نظرية المعنى المشروط بالصحة حصريا على الوظيفة المعرفية، بينما يتجاهل الوظيفتين الأخريين المتمثلتين في العلاقة بين المتكلم والمستمع. ومن ثم، فهي لا تستطيع أن تقدم تفسيرا وافيا لكيفية استخدام اللغة بعدة طرق مختلفة ليتواصل بعضنا مع بعض ولتنسيق أفعالنا.
يطور هابرماس هذه الفكرة قائلا إن الوظيفة البراجماتية للكلام هي الانتقال بالمتحاورين إلى نقطة فهم مشتركة، وتحقيق الإجماع الذاتي المشترك، وأن هذه الوظيفة تتمتع بأفضلية على وظيفة الدلالة على واقع العالم. وبينما تتبنى نظرية المعنى المشروط بالصحة الفرضيات باعتبارها الوحدات اللغوية الأساسية الحاملة للمعنى، تتبنى نظرية المعنى البراجماتية الملفوظات باعتبارها الوحدات اللغوية الأساسية الحاملة للمعنى. ويتكون اللفظ من كلمات ينطقها المتكلم ويتلقاها المستمع في موقف بعينه ولسبب محدد؛ على سبيل المثال، «النافذة مفتوحة». والفرضية هي المحتوى أو الفكرة التي تمثلها الكلمات، وهي «أن النافذة مفتوحة». في المواقف الواقعية، دائما ما تطمر الفرضيات في الملفوظات. لا يرفض هابرماس نظرية المعنى المشروط بالصحة بالمرة، بل إنه ينكر أولا أنها يمكن أن تكون تفسيرا عاما للمعنى، وينكر ثانيا كونها الضرب الأساسي للمعنى. ويرى بدلا من ذلك أن المعنى والفهم من الأفضل تناولهما عبر تحليل للوظيفة البراجماتية للكلام:
لا يعرف المرء ماهية فهم معنى تعبير لغوي إذا لم يكن يعرف أساسا كيف يستغله للوصول إلى فهم مشترك مع الآخر حيال شيء ما. «براجماتيات التواصل» (2-3) الإجماع والاتفاق
يزعم هابرماس أن الوظيفة الأساسية للكلام هي تنسيق أفعال جمهور الفاعلين المفردين، وإتاحة المسارات الخفية التي يمكن للتفاعلات أن تتجلى فيها بطريقة منظمة وخالية من الصراعات. ويمكن للغة أن تفي بهذه الوظيفة نظرا لغايتها (أو مرادها) المتأصلة المتمثلة في الوصول إلى الفهم أو تحقيق الإجماع. ويرى هابرماس حقيقة لا مراء فيها؛ أن «الوصول إلى فهم يكمن في كلام البشر باعتباره مرادا له» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). ويستخدم هابرماس الكلمة الألمانية
Verständigung
إشارة إلى عملية الوصول إلى فهم أو اتفاق، وعبارة
rationales Einverständnis
إشارة إلى نتيجة هذه العملية؛ ألا وهي الإجماع أو الفهم العقلاني الذي يتم التوصل إليه. وتنبع هذه الكلمات من الفعل
sich verständigen
الذي يمكن أن يعني «أن يجعل المرء نفسه مفهوما للآخر»، لكنه يمكن أن يعني أيضا «الوصول إلى اتفاق مع الآخر». وهذا ازدواج مهم إذا ما نظرنا إلى حقيقة أن الاصطلاح محوري في تفسير النظام الاجتماعي. فيما يلي، سأستخدم كلمة «إجماع» كمراوغة مقبولة، لكننا ينبغي أن نحتاط فلا نغفل عن هذا الازدواج.
تنص نظرية هابرماس على أن المعنى البراجماتي للكلام يتألف من الطريقة التي يعمل بها الكلام على تشكيل إجماع بين ذواتي مشترك بين المتحاورين؛ إجماع يشكل أساس أفعالهم المترتبة عليه. ورؤية هابرماس هي أن الكلام يفي بهذه الوظيفة؛ لأن معنى الملفوظات يعتمد على الأسباب. وأسمي هذه الفكرة الأطروحة العقلانية؛ لأن وجهة النظر القائلة إن المعاني تتكئ على الدواعي هي صورة من صور العقلانية. ويسمي هابرماس وجهة النظر هذه «أساس صحة المعنى»، وهي تسمية أكثر دقة نوعا ما، لكنها أيضا يمكن أن تكون مضللة بسبب الطريقة الغريبة التي يستخدم بها اصطلاح «الصحة». وذلك لأن هابرماس يستخدم هذا الاصطلاح بطريقة براجماتية لا بالمعنى الصوري-المنطقي. في المنطق الاقتراحي، تشير الكلمة نفسها، «الصحة»، إلى علاقة استنباطية حامية للحقيقة بين العبارات المحكمة الصياغة. إن ما يطلق عليه هابرماس اسم الصحة (
Getlung
أو
Gültigkeit ) شيء مختلف إلى حد ما؛ فهو العلاقة الوثيقة بين الأسباب والإجماع، أو بحسب تعبيره، «العلاقة الداخلية مع الأسباب» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول، الفصل التاسع).
النقطة المحورية فيما أسميه أطروحة هابرماس العقلانية هي أن المعنى البراجماتي لأحد الألفاظ يعتمد على صحته؛ أي على الإجماع الذي يقدم أسبابا يمكن أن يستشهد بها المتكلم. علاوة على ذلك، يزعم هابرماس أن معنى الأفعال والملفوظات والفرضيات عام أو مشترك بالضرورة، وأن هذا يرجع إلى أن المعنى يعتمد على الأسباب التي هي بدورها عامة أو مشتركة بالضرورة. وتعتمد المعاني المشتركة على أسباب مشتركة. (يمكن أن يرى المرء هنا كيف تعيد نظرية المعنى البراجماتية لهابرماس صياغة فكرة الدعاية في تعبير اصطلاحي مختلف كل الاختلاف، وعلى مستوى نظري أكثر تجريدا من أعماله السابقة.)
لنلق الآن نظرة أكثر تمحيصا على تفاصيل النظرية. يقول هابرماس إن أي فعل كلامي مخلص يطرح ثلاثة ادعاءات مختلفة لصحته: ادعاء صحة حقيقته، وادعاء صحة صوابه، وادعاء صحة صدقه. هذه هي الالتزامات التي شهدناها في نهاية الفصل السابق. وادعاءات الصحة «ضرورية» من حيث إنها تفهم دوما على اعتبار أنها طرحت أثناء فعل الكلام؛ لا يمكننا أن نجعل الآخرين يفهموننا ونشارك في حوار هادف دون افتراضات مسبقة، وإقناع الآخرين بالإيمان بأننا صادقون، وأن ما نقوله صواب وحقيقي. وانطلاقا من كون ادعاء الصحة التزاما بالتبرير، فهو التزام بتقديم الأسباب المناسبة. ويدعي هابرماس أنه في أي فعل تواصلي، يجب أن يقدم المتكلم ادعاءات الصحة الثلاثة كلها. ووفقا لنوع فعل الكلام - سواء أكان تأكيدا، على سبيل المثال، أم طلبا أو تصريحا - ثمة ادعاء صحة وحيد هو الذي يطرح كفكرة على المستمع، أو ادعاء صحة وحيد يستوعبه المستمع.
عندما يطرح المتكلم ادعاء بصحة حقيقة قول ما، على سبيل المثال «الثلج أبيض»، فهو يوحي بأن هناك أسبابا وجيهة لتصديق ادعائه، وأنه يستطيع، إذا دعت الحاجة، أن يقنع المستمع بصحته على أساس هذه الأسباب. سيفهم المستمع التأكيد في ضوء هذه الأسباب. وهذه نقطة أقل مباشرة مما تبدو في الواقع. فالسؤال هنا: عندما أطرح ادعاء بصحة حقيقة عبارة «الثلج أبيض»، هل أدعي أن محتوى التأكيد - أن الثلج أبيض - صحيح، أم أن الملفوظ نفسه - «الثلج أبيض» - صحيح؟ بداية، لم يحدد هابرماس؛ فالمتكلم - حسب زعمه - «يستطيع بشكل عقلاني تحفيز المستمع من أجل قبول فعله الكلامي؛ لأنه ... يستطيع أن يضطلع بتقديم «ضمانة» توفير ... أسباب وجيهة يرد بها على نقد المستمع لادعاء الصحة» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). موقفه الحالي هو أن الحقيقة تلتمس لمحتوى ما يقال وللفظ المنطوق في آن واحد .
وادعاءات صحة الصواب - إذا وجدت - أكثر تعقيدا بكثير. يزعم هابرماس أنه عندما يطرح المرء ادعاء بصحة صواب كلام ما، فإنه يدعي صواب العرف الكامن وراء الكلام. على سبيل المثال، إن قلت إن «السرقة إثم»، فإنني أزعم ضمنيا أني أستطيع تقديم حجج تقنع محاوري بأن السرقة إثم. ثمة مكمنان للصعوبة هنا. أولهما أن هابرماس يعتقد أن التصريحات الأخلاقية مثل «السرقة إثم» ليست افتراضات حقيقية، ولا تحمل قيم الحقيقة في طياتها. فالقول بأن «السرقة إثم» طريقة تضمر وراءها مقولة «لا تسرق»، وليس من المنطقي القول بأن «لا تسرق» عبارة صحيحة أو خاطئة بما أننا لا نستطيع أن ننسب الحقيقة أو الزيف إلى صيغة الأمر؛ ولذا، فإن محتوى المقولة الأخلاقية «القتل إثم» يشبه فرضية «أن القتل إثم»، لكن هذه طريقة مراوغة للقول بأن العرف الأساسي الذي تعبر عنه صيغة الأمر «لا تقتل» مبرر. ويترتب على ذلك أن ادعاء صحة الصواب يجب أن يكون ادعاء بصواب العرف الأخلاقي الضمني؛ أي التزاما بتقديم الأسباب التي تبرر هذا العرف.
موطن التعقيد الثاني يكمن في أن «الصواب» هنا كلمة ملتبسة؛ فمن الممكن أن تعني المناسب أو المبرر أو المسموح به أخلاقيا أو المطلوب أخلاقيا. والتقدم بادعاء صحة صواب شيء ما يمكن أن يوازي الادعاء بأن عرفا من الأعراف مناسب في الموقف المعني؛ ويمكن أن يوازي الادعاء بأن ذاك العرف مبرر، ويمكن أن يعني الادعاء بأن الأفعال التي يحددها العرف مباحة أو مطلوبة. ويبدو أن رأي هابرماس هو أن التقدم بادعاء صحة صواب شيء ما يوازي الادعاء بأن العرف الكامن وراءه مبرر، على أساس ضرب خاص جدا من المنطق وثيق الصلة بالخلقية. وعندما يتم تطبيق العرف تطبيقا صحيحا في موقف بعينه، سيكون واضحا لجميع المعنيين إن كان الفعل مسموحا به أو محظورا أو مطلوبا.
يكفي هذا القدر فيما يتعلق بادعاءات صحة الصواب الآن. سأتناولها بالنقاش مرة أخرى في الفصل السابع. تنص الأطروحة العقلانية على أن المعنى يعتمد على الصحة؛ لأنه لفهم معنى الكلام الملفوظ، يتعين على المستمع أن يكون قادرا على استحضار (وقبول أو رفض) الأسباب المتعلقة بتبريره في ذهنه. النقطة الأساسية هنا هي أن السبب والصحة، لا الحقيقة، هما اللذان ينجزان العمل كله. فبدلا من القول بأنه لفهم معنى فرضية ما، يجب أن أعرف الشروط التي تجعلها إما صوابا أو خطأ، يزعم هابرماس أنه لفهم معنى الكلام الملفوظ (والأمر نفسه ينطبق على الأفعال)، يجب أن أكون قادرا على أن أستحضر في ذهني، وأقبل أو أرفض، الأسباب التي من الممكن الاستدلال بها لتبريره. يقول هابرماس: «إننا نفهم معنى فعل الكلام عندما نعرف ما يجعله مقبولا» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). (2-4) الفهم والمعنى
حتى الآن عكفت على عرض ما يسميه هابرماس براجماتيته الشكلية كنظرية للمعنى. ولعلكم لاحظتم أننا أخذنا نناقش مسائل خاصة بالمعنى بالتوازي مع مسائل متعلقة بالفهم. ولا عجب في ذلك إذا ما نظرنا إلى أن أحد أسباب ابتكار هابرماس لنهجه الجديد للنظرية الاجتماعية هو حل مشكلة فهم المعنى. يعتقد هابرماس أن نظرية المعنى ينبغي أيضا أن تكون نظرية للفهم، وإلا فستجرد مسألة المعنى من السياق الذي يعطي فيه المتكلم المستمع شيئا ليفهمه. وبتعبير آخر، يعتقد هابرماس أن المعنى علاقة بين ذواتية لا علاقة موضوعية. (لاحظ كيف تمثل نظريته للمعنى رفضه لفلسفة الوعي. استنادا لرأي هابرماس، المعاني لا تحددها علاقة المتكلم بالعالم الخارجي، بل علاقته بمحاوريه؛ فالمعنى في الأساس يوصف بأنه بين ذواتي، لا موضوعي، وليس علاقة ثنائية القطب بين الكلمات والأشياء.)
استنادا لرأي هابرماس، هناك أربعة عوامل لفهم معنى الكلام الملفوظ: (1)
إدراك معناه الحرفي. (2)
تقييم المستمع لنيات المتكلم. (3)
معرفة الأسباب التي يمكن الاستدلال بها لتبرير الكلام ومحتواه. (4)
قبول هذه الأسباب؛ ومن ثم ملاءمة الكلام.
لنفترض أنني قلت لجاري ذات يوم مشمس من أيام الشتاء في يورك: «الأمطار تهطل في سيدني.» رغم أنه يدرك المعنى الحرفي للجملة - شروط صدقها - فإنه لا يمكن، على هذا الأساس وحده، القول بأنه فهمها؛ لأنه لا يعي القصد وراء قولي إياها. لنفترض أن جاري أخبرني بأنه يدرس فكرة الهجرة إلى أستراليا. سيكون لديه الآن قرينة على نياتي. ربما أنني أحذره كصديق من أن الأوضاع ليست أحسن حالا على الدوام هناك. ورغم ذلك، فقد ينتابه القلق إذا ظن أنني لا أستند على أساس فيما أوردته عن أحوال الطقس، وقد لا يصدقني. لنفترض الآن أنه اكتشف أنني كنت أتحدث لتوي مع أخي المقيم بأستراليا على الهاتف. سيستحضر حينئذ الأسباب الداعية لما تلفظت به؛ ومن ثم سيفهمه فهما وافيا. ولكي يتحقق له ذلك، يتعين عليه أن يستحضر ذهنيا الأسباب وراء كلامي ويقبلها، أو يدرك ادعاء صحتها بأنها حقيقية. (2-5) الاعتراضات
تعرضت نظرية المعنى عند هابرماس لنقد لاذع تجاوز ما تعرض إليه أي برنامج آخر. لقد سبق وأثرنا بعض الأسئلة المحيرة: بم ترتبط ادعاءات صحة الحقيقة؟ هل ترتبط بالتأكيد أم بالمحتوى المؤكد أم بكليهما؟ وبم ترتبط ادعاءات صحة الصواب؟ هل ترتبط بالملفوظات أم الأفعال أم بالأعراف الكامنة وراءها؟ ما هو مفهوم الصواب الساري في هذه الحالة؟ لا يسعني الخوض في كل التعقيدات المتنوعة التي خرجت ردا على هذه الانتقادات. ولكن، من الخطأ أن نترك النظرية البراجماتية للمعنى دون أن نتوقف لتناول أبرز اعتراضين عليها.
يرتكز الاعتراض الأول على الازدواجية في معنى اصطلاحي هابرماس
Verständigung
و
Einverständnis . إن الادعاء بأن النظام الاجتماعي يعتمد على تفاهمات ومعان مشتركة يختلف كل الاختلاف عن الادعاء بأن النظام الاجتماعي يستند إلى اتفاق بين ذواتي. فقد لا ترقى التفاهمات والمعاني المشتركة إلى الاتفاقات. زعم كثير من المنظرين الاجتماعيين، كمؤيدي العقود الاجتماعية، أن النظام الاجتماعي قائم على الاتفاقات، وأن ثمة أسبابا تدعو للحفاظ على هذه الاتفاقات. لكن الزعم بأن النظام الاجتماعي يعول على المعاني والتفاهمات المشتركة وحدها شيء آخر تماما، وأكثر إثارة للدهشة إن صح. عادة ما كان هابرماس يلام على استنتاجه المفتقر إلى المنطقية والقائل إن أفراد المجتمع، بمجرد فهم كل منهم مغزى الآخر، سيلتزمون بالقواعد الاجتماعية والأخلاقية نفسها.
يهاجم الاعتراض الثاني النظرة المثيرة للجدل التي ترى أن هناك ثلاثة ادعاءات صحة مميزة؛ أحدها للحقيقة والثاني للصواب والثالث للصدق. يرفض هابرماس فكرة أن هناك نوعا واحدا فقط للمعنى - ألا وهو المعنى المشروط بالصحة - وأن الجمل التي لا تشتمل على شروط صحتها - مثل «كيف حالك؟» أو «لا تسرق!» - لا معنى لها عمليا. لكن البديل - وهو أن هناك ثلاثة أنواع من ادعاء الصحة - يبدو أقل جاذبية. لنفكر في إحدى الجمل المختلطة، مثل «صفعتني على وجهي، الأمر الذي لم يكن مسموحا». يبدو وكأن الجزء الأول من العبارة يطرح ادعاء بصحة الحقيقة، بينما يطرح الجزء الثاني ادعاء بصحة الصواب. كيف لنا إذن أن نفهم معنى الجملة بأكملها؟ تمزج اللغة الطبيعية بسلاسة بين سمات معيارية ومعرفية وتعبيرية: جملة «انتحل الطالب أفكار كتابي!» قد تقرر واقعا فورا، وفي الوقت نفسه تعبر عن موقف استنكاري؛ نظرا لمخالفة معيار محدد، وتكشف عن مشاعر ذاتية. من الواضح أن نظرية هابرماس للفهم تنتقد هذه الجوانب المتنوعة، وتنسبها إلى أبعاد صحة مختلفة.
ورغم أن هذه الانتقادات هادفة، فيجب ألا ننسى أن تقصيات هابرماس في اللغة والمعنى والحقيقة اعتبرت دراسة تمهيدية لنظريته الاجتماعية. فقد كان اهتمامه بما تستطيع نظريات المعنى والفهم أن تقدمه للنظرية الاجتماعية دوما أكثر بكثير من اهتمامه بما يمكن أن تقدمه النظرية الاجتماعية لها؛ ومن ثم فقد نزع إلى أن ينتقي بعناية أجزاء من فلسفة اللغة يمكن أن تخدم أغراضه. ولا ينبغي أن نخضع لإغراء إنكار فلسفة هابرماس برمتها على أساس أن ثمة أخطاء أو مفاهيم خاطئة في نظريته للمعنى. يجب أن نركز بدلا من ذلك على ماهية الأفكار المتعمقة التي تسمح نظرية المعنى البراجماتية بإضافتها للنظرية الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. (3) التواصل والخطاب
تتيح مفاهيم الفعل التواصلي والخطاب رابطا جوهريا بين نظرية هابرماس البراجماتية للمعنى ونظريته الاجتماعية والأخلاقية. تتلخص الفكرة حتى الآن في أن معنى فعل الكلام يعتمد على ادعاء صحته. وتعمل ادعاءات الصحة كضمانة على أن المتكلم يستطيع أن يسوق أسبابا داعمة من شأنها إقناع محاوره بقبول كلامه الملفوظ. غالبا ما يحظى الضمان بالقبول ضمنيا من قبل المستمع، ويكفي لتنسيق تفاعلاتهما. ويكفل ذلك فعلا تواصليا ناجحا. عندما يفهم شخص ما طلبا شفهيا بسيطا ويذعن له ، فإن المتكلم والمستمع، بتوصلهما إلى إجماع، ينتقلان بسلاسة من التواصل إلى الفعل، ويتم تنسيق الأفعال ضمنيا بواسطة ادعاءات الصحة.
ولكن، ماذا يحدث عندما يتعطل التواصل؟ ماذا يحدث عندما يرفض المستمع ادعاء بالصحة؟ عندما يطلب المستمع من المتكلم أن يبرر ادعاء بالصحة بإبداء أسباب له، ينتقل الفاعلون نتيجة الخلاف من موقف فعل إلى موقف خطاب. والخطاب تواصل عن التواصل؛ إنه تواصل يتأمل الإجماع المنقطع في سياق الفعل. لنفترض أنك طلبت مني ألا أدخن في مكتبي أثناء وجودك فيه، فرفضت النزول على رغبتك لأنني أعلم أنك أيضا تدخن. سوف أسألك عن الأسباب الداعية لطلبك. ربما تجيب بأنك أقلعت مؤخرا عن التدخين ولا تريد أن تعود إليه مجددا. في هذه الحالة، ربما أقبل سببك وأطفئ سيجارتي. استنادا لوجهة نظر هابرماس، فإننا شاركنا في الخطاب (وإن كان موجزا)، وتوصلنا إلى إجماع مدفوع بالعقلانية (هذه العبارة هي الترجمة الإنجليزية المقبولة للمصطلح
rationales Einverständnis )، وعدنا بسلاسة إلى سياق الفعل.
هناك أربع نقاط مهمة ينبغي ملاحظتها عن الخطاب. أولا: الخطاب ليس مرادفا للغة أو الكلام، لكنه اصطلاح فني لشكل تأملي من الكلام يهدف إلى التوصل إلى إجماع مدفوع بالعقلانية (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). ويهدف الخطاب دوما في المقام الأول إلى الإجماع المدفوع بالعقلانية، حتى لو لم يكن هناك أي إجماع يلوح في الأفق. ثانيا: لا يدل اصطلاح «الخطاب» على شكل نادر وغير مألوف من النشاط اللغوي الذي يمارسه في المقام الأول الفلاسفة والمتحذلقون، بل يسلط الخطاب الضوء على ممارسة الجدل والتبرير الشائعة التي تدخل في نسيج الحياة اليومية. ورغم ذلك، فالخطاب ليس لعبة لغوية واحدة من بين ألعاب لغوية كثيرة؛ وذلك لأن الخطاب، بحسب هابرماس، يشغل مكانة مميزة في العالم الاجتماعي. ويفترض هابرماس أن الخطاب هو الآلية الافتراضية لتنظيم الصراعات اليومية في المجتمعات الحديثة. وهذه الفرضية تجريبية؛ إذ تستند إلى الملاحظة. إن وظيفة الخطاب هي تجديد أو علاج إجماع فاشل، وإعادة ترسيخ الأساس العقلاني للنظام الاجتماعي. وهذه الفرضية إصلاحية؛ إذ تستند إلى تحليل لممارسة الخطاب.
شكل 3-2: الأنواع الثلاثة للخطاب.
ثالثا: يرتبط مفهوم الخطاب ارتباطا وثيقا بمفهوم ادعاء الصحة. فالخطاب يستهل بطعن من قبل المستمع للمتكلم؛ إذ يطلب إليه أن يبرر ادعاءه بالصحة. وبما أن هناك ثلاثة أنواع لادعاء الصحة (الحقيقة والصواب والصدق)، فهناك ثلاثة أنواع مقابلة للخطاب: النظري والأخلاقي والجمالي.
على سبيل المثال، فالخطاب الذي يسعى إلى تبرير ادعاء بصحة الصواب، بطلبك أن أكف عن التدخين، يمثل بحسب نظرية هابرماس خطابا أخلاقيا-عمليا. وأي خطاب ينشأ من طعن في ادعاء بصحة الحقيقة هو خطاب نظري. (يجب أن يتحرى المرء الحيطة هنا؛ فالمصطلح «نظري» مستخدم بمعنى أكثر شمولا من المعتاد.)
النقطة الرابعة والأخيرة هي أن الخطاب نشاط شديد التعقيد والانضباط وليس كلاما شفهيا في متناول الجميع؛ وهذا لأن المحاجة ممارسة تتشكل تبعا لقواعد قابلة للتحديد والصياغة. يشير هابرماس إلى هذه القواعد باعتبار أنها «صبغ الفرضيات المسبقة البراجماتية للخطاب بصبغة مثالية»، أو اختصارا «قواعد الخطاب». (4) قواعد الخطاب
يحدد هابرماس ثلاثة مستويات من القواعد. على المستوى الأول، نجد القواعد المنطقية والدلالية الأساسية كمبدأ عدم التعارض وشرط الاتساق (الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي). وعلى المستوى الثاني، هناك المعايير التي تحكم الإجراء، كمبدأ إخلاص النية؛ أي إن كل مشارك يجب أن يقوم بتأكيد ما يؤمن به صدقا؛ ومبدأ المساءلة؛ أي أن يقوم المشاركون - نزولا على طلب الآخر - بتبرير ما يؤكدونه أو بتقديم أسباب لعدم تقديمهم تبريرا. وعلى المستوى الثالث، هناك المعايير التي تحصن عملية الخطاب من الإرغام والكبت وعدم المساواة، وتضمن أن «القوة الحرة للحجة الأفضل» هي التي ستنتصر. وتتضمن القواعد التالية: (1)
كل شخص لديه القدرة على الكلام والفعل يسمح له بالمشاركة في الخطاب. (2) (أ) يسمح لأي شخص بالتشكيك في أي تأكيد أيا كان. (ب) يسمح لأي شخص بطرح أي تأكيد أيا كان ضمن الخطاب. (ج) يسمح لأي شخص بالتعبير عن آرائه ورغباته واحتياجاته. (3)
لا يجوز منع أي متكلم، سواء بإرغامه بقوة داخلية أو خارجية، من ممارسة حقوقه المنصوص عليها في البندين 1 و2 أعلاه. «الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي»
يسمي هابرماس قواعد الخطاب «الفرضيات المسبقة البراجماتية » لأنها فرضيات مسبقة ضمنية لممارسة الخطاب. وقواعد الخطاب أقل شبها بقواعد لعبة تكوين الكلمات أو الشطرنج، المكتوبة في مكان ما، وأكثر شبها بقواعد النحو اللغوية. ويستطيع المرء أن يتبع هذه القواعد تماما دون أن يكون قادرا على التصريح بكنهها أو دون أن يدري أنه يتبعها. ويصر هابرماس على أن هذه الفرضيات المسبقة للخطاب «ضرورية»؛ وذلك لأنه لا أحد ممن يشارك في الخطاب - في عملية طرح الأسباب واستقبالها - يستطيع أن يتفادى افتراض هذه الفرضيات. إن الانخراط في الخطاب يستدعي أن يلتزم المرء بإخلاص النية، وأن يبرر ما يقول، وألا يناقض نفسه، وألا يستثني غيره من المشاركين، وما إلى ذلك. وهذه الفرضيات ضرورية من ناحية أخرى أيضا. فيما يتعلق بالفاعلين في المجتمعات الحديثة، لا يوجد بديل متاح للتواصل والخطاب كوسيلة لحل الصراعات؛ فهي وسيلة راسخة جدا في نسيج المجتمع، وفي شخصية الأفراد.
وأخيرا، فقواعد الخطاب «نزاعة إلى المثالية» من حيث إنها توجه المشاركين نحو النموذج المثالي للإجماع المدفوع بالعقلانية. إن الخطاب الذي يستمع فيه إلى كل المعنيين، والذي لا تستثنى أي حجة فيه من الاعتبار اعتباطيا، والذي تكون الغلبة فيه لقوة الحجة الفضلى وحدها؛ سيفضي، إذا باء بالنجاح، إلى إجماع على أساس أسباب مقبولة للجميع. وفي عالم الواقع حين يكون الوقت محدودا والمشاركون عرضة للخطأ، ستقرب الخطابات وحسب هذه المثل بدرجة أكبر أو أقل. ومع ذلك، فمن الممكن أن يكون لها أثر تنظيمي يتمثل في ضمان الإحاطة والشمولية وغياب الخداع والقسر. هذه المثل تنظيمية، لكنها أيضا حقيقية بقدر ما تكون ممارسة المحاجة الراسخة فيها هذه المثل حقيقية.
السؤال المتعلق بكيفية تحديد المرء لقواعد الخطاب صعب. يعتقد هابرماس أن المرء يستطيع أن يدلل على أن كل قاعدة فرضية مسبقة أصيلة لا مناص منها للخطاب بفعل التناقض الذاتي الأدائي. جمل مثل «الجو ممطر، لكنني لا أصدق ذلك» أو «الثلج أبيض، لكنه ليس حقيقيا أن الثلج أبيض» تنطوي على مفارقة؛ وذلك لأنه فور أن يلفظها المتكلم، فإنه يطرح ضمنا ادعاء بالصحة ينكره محتواها صراحة. ويزعم هابرماس بأن المعنى البراجماتي لمثل هذه الجمل يتعارض مع معناها الافتراضي. وفي سياق مماثل، يرى هابرماس أن عبارات مثل «وصلنا إلى إجماع مدفوع بالعقلانية باستبعاد أشخاص بعينهم من الخطاب» تحتوي على تعارض ذاتي أدائي. وبهذه الطريقة، فإن ذريعة الدحض الذاتي الأدائي يمكن استخدامها لتبرير القاعدة الأولى، وهكذا بالنسبة لكل قاعدة من قواعد الخطاب. ومن الممكن التحقق إن كانت إحدى القواعد هي بالفعل واحدة من قواعد الخطاب أم لا بالنظر إلى ما إذا كان إنكارها الصريح يولد دحضا ذاتيا أدائيا أم لا. (5) نظرة عامة على الصحة والحقيقة والصواب
إذا جمعنا الأجزاء كلها جنبا إلى جنب - أطروحة الإجماع والأطروحة العقلانية وفكرة الخطاب - فسنركز بقدر أكبر على المفهوم البراجماتي للصحة عند هابرماس. وأدق وسيلة وأكثرها جلاء يمكننا بها تحقيق ذلك هي المعادلة الشرطية التالية للصحة- الإجماع:
الصحة ←
الإجماع: فيما يتعلق بأي كلام ملفوظ «ك»، إذا كان «ك» صحيحا، فإن «ك» قابل للإجماع المدفوع بالعقلانية.
هذه المعادلة محاولة مني لأن أقدم على نحو أكثر شكلية بنية مبدأ الصحة عند هابرماس. لكن الأمر يستدعي الحذر؛ فلن تجد هذه المعادلة أو المعادلتين التاليتين في كتابات هابرماس. إنها مجرد طريقة موجزة جدا (آمل ذلك) ومفيدة للإحاطة بملاحظات هابرماس المبعثرة والمتشعبة نوعا ما عن الصحة والحقيقة والصواب، ولبيان العلاقة التي تربط كلا منها بالأخرى.
إن التلفظ بلفظ ذي مغزى أو التواصل هو طرح ادعاء بالصحة؛ أي إن المرء يقدم أسبابا يمكن أن يقبلها المشاركون في خطاب يدور وفق القواعد سالفة الذكر. لا يكتفي هابرماس بزعم أن الصحة، لا الحقيقة، هي المفهوم الكامن وراء نظرية المعنى فحسب، بل يذهب إلى أن الحقيقة نفسها يمكن فهمها كشرط من شروط تلك الفكرة العامة الكامنة عن الصحة. ما يعنيه هو أن مفهوم الحقيقة له نفس الصلة بالأسباب ونفس الوظيفة البراجماتية للوصول إلى الإجماع:
الحقيقة ←
الإجماع: فيما يتعلق بأي كلام ملفوظ «ك»، إذا كان «ك» حقيقيا، فإن «ك» قابل للإجماع المدفوع بالعقلانية.
علاوة على ذلك، يزعم هابرماس أن الصواب يمكن أيضا فهمه كشرط للفكرة الكامنة الأساسية؛ ولذا، فإن مفهوم الصواب يمكن حصره في معادلة مختلفة بعض الشيء:
الصواب ←
الإجماع: فيما يتعلق بأي معيار «م»: إذا كان «م» صوابا، فإن «م» قابل للإجماع المدفوع بالعقلانية.
عندما أقول كلاما أخلاقيا، فإنني أؤيد ضمنا المعيار الكامن وراء الفعل. وكما ألزم نفسي - في فعل تأكيد الكلام - بحقيقة الكلام، فعندما ألفظ جملة «السرقة إثم»، فإنني أؤيد المعيار الكامن وراءها «لا تسرق». وجهة النظر الأساسية هي أن أبعاد الصحة المختلفة - التأكيدات من ناحية، والأفعال الأخلاقية وأفعال الكلام من ناحية أخرى، والفرضيات والعناصر الأدائية - لها نفس البنية ونفس الوظيفة البراجماتية.
ينتهي هابرماس إلى أن مفهومي الحقيقة والصواب متناظران، وتثبت المعادلات الواردة أعلاه كيف يفترض بالتناظر أن يكون؛ إنه يكمن في جزء شرطي فيه الصحة والحقيقة والصواب على الترتيب على الجانب الأيمن من المعادلة، والإجماع المدفوع بالعقلانية على الجانب الأيسر. وأيا ما كان يزعم صحته أو حقيقته أو صوابه، يمكن بالضرورة أن يحظى بموافقة المشاركين في خطاب يجري على نحو ملائم. والعلاقة «ضرورية» بمعنى براجماتي خاص وحسب؛ ألا وهو أن المتحدثين والمستمعين والفاعلين بصفة عامة لا يستطيعون الفرار من هذه العلاقة. وتدلل صلة «إذا ... فإن» على معنى ضمني براجماتي، لا معنى منطقي.
وأخيرا، يقدم لنا هابرماس أيضا تفسيرا لهذا التناظر. فالحقيقة والصواب متناظران؛ لأنهما شرطان لمعيار دقة واحد: الحقيقة والصواب ينتميان إلى الصحة. سأستعرض المزيد من الصواب وعلاقته بالحقيقة، وسأسهب في تناول فكرة الخطاب لاحقا. والآن علينا أن ننتقل إلى برنامج النظرية الاجتماعية.
الفصل الرابع
برنامج النظرية الاجتماعية
السؤال الأساسي الذي تطرحه النظرية الاجتماعية عند هابرماس هو: كيف يكون النظام الاجتماعي ممكنا؟ ويجيب هابرماس بأنه في المجتمعات الحديثة العلمانية يرتكز النظام الاجتماعي في المقام الأول على الفعل التواصلي (الفعل الذي يتم تنسيقه بواسطة ادعاءات الصحة) وعلى الخطاب اللذين يساعدان معا في تأسيس الاندماج الاجتماعي والحفاظ عليه؛ أي إنهما يوفران المادة اللاصقة التي تجمع بين أجزاء المجتمع. ويفعل هابرماس ذلك عن طريق نظرية تتألف من جزأين يدعم كل منهما الآخر ، يقعان تقريبا في المجلد الأول والمجلد الثاني من «نظرية الفعل التواصلي». الجزء الأول مفاهيمي في المقام الأول. يقدم هابرماس تمييزا قاطعا بين الفعل التواصلي والفعل الأداتي أو الاستراتيجي، ثم يحاول أن يبرهن على أن الثاني يعول على الأول. أما الجزء الثاني فهو عبارة عن علم وجود اجتماعي؛ وهي نظرية للهيئة التي عليها المجتمع ومكوناته المتشكل منها. يذهب هابرماس إلى أن المجتمعات الحديثة تتكون من نطاقين أساسيين من النشاط الاجتماعي، العالم المعيش والنظام، وهما نظيران ومحلان للفعل التواصلي والأداتي على الترتيب. (1) الحجة المفاهيمية
يميز هابرماس بين الفعل التواصلي من ناحية والفعل الأداتي والاستراتيجي من ناحية أخرى. (إنني أضع الفعل الأداتي والاستراتيجي في السلة نفسها. ولكن هناك في الواقع فارق مهم بين الفعل الأداتي والاستراتيجي؛ فبحسب هابرماس، يكون الفعل أداتيا عندما يقدم الفاعل على فعل كوسيلة لتحقيق غاية مرجوة؛ أما الفعل الاستراتيجي فهو ضرب من الفعل الأداتي ينطوي على حمل الآخرين على القيام بأفعال كوسيلة لتحقيق المرء غايته. والنقطة المحورية هي أن كليهما يختلف عن الفعل التواصلي.)
الفعل الأداتي هو النتيجة العملية للمنطق الأداتي؛ أي تقدير أفضل السبل للوصول إلى غاية بعينها. يقول هابرماس بأن هناك معيارين للفعل الأداتي: الأول أن غاية الفعل تتحدد مسبقا وباستقلالية عن وسيلة تحقيقها، والثاني أن الغاية تتحقق بتدخل سببي في العالم الموضوعي. ولا يفي الفعل التواصلي بالمعيارين السابقين؛ وذلك لأن هدفه المتأصل - وهو إقرار ادعاء بالصحة وقبوله - يستحيل أن يتحدد بمعزل عن وسيلة تحققه، وهي الكلام، وهو ليس بالشيء الذي يمكن إنجازه سببيا.
ولندرك العلة، يجب أن نرجع إلى مثال سابق؛ لكي تمنعني من التدخين، يمكنك ببساطة أن توجه مطفأة الحريق ناحيتي وتقول لي: «إذا أشعلت سيجارتك، فسأطفئها بهذه مطفأة.» لنفترض أن لدي من الأسباب ما يجعلني أتعامل مع تهديدك بجدية، وأريد أن أتجنب رذاذ مطفأة الكاسح. في هذه الحالة أنت نجحت في جعلي أذعن لك. ولكن، لن يكون فعل الإذعان طوعيا من جانبي بالمعنى المعتاد للكلمة؛ وذلك لأن خيار الرفض ليس بالخيار الذي يمكنني أن أستقر عليه جديا؛ ولذا، فقد قمت أنت بحملي أو إرغامي على الإذعان لطلبك. في السيناريو البديل الموضح في الفصل السابق، ستجد أنك تنجح في إقناعي (بإذعاني لطلبك) على أساس قبولي لأسبابك التي سقتها. وهذا القبول أو تحقيق الإجماع ليس بالشيء الذي تسببت فيه، بل هو نتيجة عملية ثنائية دعوتني فيها، إذا جاز التعبير، إلى المشاركة.
لا يكتفي هابرماس بالدفع بأن الفعل التواصلي والفعل الأداتي نوعان متمايزان من الأفعال، بل يزعم أنهما أساسيان ولا يمكن اختزالهما إلى أنواع أخرى. وهذا التمايز مفاهيمي وواقعي في الوقت نفسه. وهناك طريقتان يمكن من خلالهما فهم الفعل، وطريقتان مختلفتان يستطيع من خلالهما الفاعلون الحقيقيون التواصل في العالم الاجتماعي.
الخطوة الثانية في الحجة أصعب في إدراكها وفهمها؛ فالنتيجة التي يريد هابرماس أن يصل إليها واضحة، لكن الحجة التي يسوقها غامضة. يريد هابرماس أن يثبت أولا: أن التفسير الوافي للمجتمع يجب أن يعطي أعلى مرتبة لمفهوم الفعل التواصلي، وثانيا: أن كل الأفعال الناجحة في العالم الواقعي تعتمد على القدرة على الوصول إلى إجماع. وتحقيقا لهذه الغاية، يجري هابرماس تحليلا لنظرية فعل الكلام، وخاصة للفارق بين أثري «الإنطاق» و«الاستنطاق». أول من تحدث عن هذا الفارق كان فيلسوف أكسفورد جيه إل أوستن (1911-1960)، وهو أحد مؤسسي فلسفة اللغة العادية. وكالعادة يهيئ هابرماس الفارق لخدمة أغراضه الخاصة. بحسب هابرماس، فإن أثر الإنطاق لفعل الكلام هو توليد الإجماع المدفوع بالعقلانية، أو الحصول على غاية بعينها (على سبيل المثال، إقناعي بألا أدخن) عن طريق الوصول إلى إجماع. يوضح المثال السابق ببراعة هذه النقطة؛ فهدف الإنطاق لما لفظته من كلام ليس حملي وحسب على ألا أدخن، بل إقناعي بقبول طلبك باعتباره صحيحا أو معقولا، وإذعاني له طواعية. وفي المقابل، فإن أثر الاستنطاق هو الأثر الذي يتمتع به فعل الكلام بخلاف تحقيق الفهم. بتحذيري لك، قد أثير ذعرك أو ربما أدفعك للضحك. أما آثار الاستنطاق فهي خفية، لكنها ربما تكون محمودة أو مذمومة، أو ربما لا تكون محمودة ولا مذمومة.
يقول هابرماس إن أفعال الكلام ذاتية التفسير. فعندما أرى شخصا يجري على الطريق من أمامي، فربما أنه يفر أو أنه في عجلة من أمره أو أنه يتريض. عادة ما سأفسر أفعاله بأن أنسب مواقف افتراضية معينة له على أساس سلوكه أو مظهره الخارجي، كما فعلنا بالضبط في حالة الحطاب في الفصل الثاني. لست بحاجة لأن أفعل ذلك في وجود أفعال الكلام؛ وذلك لأن هدفها الإنطاقي معروف للجميع. فإذا طلبت من طالب يجلس إلى جوار نافذة ما في إحدى الندوات أن يفتح النافذة، فسيعرف غايتي، وربما سيكون لديه فكرة جيدة عن دوافعي. يوضح فعل الكلام الخاص بي نياتي وغاياتي. والآن، من الممكن استخدام الكلام أيضا استراتيجيا لتحقيق غايات خفية أو آثار استنطاق؛ فقد أحاول أن أخلي المكتبة بأن أصرخ «حريق!» بطريقة مثيرة للذعر وتنم عن ذعري بشكل ملائم للموقف. ولن تكلل محاولتي هذه بالنجاح إلا إذا حسب الناس الذين يسمعونني أنني أحذرهم حقا من اندلاع حريق. إنهم يستطيعون فهم «قولي»، لكنهم لا يدرون ما «أفعله» حقا بكلامي الملفوظ ما دامت غاية الاستنطاق لما لفظته ليست واضحة للعيان. ولمعرفة المعنى الحقيقي لكلامي الملفوظ، يجب على المستمع بطريقة ما أن يصل إلى غايتي الاستراتيجية الكامنة أو الخفية. ولكن وصوله هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق فعل الكلام الإنطاقي. إن الهدف من تحليل هابرماس لأفعال الكلام هو إثبات أن غايات الإنطاق، لأنها واضحة للعيان في الأساس، أبسط نظريا وبراجماتيا من غايات الاستنطاق. ويتوسع هابرماس في هذه النقطة إلى الأفعال الأداتية والاستراتيجية عموما، ويستنبط أنها تعول على الفعل التواصلي، في حين أن الفعل التواصلي أساسي ومستقل. واستنادا إلى رأي هابرماس، فإن تهديدك باستخدام مطفأة الحريق في وجهي قد يحقق الأثر المرجو، لكنني لن أستوعب أفعالك بالكامل حتى أفهم الأسباب الداعية لها وأقبلها.
ثمة خلاف على تحليل هابرماس، وطريقة استدلاله صعبة التتبع، لكننا نستطيع أن نرى النتيجة التي يسعى إليها؛ وهي أن معاني أفعال الكلام والأفعال عموما لا يمكن فهمهما بشكل أداتي. وهذا جزء محوري من حجة هابرماس التي يسوقها ضد الروايات الفردية والأداتية للنظام الاجتماعي. ولا يمكن للتصورات الذرية والأداتية للمجتمع أن تفسر ظاهرة التواصل بين الفاعلين؛ ومن ثم فهي لا تميز أثرها التكاملي على المجتمع. يمكننا الآن إدراك السبب وراء ظن هابرماس أن الإجابة التقليدية على مسألة فهم معاني الأفعال تمزج بين نظرية المعنى الخاطئة وتصور زائف عن العقلانية. بناء على التصور التقليدي، يعتمد معنى الأفعال على شروط صحة المواقف الافتراضية المنسوبة إلى الأفراد على أساس سلوكهم الخارجي، والاستنباطات المنطقية التي تجري في رأس كل منهم. والنتيجة تصور زائف للمجتمع باعتباره مجموع مفكريه المفردين، يقدر كل واحد منهم الطريقة المثلى للسعي وراء غاياته الخاصة. ويتفق هذا التصور مع وجهة نظر أنثروبولوجية واسعة الانتشار، مفادها أن البشر يهتمون بالمصلحة الذاتية أصلا، وهي وجهة النظر الممتدة من اليونانيين القدماء ومنهم إلى الفلسفة الحديثة المبكرة وصولا إلى العصر الحالي. إن النظرية الاجتماعية الحديثة، في ظل تأثير هوبز أو نظرية الاختيار العقلاني، تنظر إلى المجتمع بمعطيات شبيهة. في رأي هابرماس، تتجاهل هذه السبل الدور المحوري للتواصل والخطاب في تشكيل الروابط الاجتماعية بين الفاعلين؛ ومن ثم فهي تشتمل على تصور قاصر للارتباط البشري. (2) علم الوجود الاجتماعي
علم الوجود الاجتماعي عند هابرماس هو نظرية تتناول تكوين المجتمع في أواخر القرن العشرين. وفي قلب هذه النظرية يكمن الفارق بين العالم المعيش والنظام؛ وهما نطاقان متمايزان للحياة الاجتماعية؛ لكل منهما ما يميزه من قواعد ومؤسسات وأنماط سلوكية، إلخ. إن العالم المعيش والنظام هما محلا الفعل التواصلي والفعل الأداتي على الترتيب، وهنا أيضا يزعم هابرماس أن النظام يعتمد على العالم المعيش. وقبل أن نصرح بأي شيء عن علاقتهما، نحن بحاجة إلى دراسة هذين الاصطلاحين عن كثب. (2-1) العالم المعيش
العالم المعيش مفهوم يشير إلى الحياة اليومية التي نشاطرها الآخرين. استخدم الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859-1938) - الذي أسس علم الظواهر وتتلمذ على يده مارتن هايدجر - هذا المصطلح لأول مرة من أجل المقارنة بين الموقف الطبيعي ما قبل النظري لعامة الناس من العالم بالمنظور النظري، والتشييئي، والحسابي للعالم. يفعل هابرماس شيئا شبيها؛ فالعالم المعيش هو الاسم الذي يستخدمه للنطاقات غير الرسمية وغير المسوق لها من الحياة الاجتماعية: كالعائلة والأسرة، والثقافة، والحياة السياسية خارج إطار الأحزاب المنظمة، ووسائل الإعلام الجماهيرية، ومنظمات العمل الطوعي، وما إلى ذلك.
هذه النطاقات غير المنظمة للنشاط الاجتماعي توفر مخزونا من المعاني والتفاهمات، وأفقا اجتماعيا للقاءات اليومية بالآخرين. وهذا الأفق هو الخلفية التي يحدث في إطارها الفعل التواصلي. إن استخدام استعارة «الأفق» من علم الظواهر له هدف توجيهي؛ فالأفق يرسم حدود مجال رؤية البشر تحت الظروف الطبيعية. ومجال الرؤية موحد، لكنه ليس كلا كاملا ما دام يستحيل استيعابه كله مرة واحدة. ولا يسعنا استيعاب الأفق بالكامل في مجال رؤيتنا؛ لأننا لا نستطيع أن نرى إلا في اتجاه واحد في كل مرة. والأفق أيضا منظوري؛ فالحدود تتبدل، ولو ببطء، عندما نتحرك. وفي المقابل، فإن حدود أي شكل هندسي أو قطعة أرض تكون ثابتة وقابلة للقياس.
وقياسا على ذلك، تشكل المعاني والتفاهمات المشتركة للعالم المعيش وحدة واحدة وليس مجموعا كليا. وأي جزء من هذه الشبكة يمكن صياغته على هيئة فكرة، لكن يستحيل صياغته كله في آن واحد. إن محتويات العالم المعيش قابلة للمراجعة والتغير، ولكن التغير الذي يحدث في العالم المعيش يكون تدريجيا بالضرورة. لاحظ أن التغير، مع أنه تدريجي، قد يكون مع ذلك راديكاليا وكاملا. لا يوجد أي سبب يعلل أن كل جزء من العالم المعيش لا ينبغي مراجعته أو استبداله في نهاية المطاف. وهذه خاصية يشترك فيها العالم المعيش مع اللغة؛ وهذا الاشتراك لم يكن وليد المصادفة؛ لأن التواصل هو الوسط الذي يوجد فيه العالم المعيش. وضع الفيلسوف أوتو نويرات (1882-1945)، الفيلسوف اللغوي المنتمي إلى مدرسة فيينا، تصورا واضحا لموقفنا اللغوي. إننا على متن قارب في عرض البحر، ولا يمكننا أن نرسو بالقارب في حوض السفن الجاف لنفحصه من الخارج، لكننا نستطيع استبدال أي لوح خشبي معطوب بالقارب مع الإبقاء على القارب في حالة طفو دائم. والشيء نفسه ينطبق على العالم المعيش. استنادا إلى تصور هابرماس، توكل مهمة تنفيذ إصلاحات طفيفة بالعالم المعيش إلى الفعل التواصلي والخطاب.
للعالم المعيش العديد من الوظائف. فهو يوفر السياق للفعل؛ أي إنه يشمل مخزونا من الفرضيات المشتركة والمعارف المسبقة، ومن الأسباب المشتركة التي على أساسها قد يتوصل الفاعلون إلى إجماع. وما دام هذا السياق المشترك في الخلفية أو، على حد قول هابرماس، دون أن يصاغ في شكل فكرة محددة، فسيظل أثره خفيا، لكنه سيؤدي وظيفته؛ ألا وهي جعل التوصل إلى إجماع ممكنا ومعتادا حقا؛ ولذا، من ناحية، فهو قوة للإدماج الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، فإن منظومة الاتفاق التي يكفلها العالم المعيش هي شرط إمكانية التفكير النقدي والاختلاف الممكن.
إجمالا، إن العالم المعيش حفيظ على المعنى الاجتماعي، بمعنى أنه يحد من إمكانية حدوث الشقاق والخلاف وسوء الفهم الذي يصاحب أي حدث من أحداث التواصل والخطاب. كلما وقع فعل تواصلي ناجح، تم التوصل إلى إجماع يصب مرة أخرى في العالم المعيش ويجدده؛ ولذا، فالعالم المعيش يدعم الفعل التواصلي، والفعل التواصلي بدوره يغذي العالم المعيش عن طريق إثراء مخزون المعرفة المشتركة؛ ولذا، فالعالم المعيش قادر على أن يعمل عمل حائط الصد ضد التفكك الاجتماعي؛ إذ يقاوم تشظي المعاني، ويحول دون نشوء تضارب في الأفعال.
وأخيرا، العالم المعيش هو الوسط الذي يحدث فيه الاستنساخ الرمزي والثقافي للمجتمع، وهو الوسيلة التي يتم من خلالها توريث التقاليد، مع أنها تمر عبر العدسات الناقدة للتواصل والخطاب. في الظروف الطبيعية؛ أي في ظل غياب الاضطرابات الاجتماعية الهائلة، يعمل العالم المعيش عمل الوسط في نقل كل أشكال المعرفة وتطويرها؛ المعرفة الفنية والعملية والعلمية والأخلاقية. (2-2) النظام
يشير النظام إلى البنى الرسوبية والأنماط الراسخة للفعل الأداتي. ويمكن تقسيمه إلى نظامين فرعيين مختلفين هما المال والسلطة، وفقا للغايات الخارجية التي تفرضها على الفاعلين. يشكل المال والسلطة «الإعلام الموجه» الخاص بهما (أي آليات التوجيه والتنسيق المتأصلة) للاقتصاد الرأسمالي من ناحية، وإدارة الدولة والمؤسسات ذات الصلة كالخدمة العامة والأحزاب السياسية التي تقرها الدولة من ناحية أخرى. وفقا لهابرماس، تشق أنظمة المال والسلطة لنفسها قنوات عميقة في الحياة الاجتماعية؛ مما يترتب عليه أن الفاعلين يقعون بطبيعة الحال في أنماط راسخة مسبقا من السلوك الأداتي. على سبيل المثال، أي شخص يعمل لدى شركة، سواء أكان من كبار التنفيذيين أو موظفا بسيطا، سيقوده الدور الذي يتقلده إلى أنماط أفعال بعينها سعيا لتحقيق أهداف مالية. وما دامت أهداف الفعل الأداتي تتحدد سلفا وبمعزل عن التوصل إلى الإجماع، فإن أغلب الأهداف النهائية الموجهة إليها أفعال المنتمين إلى النظام محددة مسبقا، وليست مختارة من قبلهم. علاوة على ذلك، فهي لن تكون دوما ظاهرة للفاعلين الذين يعملون على تحقيقها. وسواء أكان مشجعي فريق مانشستر يونايتيد لكرة القدم على دراية بذلك أم لا، فإن أفعالهم تخدم هدف تحقيق مكاسب للشركة المالكة للفريق تكون كافية لتوزيع الأرباح على حملة الأسهم بها.
الوظيفة الأساسية للأنظمة الفرعية للمال والسلطة هي الاستنساخ المادي للمجتمع؛ أي إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها. لكنها تلبي وظيفة أخرى مهمة جدا شبيهة بوظيفة العالم المعيش؛ وذلك لأنها تنسق بين الأفعال، ولها أثر تكاملي خاص بها. ويطلق هابرماس على هذا الأثر اسم «تكامل النظام»؛ تمييزا له عن «التكامل الاجتماعي»، وهو الأثر الذي يحققه العالم المعيش. وبينما أمست المجتمعات أكبر حجما وأكثر تعقيدا في فجر التصنيع والتحديث، وإذ أصبح الناس أكثر حركة، أضحى التكامل الاجتماعي أكثر صعوبة يوما بعد يوم. وفي ظل هذه الظروف، خففت أنظمة كالاقتصاد وإدارة الدولة العبء الواقع على التواصل والخطاب؛ فهي تساعد على الحفاظ على تماسك المجتمع.
يمكننا أن نرى هنا كيف يختلف هابرماس عن أدورنو وهوركهايمر اللذين يتبنيان وجهة نظر تكاد تكون سلبية بالكامل تجاه العقلانية الأداتية عامة والاقتصاد الرأسمالي خاصة. هابرماس ليس عدائيا تجاه العقلانية الأداتية في حد ذاتها، ولا تجاه المؤسسات التي تجسد منطقها الأداتي، وهي الدولة واقتصاد السوق؛ فهو يدرك أنهما يؤديان وظائف اجتماعية ضرورية ومهمة، وأن إلغاءهما أو الاستغناء عنهما ليس خيارا متاحا. (2-3) بعض الاختلافات بين العالم المعيش والنظام
يقر هابرماس بإسهامات النظام في الحياة الاجتماعية، لكنه حريص كل الحرص على بيان الأخطار الكامنة في تكامل النظام. أولا : أنظمة المال والسلطة توجه الفاعلين باتجاه غايات لا ترتبط بالفهم أو الإجماع. وتترتب على ذلك تبعتان؛ الأولى: أننا قد نغفل المعنى الكامل أو الأهمية الكاملة لأفعالنا الاقتصادية والإدارية، وهو ما يحدث كثيرا؛ فالأنظمة ترسخ وتدعم أنماطا من الفعل يخفي فيها الفاعلون أهدافهم، ولا يتأملون غايات فعلهم؛ ولذا، فإن لدى الأنظمة نوعا من اللانفاذية المدمجة بها، تمييزا لها عن العالم المعيش (موطن الفعل التواصلي) الذي تميل فيه معاني الأفعال والكلمات وغايات الفعل إلى أن تكون جلية للجميع ومفهومة. ثانيا: الغايات النهائية للفاعلين في الأنظمة (على العكس من الفاعلين في العالم المعيش) لا تئول إليهم حقا. فمن الممكن أن يختاروا السبل لا الغايات النهائية لأفعالهم. ومن ثم، يمكن القول بأن العالم المعيش يفضي عامة إلى الاستقلال الذي يفهم باعتباره سعيا لتحقيق غايات مختارة شخصيا، بطريقة لا يفضي إليها النظام.
ويستشعر الفاعلون هذا الفارق على النحو التالي: ينسق الفاعلون في العالم المعيش أفعالهم عبر ادعاءات الصحة. والقيود التي تحكم أفعالهم وتنتج عن هذه العملية مفروضة طواعية وداخلية المنشأ بقدر ما تنشأ من الإقرار المتبادل بادعاءات الصحة. وفي المقابل، تفرض أنظمة المال والسلطة قيودا خارجية على الفعل، ليس للفاعلين سلطان عليها بأي حال من الأحوال؛ ولذا، فإن النظام يتخذ هيئة يطلق عليها هابرماس «كتلة الواقع شبه الطبيعي»، وهو واقع مستقل ذو منطق داخلي استقلالي يستعصي على سيطرة البشر، ولا يمكن لهم تحمل مسئوليته، ولا ينبغي لهم تحمل تلك المسئولية. (3) استعمار العالم المعيش
يثبت هابرماس أن المجتمعات الحديثة تتألف من توازن هش بين النظام والعالم المعيش. علاوة على ذلك، لأن النظام مدمج في العالم المعيش ويعتمد عليه حقا، فالأولوية للعالم المعيش. وفقا لهابرماس، العالم المعيش وسط مستقل وذاتي التجدد، في حين أن النظام ليس كذلك. النظام يستحيل أن يعمل إلا على أساس موارد المعنى المستخلصة من العالم المعيش. هذه الأطروحة تجريبية في جزء منها، لكن هابرماس يبنيها أيضا على الحجة المفاهيمية المؤيدة لأولوية الفعل التواصلي. فلأن العالم المعيش يجسد أنماط الفعل التواصلي، ولأن النظام يجسد أنماط الفعل الأداتي، ولأن الفعل التواصلي سابق للفعل الأداتي؛ يجب أن يكون العالم المعيش له أسبقية على النظام.
المشكلة هي أنه رغم أن النظام مدمج في العالم المعيش ويعتمد عليه، يميل النظام إلى تخطي العالم المعيش، وإحلال نفسه محله، بل وتدميره. إن نزوع النظام إلى «استعمار» العالم المعيش يفضي إلى قدر أكبر من الهشاشة، والمزيد من إخلال التوازن أو عدم الاستقرار. وفكرة استعمار العالم المعيش تشير إلى مجموعة مركبة من العمليات التاريخية والاجتماعية المؤذية في نهاية المطاف. بداية، تنفصل وسائل إعلام المال والسلطة الموجهة عن العالم المعيش، ويصبح الاقتصاد الرأسمالي والنظام الإداري منفصمين تدريجيا عن نطاقي الأسرة والثقافة ومؤسسات الفضاء العام كوسائل الإعلام الجماهيرية. ومع ازدياد شبكات الفعل الأداتي من حيث كثافتها وتعقيدها، فإنها تتدخل تدريجيا في العالم المعيش وتستوعب وظائفه. وتترك القرارات الاستراتيجية للأسواق، أو توكل إلى المديرين الخبراء. وشيئا فشيئا تختفي شفافية العالم المعيش، وتحجب أسس الفعل والقرار عن المراجعة العامة والرقابة الديمقراطية الممكنة. وبينما يتضاءل نطاق العالم المعيش، تنشأ مجموعة كاملة مما يطلق عليها هابرماس «الآفات الاجتماعية»، تتضمن - على سبيل المثال لا الحصر - الآثار السلبية للأسواق على النطاقات اللاسوقية التي تستعمرها.
الآفات الناتجة عن استعمار العالم المعيش (1) نقص المعاني المشتركة والفهم المتبادل (اللامعيارية). (2) تآكل الروابط الاجتماعية (التفكك). (3) تفاقم شعور الأفراد باليأس وعدم الانتماء (التغريب). (4) إعراض تبعي عن تحمل الأفراد مسئولية أفعالهم والظواهر الاجتماعية (تثبيط الهمم). (5) إخلال الاتزان وانهيار النظام الاجتماعي (عدم الاستقرار الاجتماعي).
وأخيرا، بما أن النظام يعتمد حقا على العالم المعيش، فإن العملية برمتها تترتب عليها حالات من عدم الاستقرار وأزمات في النظام. وبينما يوصف هابرماس بأنه ليس مناوئا للسوق أو النظام، فهو أيضا على دراية كاملة بالآثار الضارة المحتملة التي يمكن أن تكون للأنظمة (كالاقتصاد الرأسمالي والدولة وغير ذلك من المؤسسات الإدارية) على الحياة الاجتماعية وأفراد المجتمع. (4) هل نظرية هابرماس الاجتماعية نقدية؟
من بين أهداف هابرماس الأساسية في «نظرية الفعل التواصلي» تقديم بديل أكثر نفعا، وسليم تجريبيا، ومتسق منهجيا للنظرية النقدية لكل من أدورنو وهوركهايمر ؛ ولذا، فإن نظريته الاجتماعية مصممة بحيث تكون نظرية نقدية. ولكن من أي جانب؟ ينكر بعض المعلقين أن نظرية هابرماس الاجتماعية نقدية من الأساس؛ فهم يرون تحليله قد أسهب في التبرير لنظام الاقتصاد المختلط ودولة الرفاه المؤسسية، واعتذارا لديمقراطية وسط اليسار الاجتماعية الألمانية. ووجهة النظر هذه ليست متشددة وحسب، بل خاطئة أيضا. فنظرية هابرماس عن استعمار العالم المعيش تقدم لنا أجوبة أصيلة ومتعمقة ودقيقة عن السؤال التشخيصي: «ما الذي يعيب المجتمع الحديث؟ ولماذا؟» وتسلط الضوء على قضايا اللامعيارية والتغريب والتشظي الاجتماعي التي أصابت المجتمع الحديث.
وعلى النقيض من نموذج نقد الأيديولوجية، لا تستخدم نظرية هابرماس الاجتماعية الاستراتيجية الانهزامية التي تنسب الأخطاء المتفشية واللاعقلانية إلى الفاعلين كتفسير مفترض لعلة قبولهم مؤسسات وممارسات اجتماعية غاشمة وتأييدهم إياها. بدلا من ذلك، ينسب إليهم هابرماس غايات استراتيجية وأداتية كامنة أو خفية متأصلة في النظام. وتصمد الأنظمة الاجتماعية الغاشمة، ليس لأن الأفراد تلتبس عليهم مصالحهم الشخصية، ولكن لأن أفعالهم تتسم بأنماط راسخة مسبقا ومعقدة من الاستدلال الأداتي. ونظرا لانعدام الشفافية المتأصل في الأنظمة الاجتماعية، تتجاوز أهمية الأفعال قدرة الفاعلين على فهمها وتحمل مسئوليتها.
هل نظرية هابرماس الاجتماعية نقدية انطلاقا من كونها تستطيع تقديم علاج؟ ربما يكون هذا السؤال خاطئا. فهابرماس يقدم نظرية اجتماعية، والنظريات لا تصف علاجات. بالطبع إذا صحت النظرية، فمن الرائع أن تقي العالم المعيش من الاستعمار عن طريق احتواء نظامي المال والسلطة، لضمان وجود نطاقات كافية للحياة الاجتماعية حرة وغير مسوق لها لإحداث التكامل الاجتماعي وطمر نظامي المال والسلطة. الإجابة ليست إلغاء الأسواق والإدارة (ممثلة في الاقتصاد والدولة)، بل احتواؤهما. ولكن، من غير الواضح كيف يمكن، إذا صح ذلك مطلقا، تحقيق ذلك عمليا؟ ومن غير الواضح هوية أو ماهية الملزم بتحقيقه. (من اللافت للنظر أن هابرماس يرى المهمة سياسية أكثر من كونها اجتماعية، وما خلص إليه لا يختلف عن «التحول البنيوي»؛ حيث عقد آماله على التحرر في ضوء إعادة إحياء الفضاء العام.) في «نظرية الفعل التواصلي»، يتحرى هابرماس الصراحة في تقييمه بأنه ما من فاعل، سواء بصفة جمعية أو فردية، يستطيع أن يضطلع بالمهمة. فالدولة، بقدر ما هي ليست جامدة بفعل الاقتصاد، جزء من النظام؛ ومن ثم فهي واحدة من مصادر المشكلة لا الحل. ويطرح هابرماس ما يأمل أن يمتلكه من إصلاح في نظام دولة رفاه ديمقراطية، بقدر ما يمكن أن يتأثر بالمعتقدات الأخلاقية للأفراد، وجماعات الاحتجاج السلمية الموجهة سياسيا.
وتكمن المشكلة في أن مثل هذه الجماعات - التي يطلق عليها أحيانا «الحركات الاجتماعية الجديدة» - لا سلطة بيديها فعليا. وإذا اكتسبت سلطة سياسية، بانتخابها لتتولى مقاليد الحكم، فقد يستحوذ عليها ببساطة النظام الإداري والسياسي. الوسيلة الوحيدة للإصلاح الاجتماعي التي تحددها نظرية هابرماس واهية، ومن المستبعد أن توقف عملية الاستعمار، ناهيك عن إلغائها. ومن بين الاختلافات الكثيرة، يستطيع المرء أن يستشف هنا صدى للتشاؤم الذي يلازم النقد الاجتماعي لهوركهايمر وأدورنو.
هل هذه علامة على أن النظرية الاجتماعية لهابرماس ليست نقدية بالقدر الكافي، أم ببساطة علامة على أنه صادق وواقعي في تقييمه بأنه في العالم الرأسمالي المعاصر لن يقف الكثير في طريق التوسع الذي لا يتوقف للأسواق والإدارة؟ فيما يتعلق بالنقطة الأولى، ينكر هابرماس أن النظريات يمكن، أو حتى يحتمل، أن تكون نقدية بالمعنى الماركسي لإشعال فتيل ثورة. لدى هابرماس مفهوم أبسط بكثير لما يمكن توقع تحقيقه من وراء النظرية الاجتماعية. فالنظريات الاجتماعية ليست هي نفسها محركات التغيير الاجتماعي، بل إنها تقدم ادعاءات بصحة الحقيقة. عمليا، النظريات الاجتماعية في أحسن الأحوال هي أدوات تشخيصية مفيدة تساعدنا في التمييز بين النزعات الضارة والتقدمية في المجتمع الحديث. وبالطبع يريد هابرماس أن يضع نهاية للاضطهاد الاجتماعي، ويمكن فهم حياته وأعماله في ضوء هذه الغاية. يظل هابرماس راديكاليا وإصلاحيا، لكنه واقعي ويعرف أن أغلب ما يمكن أن تحققه نظريته الاجتماعية مباشرة هو مساعدتنا في فهم أسباب الاضطهاد الاجتماعي.
يمكن اعتبار نظرية هابرماس الاجتماعية غير نقدية من منظور مختلف؛ وذلك لأنه يعرض عمدا عن توجيه أي انتقادات أخلاقية صراحة للمجتمع الحديث. على سبيل المثال، يحجم هابرماس عن القول بأن توسع السوق يحيل الناس إلى أفراد قساة القلب ينصب اهتمامهم على أنفسهم وذواتهم، يرون الغير وسائل وحسب لتحقيق غاياتهم الشخصية. وثمة سبب وجيه لذلك. فنظرية هابرماس الاجتماعية، شأنها شأن النقد المتأصل لدى أدورنو وهوركهايمر، من المفترض أن تكون مختلفة عن النقد الأخلاقي. من المفترض أن تكون نظريته منفتحة فيما يتعلق بأسسها المعيارية، على ألا تعول على نظرية أو مفهوم أخلاقي مسبق عن الخير. إن انتقادات هابرماس من هذا المنطلق للمجتمع الحديث وظيفية لا أخلاقية أو خلقية. الاستعمار مؤذ لأنه يعوق القدرة الوظيفية الخيرة للعالم المعيش، ويحرم المجتمع منافع التواصل والخطاب ممثلة في المعاني والمواقف المشتركة، والنظام الاجتماعي، ومشاعر الانتماء، والاستقرار الاجتماعي، وما إلى ذلك.
وعلى ما تقدم، ولأن أفكار هابرماس عن التواصل والخطاب تتسم بالثراء البالغ معياريا، فإن تحليله يصطبغ دوما بصبغة أخلاقية. يعتمد الفعل التواصلي على «الإدراك المتبادل» لادعاءات الصحة. وفي العالم المعيش، نجد أن آلية الكلام المنسقة للفعل تجبر الأفراد على أن يضعوا في اعتبارهم غيرهم من المتكلمين والمستمعين والفاعلين وأسبابهم. ويتألف الخطاب من قواعد تضمن الاحترام المتساوي للآخرين جميعا والتضامن الكلي بينهم. إن مثل المساواة والكلية والشمولية راسخة في الأنشطة التواصلية في العالم المعيش، والفاعلون، بحكم تواصلهم وحسب، يلتزمون بها. ومن ثم، فإن الإدماج الاجتماعي في العالم المعيش نوع من التهذيب الأخلاقي؛ وهي عملية الاعتياد على التصرف بما يتفق مع هذه المثل. وفي المقابل، فإن الأنظمة تغرس العادات الأداتية لمعاملة الآخرين باعتبارها سبلا لتحقيق غايات المرء، وتعزز اللامبالاة فيما يتعلق بغايات الآخرين. وهنا، لا يستطيع المرء أن يمنع نفسه من التفكير في ملاحظة أدورنو بأن عدم اكتراث الطبقات المتوسطة ولامبالاتها كانا «المبدأ الذي من دونه لم تكن أحداث معسكر أوشفيتس ستقع قط.» الفارق الأساسي هو أنه، بحسب تقييم أدورنو، كان عدم اكتراث الناس ولامبالاتهم اللذان أفضا في نهاية المطاف لقسوة بعضهم تجاه بعض؛ كانا تبعة غير مقصودة للجانب السلبي للتحكم الذاتي العقلاني والاستقلال الأخلاقي الكانطي. يرى هابرماس أن ظاهرة شبيهة تنتج عن الآثار المفسدة للأخلاق والناجمة عن استعمار النظام للعالم المعيش، لا من داخل الخلقية نفسها. ومحصلة كل ذلك أن استعارة هابرماس الطبية «الآفات الاجتماعية» لها ميزة خلقية ضمنية وغير معلنة. ظاهريا، تنص نظريته على أن استعمار العالم المعيش يصيب المجتمع بخلل وظيفي. وباطنيا، فهي تشير إلى أن هذا الخلل الوظيفي سيسفر عن ظهور أشخاص فاسدين أخلاقيا.
الفصل الخامس
نظرية الحداثة لدى هابرماس
لفلسفة هابرماس جانب تاريخي ومنهجي في الوقت نفسه. فقد تعلم من هيجل وماركس، ومن الفلسفة التأويلية القائلة بأن موضوعات النظرية الاجتماعية ونظامها لهما تواريخ. وكما قال نيتشه: «الشيء الذي ليس له تاريخ هو وحده الذي يمكن تعريفه.» ولأن المجتمعات لها تاريخ، فإنه لا يمكن تعريفها؛ وهذا لا يعني أنه يتعذر تفسيرها، بل يعني أن تفسيرها يجب أن يضع في الاعتبار هذه التواريخ. وهذا ما تحققه فلسفة هابرماس اقتداء بأسلوب معين (مع أنه أسلوب من المرجح أن يثير حفيظة المؤرخين). حتى الآن، مررت مرور الكرام على حقيقة أن النظرية الاجتماعية لهابرماس تشخيص ونقد للأشكال «الحديثة» من الحياة الاجتماعية، وأن أخلاقيات الخطاب تبرير وبيان للخلقية «الحديثة». والآن حان الوقت لمزيد من التركيز على نظرية الحداثة والتحديث. فذلك من شأنه أن يساعد في تسليط الضوء على البعد الأخلاقي الخفي في نظرية هابرماس الاجتماعية. بإثبات مدى التشابك بين الخلقية والحداثة، ستوضح النظرية السبب الذي يجعل لآثار الاستعمار الاجتماعية الضارة أثرها على أخلاق مجتمع ما.
على مستوى معين، تشير الحداثة إلى فترة من الفترات (أو مجموعة من الأفكار المرتبطة ارتباطا وثيقا بفترة ما) ذات بداية زمنية. وما إن كانت تلك الفترة قد ولت، أو ما زالت تتكشف، أو ما إن كان من المفترض، لو كانت قد مضت، أن نودعها فرحين، كل تلك الأسئلة كانت مثار كثير من الجدل في الثمانينيات مع نشر «نظرية الفعل التواصلي». (لحسن الحظ، من الواضح أن الفترة التي كان فيها هذا السؤال ملحا قد انتهت.) ولكن الحداثة تتجاوز كونها فترة وحسب؛ فهي تشير إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية والمؤسسية والنفسية التي تنجم عن عمليات تاريخية بعينها.
ترتبط الحداثة من هذا المنطلق بمختلف الأعمال والأساليب الجمالية التي تنضوي تحت مسمى «الحداثوية»، لكنها تتمايز عنها. لدى الفنان حرية الاختيار؛ فإما أن يتبنى «الحداثوية» أو لا. أما الحداثة فهي تخالف ذلك. فقد تتجه أنت إلى الحداثوية (أو لا)، أما الحداثة فتأتي إليك. ورغم أنه من المنطقي أن نتحدث عن «نظرية» هابرماس عن الحداثة، كما أفعل الآن في هذا الكتاب، فهي ليست برنامجا منفصلا، كأخلاقيات الخطاب، بل مجموعة من الأفكار والفرضيات المنسوجة بداخل كل البرامج المختلفة.
يمكن القول إن نظرية الحداثة تنقسم إلى نصفين. وثمة رواية تاريخية واسعة النطاق جدا تتناول تطور المجتمع الغربي من نهاية فترة العصور الوسطى وحتى أواخر القرن العشرين. وللحبكة الفرعية الخاصة بنشأة الحداثة العلمانية في تلك الفترة من رحم إرث ديني مسيحي أهمية خاصة. علاوة على ذلك، يقدم هابرماس رواية إصلاحية شديدة الطموح لمنطق التطور الاجتماعي: نظرية للتطور الاجتماعي. لنلق نظرة على كل مما سبق على حدة. (1) الرواية التاريخية (1-1) التحديث والتمييز بين نطاقات القيمة
لقد تعرضنا فيما سبق لبعض وجهات نظر هابرماس حول أصول المجتمعات الحديثة وطبيعتها. في رواية هابرماس، نجد أن الحداثوية عملية تشمل العديد من المستجدات المترابطة، سبق أن تعرضنا لبعضها. أولا: كان هناك نمو كبير في المعرفة، ولا سيما في العلوم الطبيعية، من القرن السابع عشر فصاعدا. كانت علوم العصور الوسطى - وهي وسيلة غير موثوقة لإسناد خصائص من المفترض أنها تفسيرية للمواد على أساس ملاحظات تدريجية - تستند إلى حد بعيد إلى مرجعية أرسطو. وتدريجيا، أفسحت هذه المرجعية المجال لنهج أكثر تنظيما زاوج بين التقنيات الدقيقة للقياس وصياغة النظرية الرياضية، وأسلوب جديد لصياغة الفرضيات التنبئية واختبارها. لقد اتضح أن العلوم الجديدة ناجحة جدا، لدرجة أن صعود نجمها أفضى (على مدار عدة قرون وبالتآزر مع عوامل أخرى) إلى تراجع هيمنة المنهج الأرسطي، ووهن سلطة الكنيسة، وإحلال السلطة المعرفية للعلوم الطبيعية والمنطق محلهما. ويزعم هابرماس (متأسيا بماكس فيبر) أن هذه الزيادة المهولة في المعرفة المفيدة فنيا قد أفضت بدورها إلى الفصل بين ثلاثة نطاقات مختلفة للقيمة .
شكل 5-1: نطاقات القيمة الثلاثة.
وليس من عجب ظهور «ثلاثة» نطاقات متمايزة للقيمة. لقد حدث التمايز بين نطاقات القيمة منذ فجر نقل السلطة المعرفية والسلطة العملية من المناهج الدينية إلى الصحة، وبحسب هابرماس، هناك ثلاثة أنواع متمايزة من الصحة.
شكل 5-2: أبعاد الصحة الثلاثة.
ترتبط أبعاد الصحة الثلاثة بدورها ارتباطا مباشرا بأبعاد الخطاب الثلاثة: البعد النظري، والبعد الأخلاقي، والبعد الجمالي (انظر الفصل الثالث، شكل
3-2 ). وتقوم الفكرة على أنه بينما تسقط رؤى العالم الديني بالتزامن مع صحوة العقلنة، فإن المشكلات التي تتمخض عن ذلك السقوط يتولاها ويحلها واحد من مجالات المعرفة الثلاثة: العلوم الطبيعية، والخلقية/القانون، والفنون. وتستمر عمليات التعلم وتتعمق المعرفة، ولكن دائما في إطار فرع واحد منذ ذلك الحين فصاعدا. فالحداثة تجلب زيادة كبيرة في كم المعرفة المتخصصة وعمقها، لكن هذه المعرفة تصبح، في العملية نفسها، منفصلة عن جذورها في الحياة اليومية، وتطفو بعيدا عن «تيار المنهج الذي يتطور بشكل طبيعي في تأويل الحياة اليومية» (الحداثة: مشروع غير مكتمل). إن الفجوة بين ما نعرفه وبين كيفية العيش آخذة في الاتساع. (1-2) مشروع الحداثة غير المكتمل
في عام 1980، أحدث هابرماس جلبة بالكلمة التي ألقاها تحت عنوان «الحداثة: مشروع غير مكتمل» بمناسبة حصوله على جائزة أدورنو. كانت الكلمة مثيرة لردود فعل غاضبة؛ لأن هابرماس سبح ضد التيار الفكري القوي آنذاك لحركة ما بعد الحداثة التي كانت تتوق لتوديع الحداثة، ومشروع التنوير الملازم لها بأكمله. إن العنوان الذي اختاره هابرماس يطرح نقطتين ضمنا؛ الأولى أن الحداثة «مشروع» لا حقبة تاريخية، والثانية أن هذا المشروع لم يكتمل بعد (بل يمكن وينبغي أن يكتمل).
يطلق هابرماس على الحداثة اسم «المشروع»؛ لأنه يراها حركة ثقافية تنشأ استجابة لمشكلات بعينها تتسبب فيها عمليات التحديث السالف وصفها أعلاه. كانت المشكلة الرئيسية هي إيجاد طريقة لإعادة ربط المعرفة المتخصصة، التي أطلقتها عملية التنوير، بالفطرة السليمة والعمليات الحياتية اليومية، للسيطرة على إمكاناتها إلى الأبد بربطها مرة أخرى بالعالم المعيش والمصلحة المشتركة. إن هذا المفهوم الخاص بالحداثة يضع ما يطلق عليه هابرماس فلسفة «ما بعد الميتافيزيقا» التي مهمتها، بحسب زعمه، أن تكون بديلا للعلوم التخصصية ومفسرة لها، في قلب الحياة الحديثة وتحدياتها. (جدير بالذكر أن مفهوم هوركهايمر وأدورنو للنظرية النقدية عالج التفاوت ذاته بين نمو المعرفة التي يمكن استغلالها فنيا، من ناحية، وغياب أي شكل مهم من الحياة الاجتماعية من ناحية أخرى.)
ويصف هابرماس المشروع الحديث بأنه «غير مكتمل»؛ لأن المشكلات التي يتناولها لم تحل بعد؛ إذ يعتقد أنه من غير المجدي تعطيل أو عكس اتجاه عملية التحديث الجارية، ولأنه يعتقد أيضا أن البدائل المطروحة للحداثة والتحديث أسوأ. ومن بين هذه البدائل السيئة مناوأة الحداثة. إن الأفكار المناوئة للحداثة - كالمذهب المجتمعاتي لدى ألسدير ماكنتاير (مواليد عام 1929) الذي يدافع في تفسير له عن إحياء منهج توما الإكويني للفضائل الأخلاقية؛ والأعمال اللاحقة لمارتن هايدجر، التي من الواضح أنها ترحب بعودة أسلوب للحياة أكثر ريفية وتقليدية - ما هي سوى وسائل مختلفة لتجميل انتكاسة في أشكال الحياة ما قبل الحداثية. والبديل السيئ الآخر هو ما بعد الحداثوية. يشك هابرماس في أن الإعلان الصاخب العارض عن نهاية الحداثة يتخلص من الصالح (المثل الإنسانية للتنوير) مع الطالح (نمو العقلانية الأداتية والإيمان بالمنافع الاجتماعية للتطور التكنولوجي والعلمي). إنه ينفر من جميع أشكال النسبية والتناص اللذين يخلط بينهما وبين اللامنطقية كثيرا؛ ولعل ذلك يفسر النبرة الدرامية المبالغ فيها الملتفتة إلى الماضي لمعارضته الجدلية لما بعد الحداثوية في كتابه «الخطاب الفلسفي للحداثة: اثنتا عشرة محاضرة». آنذاك، كان هابرماس قلقا من أن فلسفة ما بعد الحداثة المؤثرة آنذاك من فرنسا ربما كانت فخا لانبعاث النزعة اللاعقلانية في ألمانيا.
يعتقد هابرماس أننا يجب ألا نضحي بالمكاسب التي جلبتها لنا الحداثة؛ ألا وهي زيادة المعارف، والفوائد الاقتصادية، والتوسع في الحريات الفردية. إن استكمال الحداثة لا يعني فقط قبول كل ما تلقيه علينا من مستجدات، بل التخصيص الناقد للإمكانات الثقافية والتكنولوجية والاقتصادية للعالم الحديث في ضوء المثل الإنسانية العلمانية. وقد لا تكون هذه بالمهمة الهينة؛ ذلك أنها تتطلب، من بين متطلبات أخرى، «إمكانية توجيه التحديث الاجتماعي في اتجاهات أخرى غير رأسمالية» (الحداثة: مشروع غير مكتمل). ويتطلب استكمال الحداثة وقاية العالم المعيش بفاعلية من الأثر المدمر للنظام، وكما رأينا في الفصل السابق، لا يوجد حاليا أي عامل أو قوة كافية لإنجاز هذه المهمة. (1-3) نشأة الخلقية العلمانية
بحسب التحليل التاريخي لهابرماس، يفضي التحديث إلى تحرير البشر من الأدوار والقيم التقليدية، وإلى اعتمادهم المتزايد على التواصل والخطاب لتنسيق أفعالهم وخلق نظام اجتماعي. ويلخص هابرماس ذلك كله فيما أطلق عليه أطروحة الحداثة الخاصة بهابرماس:
لم يعد بإمكان الحداثة أن تستعير المعايير التي تسترشد بها، بل ولن تفعل، من النماذج التي تقدمها حقبة أخرى؛ بل «لا بد أن تخلق معياريتها من تلقاء نفسها». «الخطاب الفلسفي للحداثة: اثنتا عشرة محاضرة»
يشير الحديث عن «المعيارية» هنا إلى المعاني والتفاهمات المشتركة التي تنشأ نتيجة الخطابات التي تجرى بنجاح. وهذه الخطابات تخلق ذاتيا لأنها نتيجة التواصل والخطاب، ومن هذا المنطلق فهي تئول إلينا باعتبارنا الفاعلين والمشاركين في الخطاب. وهي أيضا خطابات عقلانية ما دامت تستند إلى الإقرار المشترك بادعاءات الصحة.
ثمة حبكة فرعية لهذه الرواية العامة تتسم بأهمية كبرى لبرنامج أخلاقيات الخطاب. وهذه الحبكة الفرعية تختص بنشأة الخلقية العلمانية من رحم المنهج اليهودي-المسيحي التوحيدي («تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية). احتوى هذا المنهج - بحسب اعتقاد هابرماس - على فكرة إيجاد أسلوب حياة صالح ومستقيم موضوعيا يمكن في ضوئه الإجابة عن السؤال الأخلاقي الذي يطرح نفسه على كل فرد: «ماذا يجب أن أفعل؟»
أثناء التحول التاريخي إلى الحداثة، انفصلت أسئلة محددة وجوهرية حول الخير انفصالا تدريجيا عن الأسئلة الشكلية المتعلقة بالعدالة والصواب الأخلاقي، والأخلاقيات المستندة إلى منهج ديني موحد ومتماثل حل محلها مجموعة من مفاهيم الخير المتنافسة. تحولت الخلقية تدريجيا من مجموعة من الأوامر إلى نظام من المبادئ والمعايير السارية. والمعايير السارية للخلقية الحديثة تتصف بسمتين: العمومية واللاتقيدية. يقول هابرماس إن هاتين السمتين إرث من المسيحية-اليهودية. ولكن، لمجرد أن المعايير الأخلاقية لها تاريخ، فإن ذلك لا يشير إلى أنها مجرد أطلال لعصر بائد. صمدت الخلقية حتى الحداثة ؛ لأن لها غاية إلى الآن؛ وهي فض النزاعات والمساعدة في تجديد النظام الاجتماعي والحفاظ عليه.
حتى هذه النقطة، كان هابرماس يسرد تاريخا لما يمكن أن نطلق عليه «الخلقية الموجودة بالفعل». وثمة تاريخ مواز للنظرية الأخلاقية يتناول المفاهيم المتغيرة للخلقية، والتعبير النظري عنها. وبحسب هابرماس، يعتبر كانط أول منظر أخلاقي تعكس نظريته المفهوم الحديث للخلقية. إن صياغة كانط الأولى للأمر القطعي، «صيغة القانون العام»، تحدد مكمن السلطة الأخلاقية، لا في المخزون المادي من المبادئ والواجبات، بل في المعيار الرسمي للتعميم بحسب أي المبادئ تكون مندرجة في فعل الإرادة:
تصرف على أساس المبدأ الذي قد ترغب في الوقت نفسه أن تجعله قانونا عاما.
ولأن الرغبة في تحويل مبدأ ما إلى قانون هو فعل حر، يتصور كانط أن الأفعال الأخلاقية هي تعبير عن حرية الإرادة. ورغم ثناء هابرماس على كانط لانتزاعه المبادئ الأخلاقية من المفهوم الجوهري للخير، وإعادة النظر إليها على أنها إجراء لاختبار المعايير، فإنه انتقد افتراض كانط أن كل فرد منعزل يبرهن لنفسه صحة معيار أخلاقي من خلال تطبيق الأمر القطعي على أحد المبادئ، كما لو كانت عملية حسابية عقلية أخلاقية. على حد تعبيره، يرى كانط الاستدلال الأخلاقي إجراء «أحادي الخطاب»؛ ومن ثم فهو يغفل طبيعته الاجتماعية بالضرورة. وفي المقابل، فإن نظرية الخطاب الخلقي، مثلما ذكر توماس ماكارثي، ترى الخلقية عملية جمعية و«ثنائية الخطاب» تهدف للوصول إلى إجماع:
يتحول التأكيد مما قد يرغب كل منا في جعله قانونا عاما دون تعارض إلى ما قد نرغب جميعا وباتفاق فيما بيننا في جعله قاعدة عامة. «الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي»
وتعتبر أخلاقيات الخطاب لدى هابرماس تطورا لأحد مفاهيم كانط الحديثة عن مبادئ الأخلاق، الذي يسترشد منطقه الداخلي بمثل أو قواعد الخطاب. (2) نظرية التطور الاجتماعي لدى هابرماس
وضع هابرماس أيضا نظرية للتطور الاجتماعي تتخذ شكل أطروحة طموحة جدا مفادها أن نوع عمليات التعلم التنموية التي تم تحديدها لدى الأفراد من الممكن، بإدخال التعديلات المناسبة عليها، نقلها إلى مجتمعات كاملة. بعبارة أخرى، يمكن الإبقاء جزئيا على الفكرة الغائية القائلة بأن العالم الاجتماعي يتقدم، إذا ما وضعنا كل المتغيرات في الاعتبار، في اتجاه بعينه، إذا أمكن الحفاظ على التناظر بين عمليات التعلم الفردية والاجتماعية. (2-1) نظرية التطور الأخلاقي لدى لورنس كولبرج
عند النهاية الثابتة للتناظر، نجد نظرية لورنس كولبرج للتطور الأخلاقي لدى الأطفال. رأى كولبرج (1927-1987)، عالم النفس التطوري، أن الأهلية الأخلاقية للأفراد تتطور عبر ثلاثة مستويات ثابتة - المستوى قبل التقليدي والمستوى التقليدي والمستوى ما بعد التقليدي، بحيث ينقسم كل مستوى إلى مرحلتين. ومن المفترض أن تكون هذه البنية من المستويات والمراحل «طبيعية»؛ لأنها واسعة الانتشار ثقافيا، ويمكن تأكيدها جزئيا عن طريق التجريب.
نظرية كولبرج للتطور الأخلاقي لدى الأطفال
المستوى الأول: الخلقية ما قبل التقليدية
في المستوى الأول، يستجيب الطفل إلى مسميات الخير والشر والصواب أو الخطأ، لكنه يفسرها في ضوء التبعات التجريبية لأفعاله.
المرحلة الأولى:
يفهم الطفل الخلقية في إطار العقاب والطاعة، وتفادي الإضرار بالآخرين.
المرحلة الثانية:
يفهم الطفل الخلقية فهما أداتيا كوسيلة لتلبية مصالحه والسماح للآخرين بتلبية مصالحهم.
المستوى الثاني: الخلقية التقليدية
في المستوى الثاني، يعلي الطفل من قيمة الوفاء بتوقعات عائلته بغض النظر عن التبعات. وينصب الاتجاه المميز له على التكيف والولاء للنظام الاجتماعي.
المرحلة الثالثة:
يفهم الطفل الخلقية على أنها أداء دور الفتى الخلوق. ويعني التحلي بالخلق اتباع القواعد والوفاء بالتوقعات والاهتمام بالآخرين.
المرحلة الرابعة:
تعني الخلقية وفاء المرء بواجباته والحفاظ على النظام الاجتماعي، ورفاهة المجتمع أو الجماعة.
المستوى الثالث: الخلقية ما بعد التقليدية
يتميز المستوى الثالث للأخلاق بالقدرة على التمييز بين صحة المعايير الأخلاقية وسلطة الجماعات أو الأشخاص الذين يؤيدونها. ولا تعتمد الصحة على ارتباط المرء بالجماعة. وتعكس القرارات الأخلاقية القيم أو المبادئ المتفق عليها (أو التي يمكن الاتفاق عليها) من قبل جميع أفراد المجتمع؛ لأنها تخدم الصالح العام.
المرحلة الخامسة:
ينظر إلى الخلقية باعتبارها الحقوق والقيم والعقود القانونية الأساسية للمجتمع، حتى لو تعارضت مع القواعد والقوانين الراسخة للجماعة. ويستطيع الأفراد التمييز بين القيم والمعايير النسبية للجماعة، وبعض القيم والمعايير العامة غير النسبية التي يتعين حمايتها بغض النظر عن رأي الأغلبية. ويمكن أن تستند القوانين والواجبات إلى حسابات المنفعة الإجمالية.
المرحلة السادسة:
تفهم الخلقية على أنها كل ما يتسق مع المبادئ الأخلاقية العامة المختارة ذاتيا. في هذه المرحلة، يعتبر السبب الذي يستند إليه المرء للتحلي بالأخلاق هو أنه، كإنسان عقلاني، يتمتع بفهم عميق لصحة المبادئ الأساسية، ويلزم نفسه بها. تضفي المبادئ الكامنة صفة الصحة على القواعد أو الأفعال. وعندما تتعارض القواعد أو الأفعال مع المبادئ، يحتكم المرء للمبادئ. ومن أمثلة ذلك المبادئ العامة للعدالة والمساواة واحترام كرامة البشر أجمعين.
يرى كولبرج أن أي مستوى وأي مرحلة هي خطوة في عملية تعلم، وكل خطوة تكون أهم من سابقاتها؛ بمعنى أنها تمثل زيادة في درجة التعقيد. وكل مستوى جديد يحتفظ بقدرات حل المشكلات للمستوى السابق له ويطوره؛ ومن ثم ففي كل مستوى جديد يستطيع الأفراد حل المشكلات والمعضلات الأخلاقية بقدر أكثر إرضاء؛ ولذا، فإن الأفراد الخلوقين، بصفة عامة، يفضلون المستويات العليا من الوعي الأخلاقي على المستويات الدنيا فور انتقالهم للأعلى.
هذه النظرية فرضية تجريبية في جزء منها، وفلسفة أخلاقية في الجزء الآخر. وبعض الأطروحات النفسية القائلة، على سبيل المثال، إن الفاعلين يفضلون حلول المستوى الأعلى على حلول المستوى الأدنى، قابلة للقياس وتدعمها بيانات تجريبية. لكن المزاعم الخاصة بالتفوق النظري لحلول المرحلة السادسة على حلول المرحلة الخامسة (تفوق خلقية كانط على الخلقية النفعية) من المفترض أنها نشأت بحجة فلسفية. وحقيقة أن البيانات التجريبية والحجج الفلسفية يدعم بعضها بعضا؛ يعتد بها لاحقا كدليل غير مباشر على صحة النظرية.
تعرضت نظرية كولبرج إلى الكثير من الانتقادات. على سبيل المثال، ينفر النفعيون من فكرة حصرهم في المركز الثاني وراء الكانطيين، وينكرون أن حلولهم للمشكلات الأخلاقية أدنى «طبيعيا» أو فلسفيا. علاوة على ذلك، كثير من النسويين يدعون أن ثمة بعدا أنثويا تحديدا للخلقية - ألا وهو الرعاية - إلا أن كولبرج يقلل من أهميته الأخلاقية أو يتجاهلها لأسباب مختلفة. إنه يفضل الحلول «العقلانية» للمشكلات الأخلاقية التي يقدمها الذكور، ويغض الطرف عن الحلول البديلة المقدمة من الإناث، ويستنبط عن طريق الخطأ أطروحة عن نمو الأطفال من الأدلة المتعلقة بنمو الذكور. ورغم هذه النقاط المثيرة للجدل، يؤيد هابرماس نظرية كولبرج عن التطور الأخلاقي مع اختلاف وحيد وحسب. فمثلما لا يجعل روايته التاريخية عن نشأة الخلقية العلمانية تنتهي بكانط بل بنظرية الخطاب الخلقي، فقد أقحم نظرية الخطاب الخلقي في المرحلة السادسة لنظرية كولبرج (الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي). وربما يعبر أنصار الفلسفة الكلبية عن استهجانهم هنا؛ إذ يبدو أنه ليس من قبيل المصادفة أن يئول التطور التاريخي للخلقية الحديثة، بحسب رواية هابرماس، وعلم النفس الأخلاقي التنموي، بحسب تفسير هابرماس له، في نهاية المطاف إلى نظرية الخطاب. (2-2) التطور الاجتماعي والتحديث
تتلخص فرضية هابرماس الطموحة في أنه مثلما أن تطور الوعي الأخلاقي للأفراد هو عملية تعلم يمكن تقسيمها إلى مراحل منطقية، فكذلك تطور المجتمع ككل. على أي حال، إذا كانت المراحل والمستويات المذكورة أعلاه طبيعية لدى الأفراد، فلا بد أن ينعكس ذلك على البنى الاجتماعية؛ ينبغي أن تكون هناك مجتمعات قبل تقليدية، وأخرى تقليدية، وثالثة بعد تقليدية. يعتقد هابرماس أن كل هذه المستويات يمكن تحديدها في أشكال تاريخية مختلفة من التداعي. فالمجتمعات القائمة في الغالب على صلة الرحم والتقاليد الدينية المشتركة، التي ترتبط فيها الخلقية بالرموز الدينية والقبلية، هي مجتمعات «تقليدية»، بينما المجتمعات الحديثة القائمة على الخلقية العمومية والقانون الشرعي هي مجتمعات «ما بعد تقليدية». والنظير الاجتماعي لبنى المستوى الثاني والثالث للوعي الأخلاقي الفردي يمثل أنواع القواعد المتاحة لحل المشكلات الجمعي. إذا صحت فرضية هابرماس، فسيكون بالإمكان إعادة صياغة عملية التحديث باعتبارها تطورا لبنى اجتماعية متزايدة التعقيد يمكنها أن تمكن الأفراد من حل المشكلات والصراعات الاجتماعية بشكل أفضل.
لكن هذه الفرضية محاطة بالكثير من المشكلات الجسيمة. على سبيل المثال، ليس من الواضح أي الأدلة التجريبية يمكن تأكيدها أو دحضها. وثمة مصدر قلق آخر يكتنف التناظر المزعوم بين التطور المتعلق بنشأة الفرد والتطور المتعلق بالسلالات (عمليات التعلم الفردية والجمعية). ومن غير الواضح هل كان السلوك الفردي له أي نظائر جمعية أم لا. في نظرية كولبرج، من الواضح على الأقل الطرف القائم بالتعلم؛ والطفل الفرد. ثمة وعي متحكم ليس له نظير على المستوى الجمعي. كيف لمجتمعات كاملة أن تتعلم؟ يقر هابرماس بأن المجتمعات تتعلم فقط بالمعنى الاشتقاقي الذي مفاده أنها توفر الإطار الذي يتعلم داخله الأفراد التعامل مع الصراعات وحل المشكلات؛ ولذا، فإن النقلة ما بين المجتمعات التقليدية وما بعد التقليدية يمكن أن تسمى «عملية تعلم».
استنبط هابرماس هذه الفرضية الطموحة في السبعينيات أثناء تعاطيه النقدي مع المادية التاريخية. ولقد كان من المفترض أن تتمم نظريته عن البنى الاجتماعية المعيارية الرؤية الماركسية القائلة إن التطور الاجتماعي يتحدد من أسفل بالتغيرات الطارئة على نمط الإنتاج. منذ ذلك الحين، أسقط هابرماس من حساباته أغلب نظرية التطور في هدوء، مع أنه استمر في استخدام بعض أفكارها وافتراضاتها المحورية في برامجه الأخرى. ما لم يسقطه من حساباته هو إيمانه بأن الفاعلين الذين يتصرفون تواصليا والذين يسوون الصراعات عن طريق الخطاب أقدر على التكيف مع صراعات الحياة الاجتماعية الحديثة وتعقيداتها. (3) استكمال المشروع الحداثي
كثيرا ما يشكو نقاد هابرماس من أن أعماله ليست تاريخية الطابع مطلقا. فهو ينقب في التاريخ بحثا عن نتائج موائمة لبرامجه البحثية. على سبيل المثال، يقدم لنا هابرماس العمومية الأخلاقية كنتيجة تاريخية، لكنه يريد القول أيضا إنها رغم ذلك «تطور» يضاف لما حدث من قبل. يرى هابرماس أنه كلما كان المجتمع متماشيا مع مثل التواصل والخطاب، أي كلما كان أفراده موجهين نحو الوصول إلى إجماع، كان ذلك أفضل لهم فرادى وجماعات. ويرى ناقدوه أن هذه المزاعم تذكرهم بالفكرة الهيجلية المرفوضة والقائلة إن ثمة «منطقا في التاريخ».
هذه المخاوف مشروعة، لكن ليس بالقدر الذي يزعمه النقاد. ينكر هابرماس أن الأفكار السياسية والأخلاقية الموجهة للمشروع الحداثي، حتى لو نشأت في مرحلة معينة في التاريخ، متصلة بالسياق الثقافي المحدد الذي تسبب في نشأتها. ويقدم هابرماس دفاعا لائقا عن فكرة التقدم الاجتماعي. فهو يعتقد أنه يمكن إعطاء هذه الفكرة تفسيرا مبررا تجريبيا (ومعتبرا ميتافيزيقيا )؛ يمكن فهم التطور الاجتماعي باعتباره عملية تعلم من حيث إن الأفراد ما بعد التقليديين بالمجتمعات الحداثية أقدر على تنسيق أفعالهم والحفاظ على النظام الاجتماعي من الأفراد التقليديين أو ما قبل التقليديين بالمجتمعات ما قبل الحداثية. وعلى ذلك، فإن هابرماس أبعد ما يكون عن التفاؤل الساذج؛ فهو يرفض مفهوم هيجل الغائي عن المجتمع باعتباره شكلا ماديا لروح ذاتية التطور تتجه نحو غاية المعرفة الذاتية. واستنادا إلى روايته، فإن آثار التحديث على النظام والعالم المعيش وتوازنهما الهش متعددة، وإرثه غامض. على الجانب السلبي من التوازن، يؤدي التحديث إلى ظهور الآفات الاجتماعية - كالتفسخ الاجتماعي والانفصال ومشاعر الاغتراب. وعلى الجانب الإيجابي، تجلب الحداثة مكاسب معرفية واقتصادية وعملية جديرة بأن نحافظ عليها.
ويصر هابرماس على أن محاولة إيقاف أو عكس عملية التحديث، وكأن أحدا لديه القدرة على الضغط على زر وعكس مجريات التاريخ، لا جدوى منها. وهذا لا يعني أن المجتمع حصين من الأثر البشري. تكمن الحيلة في العمل مع ديناميكيات الحداثة لا بما يناقضها؛ وذلك لأن التحديث يوفر موارد يمكن بها حل المشكلات التي يتسبب فيها واحتواء الضرر الذي تلحقه. المحصلة النهائية أن استكمال المشروع الحداثي يعني إيجاد سبل ووسائل لتيسير الانتقال إلى مجتمع ما بعد تقليدي ينسق الأفراد فيه أفعالهم، ويرسون نظامهم الاجتماعي على أساس المبادئ الأخلاقية العامة والقوانين المشروعة. ولكي نفهم ما يتضمنه ذلك بشكل أوضح، يجب أن نلتفت إلى النظرية الأخلاقية والسياسية لدى هابرماس.
الفصل السادس
أخلاقيات الخطاب (1): نظرية الخطاب الخلقي
أخلاقيات الخطاب هي البرنامج المحوري لفلسفة هابرماس: يفترض كتاب «نظرية الفعل التواصلي» وجود أخلاقيات التواصل؛ بينما يسلم بها جدلا كتابه «بين الحقائق والمعايير». والبرنامج منقسم إلى مجلدين صغيرين من المقالات تحت عنواني «الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي» (1983) و«التبرير والتطبيق» (1991). ولا يوجد أي عمل كبير عن أخلاقيات الخطاب يقارن بأعماله التي تتناول النظرية الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، فأخلاقيات الخطاب هي الأساس المعياري لفلسفة هابرماس، وهي التي تطور الأفكار المميزة للعلانية والشمولية والمساواة والتضامن والعدالة في ضوء برنامج المعنى البراجماتي وبرنامج النظرية الاجتماعية.
ورغم أن ذلك ليس واضحا من أول وهلة، فإن أخلاقيات الخطاب امتداد، بسبل مختلفة تماما، للبعد الأخلاقي الضمني المهمل عادة في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. كتب أدورنو في كتابه «الجدل السلبي» عن «أمر قطعي جديد» فرضه هتلر على البشرية؛ ألا وهو «أن ينظموا أفكارهم وأفعالهم بحيث لا يتكرر ما حدث في معسكر أوشفيتس مجددا، وألا تقع أي حادثة شبيهة قط.» إن السبب وراء إهمال الأهمية الأخلاقية لفلسفة أدورنو، رغم مثل هذه التصريحات، هو أنه ينكر احتمالية العيش بنزاهة في خضم ما يطلق عليه اسم «الوجود المتضرر». بعد حادثتي معسكر أوشفيتس وهيروشيما، لم يعد بالإمكان أن نحيا حياة هانئة أو نتصرف بشكل أخلاقي وبضمير مستريح. وأفضل ما يمكن أن يفعله المرء هو مقاومة الخسائر التي تحدثها الثقافة الجماهيرية (مقاومة ما يعرف أحيانا، بطريقة مبسطة، باسم «التبسيط»)، ورفض مسايرة الخلقية التقليدية، والتكيف مع المعايير الاجتماعية؛ ولذا، مهما كان هذا الأمر الأخلاقي واضحا وجليا، فثمة هالة من المفارقة تحيط به. «التعلم من الكوارث» واحدة من الأفكار الأساسية في أعمال هابرماس. فقد عاصر هابرماس - شأنه شأن أدورنو - الفترة النازية وتبعاتها؛ والمثل أو، إن شئنا مزيدا من الدقة، المحصلة الأخلاقية التي أعرب عنها أدورنو في أمره القطعي الجديد؛ محورية فيما يتعلق بفلسفة هابرماس الأخلاقية والسياسية. الفارق أن هذه المحصلة الأخلاقية لدى هابرماس لها تداعيات أخلاقية واجتماعية (وكذلك تداعيات سياسية، كما سيتبين لنا لاحقا)؛ فمنع تكرار وقوع ما حدث في معسكر أوشفيتس أو ما شابهه يعني الحفاظ على العالم المعيش، وخلق ظروف يندمج بموجبها الأفراد اجتماعيا في الخلقية ما بعد التقليدية، ويشيدون نظاما اجتماعيا على أساس معايير صحيحة بالدليل القطعي. (1) الخطاب الأخلاقي والوظيفة الاجتماعية للخلقية
في هذا الفصل، ينصب تركيزي على نظرية الخطاب الخلقي وفكرة الخطاب الخلقي. لا تجيب نظرية الخطاب الخلقي، وهو الغريب بالنسبة لنظرية خلقية معيارية واجباتية، عن سؤال «ماذا ينبغي أن أفعل؟» بل تهدف إلى كشف الستار عن الظروف التي يستطيع في ظلها الفاعلون الأخلاقيون الحداثيون الإجابة بنجاح عن السؤال بأنفسهم. يمكن فهم نظرية هابرماس الأخلاقية باعتبارها تفسيرا لما يعنيه طرح ادعاء صحة سليم بالصواب. إلى هذا الحد، تعتبر هذه النظرية نظرية براجماتية لمعنى الكلام الملفوظ الأخلاقي. لكن اهتمام هابرماس بعلم الدلالة الأخلاقي ثانوي. فهدفه الأساسي هو معرفة كيف يمكن لنظرية أخلاقية أن تساعد في الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها نظريته الاجتماعية. وهو معني في المقام الأول بأسئلة من قبيل: ما المبادئ الأساسية الكامنة وراء الخلقية؟ وكيف يمكننا تأسيس معايير أخلاقية صحيحة؟ وما الوظيفة الاجتماعية لها؟ إجابته هي أنه في المجتمعات الحديثة، تحل المعايير الخلقية الصحيحة الصراعات بين الفاعلين، وتجدد مخزون المعايير المشتركة.
بحسب هابرماس، المعايير قواعد سلوكية عادة ما تتخذ الشكل النحوي للأوامر، مثل «لا تسرق». وتعمل المعايير الصحيحة (أو المبررة) على تنسيق أفعالنا في العالم المعيش واستقرار توقعاتنا المتعلقة بسلوك الآخرين. وتساعد على جعل أفعال الآخرين متوقعة، وتخلق سبلا لفعل يخلو من الصراع.
إن فرضية نظرية هابرماس عن التطور الاجتماعي مفادها أن المجتمعات الحداثية هي مجتمعات ما بعد تقليدية. ويعتقد هابرماس، عندما تسير عملية الإدماج الاجتماعي على خير ما يرام، أن الفاعلين الأخلاقيين الناضجين يكونون بالمرحلة السادسة من مراحل كولبرج، وهي مرحلة الخلقية المنضبطة. ففي المرحلة السادسة، لا يرضى الفاعلون بالالتزام وحسب بالتوقعات الأخلاقية. قد يفعلون ذلك من خلال استشارة الكتاب المقدس، أو التماس نصيحة معلم حكيم، أو محاكاة سلوك أقرانهم. يعلم الفاعلون ما بعد التقليديين لم ينبغي أن يفعلوا ما ينبغي لهم فعله، ويتصرفون فقط استنادا إلى المبادئ التي يستطيعون تبريرها.
من وجهة نظر هابرماس، ينشأ الصراع عند رفض ادعاء صحة صواب شيء ما. ولذلك يغذي الموقف معيارا مرشحا من الخلفية الضمنية للعالم المعيش داخل الوسط الصريح للخطاب. سيشعر الفاعل بالإساءة بطريقة ما بسبب أفعال أو كلمات فاعل آخر، وسيواجه المسيء إليه بأن يطلب إليه تفسير أفعاله. وهناك عدة وسائل يمكن بها تسوية نزاع فعلي. تفيد أطروحة هابرماس بأنه بقدر ما يتسنى للفاعلين الالتجاء إلى الخطاب أو النقاش الأخلاقي، فإن غاية هذا الخطاب أو النقاش الأخلاقي إصلاح الرأب الذي شاب الإجماع بإرساء معيار للفعل يستطيع كل طرف من أطراف النزاع فهمه وقبوله. (2) بيان هابرماس للموقف الأخلاقي
من المفيد أكثر من أي شيء أن ننظر إلى حجة هابرماس بأكملها باعتبارها تنقسم إلى قسمين: بيان الموقف الأخلاقي، وتبريره. ويبدأ البيان بالظواهر الأخلاقية؛ بديهياتنا الأخلاقية اليومية. إنها حجة مسبقة. فهو ينطلق من مقدمات منطقية تجريبية محتملة الصحة، على سبيل المثال؛ أن الموقف الأخلاقي جزء من العالم الاجتماعي، وأن هناك معايير أخلاقية صحيحة. ثم تمحص الحجة شروط هذه الاحتمالية. إذا وجد موقف أخلاقي، فيجب أن يكون هناك مبدأ أو معيار للتمييز بين الاعتبارات الأخلاقية واللاأخلاقية، وهذا المبدأ يجب أن تحويه ممارساتنا الأخلاقية ضمنيا. ينطلق بيان هابرماس للموقف الأخلاقي على هذا النحو، وفي نهاية المطاف يميط اللثام عن مبدأين: مبدأ الخطاب، والمبدأ الأخلاقي. (2-1) مبادئ أخلاقيات الخطاب
ما السبب وراء وجود مبدأين لأخلاقيات الخطاب بدلا من مبدأ واحد؟ إنه سؤال جيد، لكن ليس لهابرماس إجابة قاطعة عليه. في النهاية، يصل هابرماس إلى وجهة النظر أن مبدأ الخطاب أوهن من المبدأ الأخلاقي وأقل منه جدلا، وأنه أمسى منطقيا بالفعل بمقتضى نظريته للتواصل. المبدأ الأخلاقي أقوى، ويجب إثباته بواسطة حجة تستفيد من مبدأ الخطاب كمقدمة منطقية.
إن النقطة المحورية في نظرية هابرماس هي أن الخطاب يمكن أن يقوم بوظيفته الاجتماعية والبراجماتية بشكل أفضل؛ لأنه عملية «ثنائية الحوار» تؤلف بين الناس في حجة هادفة. وتنطوي دوما عملية تبرير معيار ما على أكثر من شخص واحد؛ إذ إنها مسألة فيها شخص يجعل المعيار مقبولا لشخص آخر. ويقول هابرماس إن مبدأ الخطاب «يعبر وحسب عن معنى متطلبات التبرير ما بعد التقليدية.» وهذه لغة اصطلاحية للادعاء بأن مبدأ الخطاب يرصد حدس الفاعل الأخلاقي بأن المعايير الصحيحة يجب أن تحظى باتفاق على مستوى واسع. وتسمية «مبدأ الخطاب» مضللة بعض الشيء، ما دامت لا تجعل الفارق بينها وبين «المبدأ الأخلاقي» ظاهرا. فالمبدأ الأخلاقي مبدأ خطابي بالقدر نفسه. فيشير مبدأ الخطاب إلى «معايير الفعل»؛ أي المعايير بصفة عامة، بما في ذلك المعايير القانونية والأخلاقية . ويرتبط هذا المبدأ بالخطابات المعنية بالمعايير، لا الخطاب مطلقا. لا تنطوي الخطابات كلها على معايير، على سبيل المثال؛ فالخطابات النظرية والجمالية لا تنطوي على معايير. ربما كان من الأدق أن نطلق على مبدأ الخطاب مبدأ صحة المعايير عامة.
ينص مبدأ الخطاب على أنه:
لا يصح من معايير الفعل سوى تلك التي يمكن أن يوافق عليها جميع الأشخاص المتأثرين «باعتبارهم مشاركين في خطاب عقلاني». «بين الحقائق والمعايير»
من الناحية الشكلية، لمبدأ الخطاب نفس شكل شرط (الصحة ←
الإجماع) الذي تعرفنا عليه في نهاية الفصل الثالث. وهذا شرط بسيط؛ حيث نجد الصحة جهة اليمين والإجماع جهة اليسار. لاحظ أن مبدأ الخطاب ليس واحدا من شروط (الإجماع ←
الصحة) أيضا، فهو لا يفيد بأنه إذا كان المعيار قابلا للإجماع، فهو صحيح. ومن ثم، لا يمكن العمل بمبدأ الخطاب إلا بشكل سلبي؛ إذ يشير إلى المعايير غير الصحيحة.
من المفترض أن يرصد مبدأ الخطاب، كما يوحي بذلك اسمه، إجراء الخطاب. وعلى فرض أن ثمة خطابا جرى التمحيص فيه بالقدر الكافي (أي إنه لم تحدث أي انتهاكات واضحة لقواعد الخطاب)، فإن الإخفاق في الوصول إلى إجماع على المعيار الجاري بحثه يشير إلى أنه ليس صحيحا. على سبيل المثال، إن استطاع كل من لم يتأثر الموافقة على معيار «لا تأكل اللحم»، فلا يوجد معيار صحيح يحظر أكل اللحم. يطلعنا مبدأ الخطاب أيضا على من ستكون موافقته مهمة كمؤشر على الصحة. فهو ينص على أنه إذا كان معيار ما صحيحا، فجميع الأشخاص «المحتمل تأثرهم» يمكنهم قبوله «باعتبارهم مشاركين في خطاب عقلاني». هذا البيان ليس مباشرا كما يبدو. فكر كم يمكن أن يكون نطاق «كل المتأثرين» واسعا. إذا كان المعيار عاما جدا، فإن الصعوبات العملية للسماح لكل المحتمل تأثرهم بالمشاركة في نقاش ما حول هذا المعيار ستكون تعجيزية. وستعتمد صحة معيار ما على الموافقة المتوقعة لكثير من الأشخاص غير القادرين عمليا على المشاركة في الخطاب. بعض المعايير - لننظر على سبيل المثال إلى المعايير الضابطة لسياسات تنظيم الأسرة الصينية التي تسمح بمولود واحد فقط لكل عائلة - ستؤثر حتى على الذين لم يولدوا بعد. من الواضح أن الذين لم يولدوا بعد لا يستطيعون المشاركة في الخطاب، ولكن ما دام «من المحتمل أن يتأثروا»، فإن صحة المعيار تعول على موافقتهم المناقضة للواقع. ولأن مبدأ الخطاب يتطلب قدرا واسع النطاق جدا من الموافقة، فهو يفرض شرطا شديد التقييد. ومن ثم، يكون عدد الحالات التي يمكن أن يشير فيها الخطاب حقا إلى أن معيارا ما ليس صحيحا؛ محدودا إلى حد ما.
إحدى أحدث الصيغ التي وضعها هابرماس للمبدأ الأخلاقي هي:
يكون المعيار صحيحا إذا، وفقط إذا، أمكن لجميع المتأثرين بمحض إرادتهم وبشكل مشترك قبول التبعات والآثار الجانبية المنظورة للالتزام العام به لمصالح كل فرد وتوجهه القيمي. ««تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية، ترجمة معدلة»
يستخدم هابرماس مصطلحا «المبدأ الأخلاقي»، أو «مبدأ القابلية للتعميم». و«المبدأ الأخلاقي» ليس في حد ذاته معيارا أخلاقيا. فهو مبدأ ثانوي يختبر صحة المعايير الأخلاقية الأولية بالتحقق من كونها قابلة للتعميم أم لا. وهو مصمم بحيث يرصد ممارسة الحجة الأخلاقية، ولا سيما عملية التعميم التي تنطوي عليها الحجة الأخلاقية.
المعايير الأخلاقية هي قواعد واجباتية تعبر عن التزامات، وتتميز بصيغة الأمر مثل: «لا تقتل». وكما رأينا في الفصل السابق، يقول هابرماس إن مثل هذه الأوامر هي إرث من أسلوب حياة يهودي-مسيحي. على مدار فترة التحديث، برزت مجموعة كبيرة من الخطابات تدريجيا من خلال محتويات هذا المنهج؛ مما أدى إلى الاحتفاظ بالمعايير التي ما زالت سارية (على سبيل المثال، «لا تسرق» و«لا تقتل»)، بينما تلك التي لم تعد سارية (مثل «لا تصنع لك تمثالا منحوتا») تم تحييدها.
لأول وهلة، يبدو «المبدأ الأخلاقي» أشبه قليلا ب «مبدأ الخطاب». ولكن ثمة وجه اختلاف بنيوي أساسي بين المبدأين. فالمبدأ الأخلاقي يتمتع بالشكل المنطقي للصيغة ثنائية الشرط (الصحة ↔
الإجماع، أو «الصحة» إذا كانت، وفقط إذا كانت، «الإجماع»)، أما مبدأ الخطاب فتحدده الصيغة الشرطية البسيطة (الصحة ←
الإجماع، أو إذا كانت الصحة، إذن الإجماع)؛ ولذا، فإن المبدأ الأخلاقي أقوى بكثير من مبدأ الخطاب؛ فهو ينص على أن قابلية الوصول لإجماع في الخطاب شرط ضروري وكاف لصحة المعيار الأخلاقي. وما يعنيه ذلك عمليا أنه، على خلاف مبدأ الخطاب، يمكن للمبدأ الأخلاقي أن يعمل بشكل «سلبي» و«إيجابي». فهو لا يبين أي المعايير الأخلاقية ليست صحيحة وحسب، بل يمكنه أن يحدد بشكل إيجابي أي المعايير صحيحة، ويبين لنا، إضافة إلى ذلك، ماهية الصحة الأخلاقية أو الصواب الأخلاقي. إن المعيار الأخلاقي الصحيح هو معيار يمكن أن يقبله كل المتأثرين باعتبارهم مشاركين في الخطاب في ضوء قيمهم ومصالحهم.
الفارق الثاني الكبير بين مبدأ الخطاب والمبدأ الأخلاقي هو أن المبدأ الأخلاقي يجعل الصحة تعتمد على إمكانية قبول «التبعات والآثار الجانبية المنظورة» لتنفيذ المعيار. يضع هابرماس بهذه العبارة حدسا عواقبيا داخل نظريته الأخلاقية الواجباتية. وبذلك فهو يباعد بين أخلاقيات الخطاب وبين كانط، الذي ينكر أن تبعات الفعل تلعب دورا في تحديد قيمته الأخلاقية. وهذا غير مألوف نوعا ما؛ لأن النظريات الأخلاقية الواجباتية عامة تفترض أن نيات الفاعل وحدها تحدد القيمة الأخلاقية لفعل ما. (إذا بصقت على الأرض، فحملت الريح بصاقي وألقت به على عابر سبيل، فإن النظرية العواقبية ستفيد بأن الفعل الذي أقدمت عليه خاطئ أخلاقيا، بينما النظرية الواجباتية ستفيد بأن فعلي ليس كذلك ما دام أنه لم يكن طائشا ولم تكن نيتي إلحاق الضرر بالآخرين.)
وأخيرا، يقدم المبدأ الأخلاقي معلومات أكثر من مبدأ الخطاب فيما يتعلق بمكونات إمكانية القبول في الخطاب أو الإجماع المدفوع بالعقلانية. فهو ينص على أن كل المعايير الأخلاقية الصحيحة يجب أن تعطي «اعتبارا متساويا» لمصلحة كل شخص معني، ويجب أن يكون بإمكان الجميع في خطاب عقلاني قبولها (بين الحقائق والمعايير). وإيجازا، ينص المبدأ الأخلاقي على أن أي معيار يكون صحيحا إذا، وفقط إذا، كان يجسد بالبرهان ما يطلق عليه هابرماس المصلحة «القابلة للتعميم». (2-2) الخطاب الأخلاقي باعتباره عملية تعميم
لكي نفهم ماهية المصلحة القابلة للتعميم، يجب أن ننظر إلى عملية التعميم التي يكتسب المبدأ الأخلاقي اسمه منها. كان كانط أول فيلسوف أخلاقي يعي المبدأ الأخلاقي باعتباره اختبارا للقابلية للتعميم. ومن المفترض أن تستوعب الصيغة الأولى للأمر القطعي عند كانط (انظر الفصل الخامس) الفكرة البديهية الواسعة الانتشار التي تفيد بأن المرء لا ينبغي أن يستثني نفسه. ولكن نظرية كانط تفضي به إلى بعض الصعوبات المعروفة؛ لأنه يتصور قابلية التعميم باعتبارها ملكية منطقية أو عقلانية للمسلمات وحسب. على سبيل المثال، قد تكون الفكرة البديهية «حافظ دوما على عهودك» قابلة تماما للتعميم، لكن هذا في حد ذاته لا يفسر سبب وجود التزام أخلاقي بأن يحفظ المرء عهوده. «من ينم مبكرا يستيقظ مبكرا» مسلمة قابلة للتعميم، ولكن رغم أنها قد تكون نصيحة سديدة، فمن الواضح أنها لا تنطوي على التزام أخلاقي. وبالمثل، فإن وجهة النظر القائلة إن الإساءة الأخلاقية في فعل ما يمكن تفسيرها كنوع من التناقض المنطقي في منطق المرء هي وجهة نظر يشوبها الشك. فبيان أن نقض العهد أمر فيه تناقض - لأنه ليس من الممكن أن يوجد إراديا عالم ينقض فيه الجميع عهودهم - لا يظهر ما يعيب نقض العهد من الناحية الأخلاقية. إننا لا نستنكر أخلاقيا الذين تعوزهم كفاءة سوق الحجج. ولهذه الأسباب، فإن تصور هابرماس للتعميم يختلف كل الاختلاف عن تصور كانط له؛ حيث لا يراه الأول كإجراء عقلي فردي، بل كإجراء اجتماعي.
ويستقي هابرماس تصوره للتعميم من الفيلسوف الاجتماعي البراجماتي الأمريكي جورج هربرت ميد. يقول ميد في كتابه «العقل والذات والمجتمع» (1934): «لكوننا كائنات اجتماعية، أصبحنا كائنات أخلاقية.» ويتصور هربرت اختبار التعميم كوسيلة لإدماج الأفراد في النظام الاجتماعي يطلق عليها اسم «التبني المثالي للأدوار». بالضبط كاللاعبين في لعبة جماعية، يعمل الفاعلون الأخلاقيون معا؛ حيث يتصور كل منهم نفسه في مكان جميع الفاعلين الأخلاقيين الآخرين. ويطلق ميد على ذلك تبني موقف «الآخر المعمم»، لكنه يعني تحديدا التكيف مع بقية أعضاء الفريق.
لقد ثبت أن إدماج المرء لنفسه داخل فريق ما، هو عملية مرهقة جدا. فالإدماج لا يمكن أن يتحقق فقط بالتفكير كما يفكر الآخرون، وفعل ما يفعلون. إنه عملية انعكاسية تنطوي على اتخاذ مواقف ثانوية (أي مواقف تجاه مواقف الفرد نفسه)، وتعديل مواقفه الأساسية في ضوء ذلك. النظير الأخلاقي لذلك هو أن كل فاعل في المجتمع عليه تعديل أفعاله في ضوء توقعاته لما يفعله الآخرون، وهي التوقعات التي يكتسبها عن طريق تبني منظورهم تجاهه وتجاه الآخرين.
يقول ميد إن منظور الفرد يتكون تبعا لرغباته ومصالحه الخاصة، والذوات الفردية «تتشكل» من مصالحه. ومن ثم، فإن تبني موقف الآخر المعمم يعني تبني الرؤية التي «تضع في الاعتبار كل مصلحة من تلك المصالح.» والسلوك الأخلاقي مسألة تنطوي على تعديل المرء لمصالحه في ضوء فهمه وإدراكه لمصالح الجميع، وهي العملية التي تفضي إلى اكتساب «ذات أكبر» تتسق ومصالح الآخرين.
يستخلص هابرماس عدة دروس مستفادة من ميد؛ أولها أن التبني المثالي للأدوار لا ينطوي على الانتقال من منظور المتكلم إلى منظور الغائب، بل ويحظره حقا، ويجب على القائم بالتعميم ألا يحاول نيل الحياد بالانفصال عن منظور المتكلم كفاعل في العالم المعيش، وبتبني منظور الغائب التجريدي في موقفه. تخاطبنا الالتزامات الأخلاقية من منظور المتكلم؛ ومن ثم ينبغي أن نتصورها من منظور المتكلم. إن المشاركين في الخطاب الأخلاقي ليسوا متحاورين مثاليين يسوقون الحجج، أو مختارين عقلانيين وحسب؛ إنهم أشخاص حقيقيون، فاعلون في العالم المعيش، يتيحون لأنفسهم الاسترشاد بقواعد الخطاب؛ مما يجعلهم يتصورون أنفسهم كجزء مما يطلق عليه هابرماس اسم «منظورنا الجمعي المصطبغ بصبغة مثالية»:
يجب أن يكون كل منا قادرا على أن يضع نفسه في موقف كل الذين قد يتأثرون بأداء فعل إشكالي أو تبني معيار مشكوك فيه. «التبرير والتطبيق»
الدرس الثاني المهم المستفاد هو أن الخطاب الفعلي يجب أن يجري إذا تم تفعيل هذا التمديد المثالي للمنظور الفردي المحدود الذي سماه هابرماس المثال التنظيمي ل «مجتمع التواصل اللامحدود» (التبرير والتطبيق). وحتى إذا اقتضى الأمر تمديد خطاب ما بحيث يشمل أناسا لا وجود لهم، يتعين أن يجري خطاب حقيقي فعلا إن أردنا تبرير معيار ما (الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي). والدرس الثالث المستفاد هو أن الخطابات «ثنائية الحوار» أصلا. على العكس من اختبار كانط «أحادي الحوار» لقابلية تعميم المسلمات، لا يمكن إجراء خطابات أخلاقية بمعرفة أفراد يسوقون الحجج وحدهم. ورابعا وأخيرا، ينتهي هابرماس إلى أن الخطاب عملية يدمج الأفراد أنفسهم بمقتضاها داخل المجتمع. فالفاعل الأخلاقي المندمج اجتماعيا بشكل ملائم يحقق الاتساق بين مصالحه الفردية وهويته من ناحية والمصلحة الجمعية من ناحية أخرى. بالتصرف بناء على معايير صحيحة، يخدم الفاعلون المصلحة المشتركة. يعتبر هابرماس أطروحة أن المعايير الصحيحة تحوي «مصالح قابلة للتعميم» مكافئة للادعاء بأن المعايير الصحيحة «مناسبة للجميع على حد سواء». وبهذه الطريقة، يتحقق ضرب من الإنصاف، لكن ليس على حساب الاستغناء عن منظوري المتكلم والمخاطب.
الصورة الكلية هي أن الخطابات الأخلاقية تقتضي من المشاركين أن يضعوا أنفسهم في مكان جميع الآخرين المحتمل تأثرهم بمعيار مرشح؛ وذلك من أجل اختبار كونه مقبولا من منظورهم أيضا أم لا. على سبيل المثال، ربما يكون الأثرياء أو المتعلمون الذين يملكون مهارة رائجة نزاعين إلى قبول إلغاء الرعاية الاجتماعية على أساس أنها تفرض أعباء ضريبية مجحفة على أمثالهم. ولكن، هل كانوا سيقبلون بتلك السياسة لو كانوا هم الفقراء أو غير المهرة؟ لو فرض عليهم استبدال منظورهم مع الفقراء وغير المهرة، فإن المبدأ الأخلاقي يستبعد المعايير التي تعمل في مصلحة أشخاص بأعينهم أو جماعات بعينها. (2-3) تبرير المبدأ الأخلاقي
يتخذ بيان هابرماس للموقف الأخلاقي شكل تحليل للأفكار البديهية اليومية التي يحملها الفاعلون الأخلاقيون الحداثيون؛ تحليل يميط اللثام عن مبدأي أخلاقيات الخطاب؛ مبدأ الخطاب والمبدأ الأخلاقي. يعبر هذان المبدآن عن إجراء الخطاب الذي يميز بموجبه الفاعلون في العالم المعيش المعايير الأخلاقية الصحيحة، وهي المعلومات التي تتيح لهم الحكم على خطأ أو جواز أفعال بعينها في مواقف بعينها.
إن بيان الموقف الأخلاقي ليس تبريرا فلسفيا له، ما دام هذا البيان ينطلق من مقدمات منطقية أخلاقية. فهذا البيان يفترض وجود الموقف الأخلاقي، ويستفسر عن إمكانية وجوده. وتبرير هابرماس للموقف الأخلاقي لا يفترض هذه الفرضية. يتخذ تبرير الموقف الأخلاقي شكل اشتقاق شكلي للمبدأ الأخلاقي. ويعتقد هابرماس أنه ما لم يمكن استخلاص المبدأ الأخلاقي شكليا، من مقدمات منطقية لا أخلاقية، فسيظل هناك شك بأن المبدأ الأخلاقي ليس سوى «تحيز عرقي»؛ أي إنه مجرد تعبير عن مجموعة من القيم الممكنة ثقافيا وتاريخيا. وللأسف، لا يقدم هابرماس نفسه اشتقاقا شكليا للمبدأ الأخلاقي، رغم أنه افترض دوما (وربما بثقة مفرطة بنفسه) وجوده.
لكنه يصرح لنا بالمقدمتين المنطقيتين اللتين يتم استخلاص المبدأ الأخلاقي منهما شكليا: قواعد الخطاب و«مفهوم التبرير المعياري عامة كما هو منصوص عليه في مبدأ الخطاب» (نظرية الفعل التواصلي). المشكلة هي أنه ما من وسيلة يمكننا بها أن نرى كيف يمكن استنباط المبدأ الأخلاقي منطقيا من هذه المقدمات المنطقية وحدها. ما من شيء في قواعد الخطاب (انظر الفصل الثالث) والمبدأ الشرطي يسمح لهابرماس باستنباط المبدأ الأخلاقي، الصيغة ثنائية الشرط (الصحة ↔
الإجماع). تذكر عزيزي القارئ أن مبدأ الخطاب ما هو إلا شرط بسيط (الصحة ←
الإجماع). وما من شيء في قواعد الخطاب يسمح لهابرماس بأن ينتهي إلى أنه إذا كان هناك معيار قابل للإجماع، فلا بد أن يكون صحيحا (الإجماع ←
الصحة). والحجة التبريرية، إن كان لها أن تؤتي ثمارها، بحاجة إلى مقدمات منطقية تكميلية.
من الناحية الواقعية، ثمة مكان وحيد يستطيع فيه هابرماس أن يبحث عن هذه المقدمات المنطقية الإضافية؛ ألا وهو نظرية الحداثة. المشكلة أنه من المستبعد جدا أن يتسنى التأكد من نظرية التحديث بمعزل عن برنامج أخلاقيات الخطاب. على أية حال، فإن علاقة التبرير ستتجه في الاتجاه الآخر. وجل ما يمكن أن نعقد الآمال عليه هو أن تعتبر نظرية الخطاب الخلقي، إذا وجد ما يبررها، دليلا على نظرية هابرماس للحداثة. من الواضح إذن أنه في غياب أي اشتقاق شكلي للمبدأ الأخلاقي، تصمد أخلاقيات الخطاب وتتهاوى بحسب معقولية بيان هابرماس للموقف الأخلاقي. (3) أوجه الاعتراض على المبدأ الأخلاقي
لننظر الآن في بعض أشهر الاعتراضات التي وجهت إلى نظرية الخطاب الخلقي. (3-1) الاعتراض على مسألة التكرار
رأينا توا كم هو مرهق اختبار التعميم. فبحسب المبدأ الأخلاقي، تصح المعايير إذا، وفقط إذا، كانت تلبي بالبرهان مصلحة عامة لكل المعنيين، ويتبناها الجميع على هذا الأساس. وما دام نطاق الإجماع الذي يستهدفه المبدأ الأخلاقي ومبدأ الخطاب واسعا جدا (موافقة «كل المعنيين»)، وعملية التبني المثالي للأدوار مرهقة جدا، فيجب أن يكون المبدأ الأخلاقي مقيدا جدا. لن تصمد الكثير من المعايير المرشحة أمام هذا الاختبار القاسي لصحتها، والتي ستصمد منها أمام هذا الاختبار ستكون عامة جدا.
كان رد هابرماس الأول على هذا الاعتراض إنكار أن هناك عددا محدودا جدا من المعايير الأخلاقية الصحيحة، إذا صحت هذه الرواية. ولاحقا أقر بهذه النقطة، لكن بدلا من أن يعتبرها سقطة في نظريته، صورها هابرماس على أنها نقطة قوة. تعكس أخلاقيات الخطاب بدقة واقع الخلقية الحداثية. ويقول هابرماس إنه رغم صحة أن عدد المعايير الأخلاقية الصحيحة يتقلص في المجتمعات الحداثية المتعددة الثقافات، فإن المعايير المتبقية جميعها محورية ومهمة (التبرير والتطبيق). ويستشهد هابرماس بمثال حقوق الإنسان العامة لبيان أن المعايير الأخلاقية الصحيحة محورية حقا، وذات حيثية عظيمة، وأن بعضها لاقى قبولا عاما.
هل هذا رد مقنع على اعتراض التكرار؟ نعم ولا، في آن واحد؛ فمن الصحيح تجريبيا أنه إذا كانت هناك معايير أخلاقية مقبولة عامة، يكون عددها محدودا؛ ولذا، فالنظرية الأخلاقية يستحيل أن يعاب عليها بيان ذلك. ورغم ذلك، تنطلق نظرية الخطاب لهابرماس لتفسير الوظيفة الاجتماعية والبراجماتية الحيوية للخلقية. إن إقرار هابرماس بوجود معايير أخلاقية قليلة جدا يجعل من المحير كون الخطاب الأخلاقي لا يزال الآلية الافتراضية لحل النزاعات في العالم المعيش، والوسيلة الأساسية للاندماج الاجتماعي. كلما كانت المعايير الصحيحة أقل عددا، أمسى عدد الصراعات التي يمكن حلها بالخطاب الأخلاقي أقل أيضا. وفي هذه الحالة، من الصعب أن نرى لم ينبغي أن يكون الخطاب الأخلاقي محوريا جدا لتفسير النظام الاجتماعي. إن الجهود الحقيقية الساعية لتحقيق تماسك المجتمع تكمن في مكان آخر، بفعل شيء آخر خلاف المعايير الأخلاقية الصحيحة؛ ولذا، يجب أن يكون هناك سبب وراء بقاء الخطاب الأخلاقي غير نجاحه البراجماتي في حل النزاعات.
علاوة على ذلك، لا تتضح حقيقة أن خطاب حقوق الإنسان الواسع النطاق والمتوطد الجذور دليل على أن الخطاب الأخلاقي يجب أن يكون هو الذي يحقق التماسك للعالم الاجتماعي. إن السبب وراء مبادرة الناس في جميع أنحاء العالم إلى تأكيد حقوقهم الإنسانية ربما يكون ضمان تلك الحقوق منفعة ما لصاحب الحق. فالحقوق تضع الآخرين تحت رحمة الالتزامات. ومع ذلك، نادرا ما يكون الناس تواقين لتأكيد واجباتهم العامة تجاه الآخرين والوفاء بها. وهذا يفسح المجال للشك بأنه ربما تكون هناك، على حد تعبير هابرماس، أسباب نظامية وأيديولوجية لتنامي خطاب حقوق الإنسان. وقد يكون خطاب حقوق الإنسان نفسه مثالا على استعمار العالم المعيش، لا مصدرا لمقاومته. (3-2) الاعتراض على التمييز بين ثنائي الحوار وأحادي الحوار
ثمة مجموعة أخرى من الاعتراضات تختص بتمييز هابرماس القاطع بين النظريات الأخلاقية ثنائية الحوار وأحادية الحوار. وسبق أن تناولنا واحدة منها بالفعل. يعتقد هابرماس أن المفهوم أحادي الحوار للخلقية، كالذي يروج له كانط، يتضرر بمقارنته بالمفهوم ثنائي الحوار؛ لأن الأفراد الذين يسوقون الحجج وحدهم سيكونون أكثر عرضة لأخطاء وتحيزات المنظور. لكن عدد المشاركين الفعليين في حوار أخلاقي يمكن أن يكون محدودا جدا، في حين يمكن أن يكون نطاق المتأثرين بالمعيار المتبع عامة كبيرا جدا. ليس لدى هابرماس أسباب حقيقية تدعوه لاستنتاج أن النهج ثنائي الحوار تجاه المشكلة (الخطاب) سيتفوق معرفيا من الناحية العملية على الحكم الفردي أحادي الحوار (والأرجح أنه سيكون أصح منه). ومن الممكن أن نقول إنه ما دام المعيار قائما على تقييم صحيح للأسباب ذات الصلة (على سبيل المثال، ماهية مصالح الجميع، وماهية المعيار الذي يخدم هذه المصالح)، فهو مبرر. إذا استطاع عدد قليل جدا من المشاركين الفعليين في الخطاب التدليل بشكل مقنع على صحة معيار ما، فلم لا يستطيع إذن كل فرد أن يفعل ذلك بمفرده في الأساس؟ إن وجود الإجماع ربما لا يخلع صحة، بحسب ظن هابرماس، ولا حتى يبين أن كل شخص على حدة أصدر حكما صحيحا. (3-3) الاعتراض على حجة الدائرة المفرغة
وأخيرا، اتهمت أخلاقيات الخطاب بدورانها في دائرة مفرغة. وجهت هذه التهمة تحديدا إلى اشتقاق هابرماس للمبدأ الأخلاقي ، والحجة الكلية لأخلاقيات الخطاب، وكذلك لقواعد الخطاب. وينشأ الاعتراض على حجة الدائرة المفرغة لأن برنامج أخلاقيات الخطاب يفترض أن الخلقية لا بد أن تبرر على أساس فرضيات لا خلقية؛ وأنها لا بد وأن تكون حجة يمكنها إقناع حتى المتشككين في الأخلاق شريطة أن يتحلوا بالعقلانية. من ناحية، كما رأينا من قبل، فالفرضيات اللاأخلاقية التي يطرحها هابرماس ليست بالقوة الكافية لتبرير المبدأ الأخلاقي. ومن ناحية أخرى، متى طرح هابرماس فرضية أكثر ثراء - نظرية الحداثة أو قواعد الخطاب - يتضح أنها تجلب في طياتها فرضيات أخلاقية وتزيد من احتمال حجة الدائرة المفرغة. قواعد الخطاب مثال على ذلك. تتضمن هذه القواعد القاعدة 2(ج)؛ وهي أنه يسمح للجميع بالتعبير عن مواقفهم ورغباتهم واحتياجاتهم. من الواضح أن القاعدة 2(ج) ليست قاعدة خطاب بصفة عامة، ما دامت تمنح الجميع الإذن بالتعبير عن مواقفهم ورغباتهم واحتياجاتهم؛ ولذا، يبدو واضحا أن لهذه القاعدة مغزى أخلاقيا مقبولا، ولا يمكن اعتبارها فرضية لا أخلاقية أو لا جدلية في حجة مؤيدة للمبدأ الأخلاقي.
ورغم ذلك، لا يتضح بأي حال من الأحوال أن هابرماس بحاجة إلى تبرير المبدأ الأخلاقي على أساس فرضيات لا أخلاقية. بالطبع لا بد أن يتجنب حجة الدائرة المفرغة؛ أي يتعين عليه ألا يدس النتيجة التي خلص إليها في الفرضيات الخاصة بحجته. وهذا لا يعني أن كل فرضياته يجب أن تكون محايدة أخلاقيا. لكنه يعني أن أخلاقيات الخطاب لن تكون في موقف يقنع المتشكك في الأخلاق، ولكن هذا قد يتجاوز ما يمكن أن يتمناه المرء من أي نظرية أخلاقية.
الفصل السابع
أخلاقيات الخطاب (2): الخطاب الأخلاقي والتحول السياسي
(1) تقسيم هابرماس للمنطق العملي
في البرنامج الأصلي لأخلاقيات الخطاب في الثمانينيات، استخدم هابرماس مصطلحي «الخلقية
morality » و«الأخلاقيات
ethics » بالتناوب. ولم يشرع في التمييز بينهما إلا في وقت لاحق، وتحديدا عام 1991. لكنه أبقى على مصطلح «أخلاقيات الخطاب» للإشارة إلى البرنامج المعدل؛ لأن ذلك كان أسهل من أن يعيد تسميته «نظرية الخطاب الخلقي». وحقيقة الأمر أنه في البرنامج المعدل لهابرماس في التسعينيات، يطرح هابرماس تمييزا ثلاثيا بين الخطاب الخلقي
moral ، والخطاب الأخلاقي
ethical ، والخطاب البراجماتي
pragmatic ؛ حيث يحدد كل منها استخداما مختلفا للمنطق العملي. إن الأهمية الحقيقية للتعديل تكمن في استحداث فئة منفصلة من الخطاب الأخلاقي إلى جانب فئة الخطاب الأخلاقي، وفي الطريقة التي يعاد فيها تشكيل هذين النطاقين من الخطاب في برنامج النظرية السياسية.
قبل أن نمحص في طبيعة ووظيفة الخطاب الأخلاقي بالتمايز عن الخطاب الأخلاقي، يجب أن نمر في عجالة على استخدام هابرماس لصفة «براجماتي» في الخطاب البراجماتي. حتى الآن، أشارت صفة «البراجماتي» إلى الوظيفة أو الاستخدام الاجتماعي لشيء ما. ومفهوم هابرماس للخلقية «براجماتي»؛ لأنه يفسر الخطاب الأخلاقي باعتباره آلية اجتماعية لحل الصراعات. ونظريته للمعنى براجماتية؛ إذ إنها تنظر إلى استخدام اللغة كوسيلة لتنسيق الأفعال، وترسيخ النظام الاجتماعي. ولكن، في هذا السياق يستحدث هابرماس هذا المصطلح بمعنى أضيق. تتعلق الخطابات البراجماتية بالاختيار العقلاني للسبل المفضية إلى غاية محددة. ولا توحي تلك الخطابات بشيء حيال اختيار الغايات. الخطاب البراجماتي هو الشكل ثنائي الحوار للمنطق الأداتي، وهو تحديدا وثيق الصلة بالنطاقين السياسي والقانوني؛ إذ إن السياسة والقانون معنيان أساسا بما هو ممكن. (2) ما هو الخطاب الأخلاقي؟
عادة ما كان ينظر إلى مصطلحي الأخلاقيات والخلقية على أنهما مترادفين حتى عصر هيجل. رغم ذلك، يمثل المصطلحان منهجي تفكير مختلفين حيال الحياة البشرية. فكلمة «أخلاقيات
ethics »، بحسب تفسير هابرماس، لها استخدام قديم وآخر حديث. الكلمة مشتقة من كلمة
ethos
اليونانية القديمة - بمعنى «روح الجماعة» أو القيم الأخلاقية المشتركة الحاكمة لها - التي أشارت إلى تقاليد المدينة-الدولة وإلى عادات أهلها ومواطنيها وشخصياتهم. وحديثا، استخدم هيجل الاصطلاح
Sittlichkeit (ويترجم عادة «الحياة الأخلاقية») إشارة إلى أسلوب الحياة الراسخ لمجتمع من المجتمعات، بما يحفل به من قيم ومثل وتفاهمات للذات، من ناحية، وأنشطة ومؤسسات وقوانين من ناحية أخرى.
لمفهوم هابرماس للخطاب الأخلاقي العديد من السمات المميزة: (1)
الخطاب الأخلاقي «غائي» من منطلق أنه معني ب «اختيار الغايات» و«التقييم العقلاني للأهداف» (التبرير والتطبيق). وبينما يتناول الخطاب البراجماتي الغايات التي ينشدها المرء كما هي، ويدرس الوسيلة المثلى لتحقيقها، يقوم الخطاب الأخلاقي بتقييم هذه الغايات. (2)
يقيم الخطاب الأخلاقي الغايات عن طريق تقدير «ما يناسبني» أو «ما يناسبنا» («تضمين الآخر، النسخة الألمانية»؛ التبرير والتطبيق). وهذه منافع خاصة لا عامة. (الخلقية، في المقابل، تتناول مسألتي الصواب والخطأ اللتين، بقدر نفعهما (أو ضررهما)، من المفترض أن تكونا نافعتين (أو مضرتين) عامة، ما دام أنهما تؤثران في الجميع بالطريقة نفسها.) إن فكرة الخير التي يزرعها الخطاب الأخلاقي في المعادلة ترتبط بكل من تاريخ الحياة الفردية للشخص والحياة الجمعية للمجتمع. ويطلق هابرماس على الخطابات المتعلقة بحياة الفرد «أخلاقية-وجودية»، وتلك المرتبطة بالحياة الجمعية أو حياة الجماعة «أخلاقية-سياسية». (3)
الخطاب الأخلاقي احترازي: فهو يتعلق بالسبل التي ننظم بها إشباع رغباتنا وغاياتنا مع النظر للسعادة، ليس في الوقت الحاضر فحسب، بل وفي المستقبل أيضا، ولسعادتنا مع اعتبار كل شيء. (4)
يبرز الخطاب الأخلاقي القيم المرتبطة بتاريخ حياة الفرد، وبالتقليد أو الجماعة الثقافية التي ينتمي إليها هذا الفرد. لهابرماس مفهوم محدد جدا عن القيمة. فالقيمة مكون رمزي أساسي للثقافة أو الحياة الأخلاقية. والقول بأن القيم أساسية يعني أنه يستحيل تحليلها إلى مكونات أبسط، أو تفسيرها بكلمات أبسط، لنقل كلمات خاصة بالتفضيلات أو الرغبات أو الحاجات أو الأسباب. القيم تحدد التفضيلات، لا العكس. فهي تساعد على تشكيل احتياجاتنا ورغباتنا واهتماماتنا التي، بحسب زعم هابرماس، لا تقدم لنا في شكلها الكامل بفعل إرثنا البيولوجي أو الاجتماعي، لكنها دوما تظل بحاجة إلى التأويل. ولأن القيم مرتبطة ارتباطا وثيقا بنسيج مجتمع بعينه، فإن كل فرد خلال اندماجه اجتماعيا في مؤسسات وأنشطة ذلك المجتمع سيستوعب قيمه الأساسية؛ ولذا، فإن هذه القيم ستشكل تدريجيا مكونا محوريا لهوية الفرد. وهكذا فالقيم ليست «بمعزل» عنا شأنها شأن الحقائق الطبيعية المستقلة في وجودها. إنها راسخة فينا، ونحن نعيش في قلبها. ومن ثم، ورغم أن القيم الفردية عرضة للتفسير والتغير التدريجي، فهي ليست شيئا يمكن للبشر أن ينفصموا عنه بسهولة أو يجردوا أنفسهم منه. وأخيرا، فإن القيم بطبيعتها تدريجية، بينما المعايير مطلقة: القيم تسمح بدرجات أعلى وأدنى، بينما المعايير إما أن تكون صحيحة أو خاطئة. وبينما أنه من غير المنطقي - إلى حد بعيد - الزعم بأن ثمة فعلا أكثر خطأ من الناحية الأخلاقية من فعل آخر، فمن المنطقي جدا أن ثمة خيارا ما أفضل من آخر. (5)
إن فهم هابرماس لمفهومي الخير والقيمة يستند إلى سمة منطقية للخطاب الأخلاقي. إن النصائح والأحكام وترتيبات الأفضليات التي تنشأ في سياقها الخطابات الأخلاقية تتمتع بصحة «نسبية» أو «شرطية» وحسب. (وفي المقابل، فإن المعايير التي تنشأ في سياقاتها الخطابات الأخلاقية الناجحة صحيحة عامة وبلا قيد أو شرط. وبينما يقصد من المعيار الأخلاقي الصحيح أن يصمد عبر التقاليد الثقافية المختلفة والمتنافسة، فإن القيم لا تصمد إلا في سياق تقليد بعينه أو جماعة ثقافية بذاتها.) (6)
يعنى الخطاب الأخلاقي بفهم الفرد أو الجماعة لذاتها. وسواء أكانت المسائل الأخلاقية تخص الفرد أو الجماعة، فهي تعتبر مسائل تأويلية بصفة عامة؛ إذ تهدف إلى إيضاح الذات واستكشافها، وكذلك، إلى حد ما، تشكيلها. وإذا كللت بالنجاح، فهي تصدر أحكاما أو نصائح حيال أي الغايات أو القيم أو المصالح يتعين على المرء السعي وراءها لمصلحته العامة («التبرير والتطبيق»؛ «بين الحقائق والمعايير»؛ «تضمين الآخر، النسخة الألمانية»).
ملخص للفارق بين الخطاب الأخلاقي والخطاب الخلقي
الأخلاقيات
الخلقية
المفهوم الأساسي
الخير/الشر
صائب/خاطئ
منصف/غير منصف
الوحدة الأساسية
القيم
المعايير
السؤال الأساسي
ما المناسب لي أو لنا؟
ما المنصف؟ ماذا ينبغي أن أفعل؟ ولماذا؟ ما الصواب؟
الصحة
نسبية أو مشروطة
مطلقة أو غير مشروطة
نوع النظرية
احترازية، وغائية
واجباتية
الغايات
النصيحة، والحكم، وترتيب الأفضليات
تحديد المعايير الصحيحة، ومعرفة الواجبات (7)
يطرح الخطاب الأخلاقي ادعاء بصحة الأصالة («تضمين الآخر»، النسخة الألمانية). ولا يتضح بشكل كبير كيف يناسب ادعاء الصحة هذا أبعاد الصحة الثلاثة الأخرى المعنية بالحقيقة والصواب والصدق. تبدو الأصالة نظيرا للصدق في النطاق العملي. وهي لا تناسب مخطط هابرماس الثلاثي المنمق؛ لأنه، إذ يعرض هذا التعديل على الخطاب الأخلاقي، لا يعنى كثيرا بأن يجعله مطابقا لنظريته البراجماتية للمعنى. وغياب التناسب هذا يشير إلى أن مفاهيمنا الأخلاقية أكثر اضطرابا مما تبدو عليه في ظل تمايزات هابرماس المفاهيمية المنمقة. (3) صحة الخطاب الأخلاقي ونطاقه
من بين السمات المحددة للخطابات الأخلاقية أن النصائح التي تصدر في سياقها تتمتع بصحة «نسبية» أو «شرطية» وحسب. لا يصرح هابرماس بالكثير جدا حيال ماهية الصحة النسبية، لكننا نستطيع أن نفترض أنها مسألة نطاق. فالمعايير الأخلاقية الصحيحة يفترض أن تكون ملزمة عامة لجميع المشاركين في الخطاب أو جميع المعنيين بتنفيذه، بينما القيم أو الأحكام الأخلاقية ملزمة فقط للأشخاص الذين ينتمون إلى جماعة بعينها. ومع ذلك، فإن حقيقة أن أعضاء جماعة ما يستطيعون مجتمعين وبمحض إرادتهم الموافقة على حكم ما حيال جانب من جوانب مفهومهم عن الخير؛ حكم يعبر عن قيمة مشتركة بينهم، من المفترض أن يكون لها قوة تبريرية، مع أنها، كما سيتبين لنا فيما يلي، ليست كافية كي تفوق أي اعتبارات أخلاقية مقابلة.
وعلى ذلك، فإن الجماعات الثقافية توفر أطرا ترتبط بها القيم الأخلاقية والأعمال الخيرة. ويثير ذلك سؤالا يتعلق بما يمكن أن يعتبر مجموعة ثقافية؛ ومن ثم إطارا شرعيا للتقييم. أعتقد أن هابرماس يفترض أن هذا سؤال اجتماعي تجريبي إلى حد بعيد. ومع ذلك، فهي أيضا مسألة تقع في بؤرة اهتمام الفلسفة. على سبيل المثال، يبدو واضحا أن هذا الحديث عن جماعات ثقافية محددة لا يغطي كل النساء أو كل الأشخاص العسر أو جميع مشجعي نادي الأرسنال الإنجليزي. من المفترض أنهم جميعا أعضاء في مجموعة كلية، لكن عضوية هذه المجموعة ليس لها أية أهمية أخلاقية-سياسية (مع أنها ربما كانت، بطبيعة الحال، ذات أهمية أخلاقية-وجودية للحياة الشخصية للفرد).
إن العضوية في مجموعة ثقافية بالمعنى المقصود تعتبر علاقة من نوع مختلف كليا. بداية، للمجموعات سمة مشتركة تتخلل الكثير من جوانب الحياة، وتشكل الأفراد الذين ينشئون بداخلها، ويندمجون اجتماعيا في إطارها. وهذا يعني أن المجموعات الثقافية يجب أن تكون كبيرة بالقدر الكافي كي تحافظ على نفسها وتستنسخها والشخصية المشتركة لها. والعضوية في المجموعة أيضا مسألة إقرار مشترك؛ ولذا فإن المرء لا يعتبر عضوا بجماعة إلا إذا أقرت به الجماعة عضوا بها، من بين اشتراطات أخرى. وثالثا: فالعضوية مهمة جدا لتعرف الأعضاء على ذواتهم وفهمها، وهي واحدة من الطرق الجوهرية التي يتعرف بها الآخرون عليهم ويفهمونهم في سياقها. وأخيرا، العضوية مسألة انتماء إلى حد بعيد. المجموعات الثقافية ليست نوادي يتأتى الانضمام إليها بآلية إدارية. والانتماء إلى مجموعة ما ليست مسألة سهلة هينة؛ فقد تكون نتيجة عملية طويلة وصعبة يستوعب فيها الفرد ثقافة المجموعة ويلقى القبول ضمنها تدريجيا.
تبين هذه المعايير لم لا يمثل جميع مشجعي فريق الأرسنال وكل الأشخاص العسر وجميع النساء، بغض النظر عن تشابه تجاربهم، مجموعات ثقافية بالمعنى الذي يتطلبه مفهوم هابرماس للخطاب الأخلاقي-السياسي. وهذا أمر مهم ما دام أنه يجب ألا يسمح بأن تشكل كل مجموعة من أشخاص يشتركون في اهتمام بعينه، كبيرا كان أو صغيرا، مجموعة ثقافية يمكنها أن تلعب دور إطار التقييم الأخلاقي. في إنجلترا، يطيب لصيادي الثعالب وعشاق الرياضات الميدانية تقديم أنفسهم للآخرين على اعتبار أنهم ينتمون إلى مجموعة ثقافية من سكان الريف تسيء الغالبية المدنية فهمها. واستنادا إلى هذا السبب، فهم يعترضون على اقتراح الحكومة بحظر صيد الثعالب. لكن مفهومهم عن ذواتهم مختلط ومضلل. لا شك أن كل من يهتم بصيد الثعالب سيوافق بكامل إرادته على أنه ما من شيء يعيب صيدها، تماما كما يمكن لكل من يهتم بلعب البريدج أو الاستماع إلى بوب ديلان أن يتفق على أنه ما من شيء يعيب الاثنين. إن هذا الاتفاق لا يعني أن صيد الثعالب مبرر أخلاقيا أو بأي طريقة أخرى. فالجماعات ذات الاهتمام المشترك أو جماعات الضغط هذه ليست جماعات بالمعنى المقصود. جل ما في الأمر أنهم مجموعة من الأشخاص يشتركون في تفضيلات بعينها. ولا يشكلون التقاليد التي تحتاج إلى إيضاح بخطاب أخلاقي. فالسؤال نفسه المعني بماهية الاهتمامات الأصيلة للمجموعة يجيب عنه وجودها ذاته. قارن بين صائدي الثعالب الإنجليز للحظة وقبيلة البوشمان (رجالا ونساء) التي تعيش في صحراء كالهاري وتعتبر الصيد جزءا من حياتهم اليومية. بالنسبة لهؤلاء، سيهدد حظر الصيد فعلا أسلوب حياتهم وهويتهم الثقافية. (4) الوظيفة الاجتماعية للخطاب الأخلاقي
تختلف الوظيفة الاجتماعية للخطاب الأخلاقي بحسب كونه يخص تاريخ حياة فرد ما أو ثقافة مجموعة كاملة. وعلى اعتبار أن المجتمعات الحديثة تتألف من تقاليد متنافسة ومجموعات ثقافية ذات مفاهيم مختلفة ومتناقضة عن الخير، فمن الأرجح أن تكون القيم المشتركة مصدرا لخلافات الجماعات في المجتمعات الحديثة المتعددة الثقافات بقدر أكبر من كونها مفتاح حل لتلك الصراعات. وكمثال عشوائي على ذلك، كثيرا ما تندلع الخلافات في بريطانيا فيما يتعلق بالزيجات المرتبة لبنات الجيلين الثاني والثالث لآباء مهاجرين. يود الآباء المهاجرون من ناحيتهم أن يرث أبناؤهم عاداتهم وتقاليدهم وممارساتهم التي تتشكل على ضوئها آمالهم وتوقعاتهم من بناتهم. ولكن أغلب الظن أن بناتهم يكن قد شكلن تفضيلاتهن وتوقعاتهن الخاصة في ضوء قيم كالاستقلال الشخصي والحب الرومانسي؛ التي تشربنها من الثقافة التي ترعرعن فيها.
استنادا إلى نظرية هابرماس، وبالنظر إلى أن القيم قد تكون سببا لنزاع مستعص، من الاستجابات التي يمكن التعويل عليها أن نحاول حل النزاع بتفادي أي احتكام للقيم. وهذا بالضبط ما يقوم به الخطاب الخلقي بحسب المبدأ الأخلاقي. المعايير ليست قيما؛ إنما هي قواعد سلوكية لها أسسها في البنية التواصلية للعالم المعيش استنادا إلى اهتمامات عامة للغاية ومشتركة عموما. ومن ثم، فإن الخطاب الخلقي هو الملجأ الأول للأطراف المتنازعة في العالم المعيش. ومع ذلك، فبالنظر إلى ندرة المعايير الصحيحة عامة، فإن هذه الصراعات قد لا تكون خاضعة للتنظيم الخلقي، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون الخطاب الأخلاقي مفيدا. في موقف كهذا، سينطوي الخطاب الأخلاقي بشكل رئيسي على نقاش وإيضاح لجميع الأمور التي تعتبر المصالح المثلى للشخص المعني. وسينطوي أيضا لا محالة على تخصيص نقدي للقيم المتأصلة في ثقافة هذا الشخص، وتدبرا لموقفه الشخصي وتاريخ حياته.
وشأنها شأن الخطابات الخلقية، لا يمكن أن يجري الخطابات الأخلاقية سوى الأشخاص المعنيين وحدهم. ولا يستطيع أحد، على الأقل من جميع الفلاسفة الأخلاقيين، أن يحدد نتائج تلك الخطابات مقدما. ورغم ذلك، يمكننا أن نتخيل اثنين من السيناريوهات المنطقية . في الأول ، يتجاهل الآباء، بعد أن يلاحظوا رغبة الابنة في اختيار زوجها، تلك الرغبة، ويقررون المسألة في إطار ما يعتبرونه مصلحتها ومصلحتهم المثلى، ويزوجونها على غير رغبتها. حينئذ تتمثل خياراتها إما في التحدي الصريح لرغبات الآباء أو الامتثال المشوب بالتردد. وثمة تصور بديل؛ ألا وهو أن المعنيين يكيفون مصالحهم وقيمهم وينقحونها ويعيدون تفسيرها بشكل مشترك بما يجنبهم الصراع. على سبيل المثال، قد يسمح الآباء بترتيب زيجة بالتشاور مع العروس بحيث لا تشعر أنها ضحت باستقلالها الشخصي واحتمال وقوعها في الحب على مذبح تقاليد ثقافية غريبة على جيلها. وهذا السيناريو محتمل لأن الثقافات معقدة داخليا ومتعددة الروافد، والمصالح الخاصة للناس عرضة للتعديل والتفسير في ضوء جوانب مختلفة لها.
يشير هذا البديل إلى سمة مهمة من سمات الخطاب الأخلاقي. لنسترجع أطروحة هابرماس القائلة بأن التحديث ينطوي على تخصيص نقدي للتقاليد. فالتقاليد تتبدل تدريجيا بالتدبر فيها في سياق الخطاب الأخلاقي، فتستمر بعض العناصر ويطوي النسيان البعض الآخر. القيم ومفاهيم الخير والتفاهمات الذاتية ليست ثابتة. فهي تخضع دوما لعملية إعادة تفسير. والهويات الجمعية (وكذا الفردية) يجب أن ينظر إليها كضرب من المشروعات بالمعنى الحرفي؛ إننا عالقون بين ما نجد أنفسنا عليه وما نريده لأنفسنا. (5) أولوية الخلقي على الأخلاقي
يلاحظ هابرماس أنه على مدار فترة التحديث، تمايزت المسائل المتعلقة بالصواب العام (العدالة) تدريجيا عن المسائل المتعلقة بالحياة الصالحة، ونشأت تدريجيا مجموعة من المفاهيم المتعارضة والمتنافسة عن الخير من تراث ديني متجانس بوجه عام. وبناء على ذلك، فهو يرى أنه من الخطأ اعتبار الأخلاقيات والخلقية نهجين متنافسين للمسائل نفسها؛ فهما عنصران متمايزان ولكنهما مكملان لفهم ذاتنا في كل يوم. ويعتبر هابرماس أن قدرة أخلاقيات الخطاب على إفساح المجال لكل من الخطاب الخلقي والخطاب الأخلاقي، بدلا من تغليب أحدهما على الآخر؛ ميزة استثنائية. (5-1) هابرماس وأولوية الخطاب الخلقي
تلعب فكرة الخطاب الأخلاقي دورا لا تفتأ أهميته تزداد في فكر هابرماس وهو يمسي أكثر اهتماما بالنظرية الديمقراطية والقانونية. ومع ذلك، يستمر هابرماس في الإصرار على أولوية الخطاب الخلقي. ويبرهن أولويته استنادا إلى عدة أسباب. أولها أن الخطاب الخلقي، من الناحية البراجماتية، هو الآلية الافتراضية لحل النزاعات بين الفاعلين في العالم المعيش؛ لأنه، على عكس الخطاب الأخلاقي، يستبعد القيم من عملية التبرير، وبذلك فإنه يتفادى مصدر صراع عويص. وثانيها أن الخطاب الخلقي له أولوية اجتماعية-وجودية معينة على الخطاب الأخلاقي، استنادا إلى حقيقة أن المبدأ الأخلاقي، ومن ثم كل معيار صحيح، متجذر في البنية التواصلية للعالم المعيش. الصواب المعياري ليس قيمة ثقافية، ولا حتى قيمة واسعة الانتشار جدا. إنه يجسد المثل التواصلية للاحترام المتساوي للجميع والتضامن العام الذي تحويه قواعد الخطاب. وهو تخصيص للصحة، ومقابل للحقيقة التي من دونها لما استطاع الفاعلون المتواصلون في المجتمعات الحديثة العيش كما يعيشون. وأخيرا، فإن نموذج كولبرج للتطور الخلقي ونظرية التحديث يدعمان أطروحة أولوية الخلقية. للأفراد ما بعد التقليديين هويات ذاتية مجردة ليست راسخة في أي تقليد بعينه. ويتجلى ذلك في الميل إلى تبني إجراءات تداولية للاستقرار على قضايا خلقية بتدبر، قبل طرح أسئلة جوهرية حيال هوية المرء وماهية الحياة المثلى.
المحصلة أن الخلقية تضع حدودا على الأخلاقيات. بحسب هابرماس، الخطابات الأخلاقية مصادر للتبرير تعمل بالفعل داخل حدود الجواز الخلقي. لنفترض أن التفكر الأخلاقي يفضي إلى حكم ينتهك معيارا خلقيا. بالعودة إلى المثال الذي طرحناه، لنفترض أن الآباء ينتهون إلى أن أفضل سيناريو هو إجبار بناتهم على العودة إلى وطنهن على غير رغبتهن. في هذه الحالة، يجب دفع المشاركين في خطاب أخلاقي يتعلق بصواب هذا الفعل، وربما أيضا يتعين عليهم التعامل مع فكرة خرق القانون. في مخطط هابرماس، مهما كان الاعتبار الأخلاقي مبررا تبريرا وجيها، ومهما كانت أهمية قيمة ثقافية بعينها، فمن الممكن دوما أن يبطلها معيار خلقي صحيح. فالمعايير الخلقية، متى كانت متاحة، تتفوق على القيم الأخلاقية التي تتعارض معها. (5-2) رولز وأولوية الصواب
في هذه النقطة، ثمة وجه شبه بين أخلاقيات الخطاب والأعمال اللاحقة للفيلسوف السياسي الأمريكي جون رولز (1921-2002) الذي يدافع عن أطروحة أولوية الصواب على الخير. ووجه الشبه بين وجهات النظر ليس من قبيل المصادفة ما دامت التنقيحات التي دخلت على أخلاقيات الخطاب في التسعينيات قد تأثرت أيما تأثر برولز. يعتقد رولز أن الصواب والخير مفهومان متكاملان. فالصواب يجب أن يفهم في سياق علاقته بأطروحة رولز القائلة إن المفهوم الحديث العملي للعدالة على أنها الإنصاف يجب أن يكون «سياسيا لا ميتافيزيقيا». ويلاحظ رولز أن المجتمعات الحديثة لم تعد متجانسة ثقافيا؛ فهي تشكل مجموعة ضخمة من وجهات نظر عامة و«مذاهب شاملة» تتنافس أيها يحظى بالولاء. وفي ضوء هذه الحقيقة، فإن الإطار القانوني والدستوري لمجتمع منظم يجب ألا يعول على حقيقة أي وجهة نظر عامة بعينها، أو يفترضها مسبقا. وهذا هو المعنى السلبي للأطروحة التي مفادها أن العدالة يجب أن تكون سياسية لا ميتافيزيقية؛ ولذا، يوصي رولز ب «أسلوب مراوغة» يتم به تقليل النزاع إلى الحدود الدنيا؛ ذلك لأن القيم الأخلاقية والدينية الجدلية تستبعد من عملية التبرير السياسي.
إذا نظرنا نظرة إيجابية للتبريرات السياسية، فسنراها تحتكم إلى أفكار وقيم عامة تحظى بقبول واسع النطاق بين جميع الثقافات والرؤى العالمية المختلفة. إنها جزء مما يطلق عليه رولز اسم «الإجماع المتداخل» الممكن للقيم. ويجب أن يتحرى المرء الحذر هنا. عندما يستخدم رولز اصطلاح «الإجماع»، فهو لا يعني عملية الوصول إلى فهم أو اتفاق والنتيجة المترتبة على تلك العملية. بالنسبة لرولز، يكون المعتقد أو الفكرة جزءا من إجماع متداخل عندما يكون لدى الجميع، بغض النظر عن التقاليد أو الرؤى العالمية، سبب لقبوله. والسبب الذي يقبلونه على أساسه لا يهم. ومن أبرز هذه الأفكار فكرة المجتمع كنظام منصف للتعاون بين المواطنين الأحرار السواسية. يقول رولز إن هذه فكرة خلقية، لكنها لا تتقيد بأي من المذاهب الشاملة؛ فهي تجد لنفسها صدى في كل هذه المذاهب.
يقول رولز إن أي مفهوم عن الصواب (أو العدالة) يفي بهذا المعيار السياسي للتبرير؛ معقول أو مبرر، مع أن هذه المعقولية أو التبرير ليس بمقتضى كونه صحيحا أو جواز كونه صحيحا. فمسألة صحته أو عدم صحته لا تعول على تبريره السياسي. الأمر الذي يعتبر وثيق الصلة هنا هو أنه يثير أقل قدر من الجدل ويحظى بأكبر قدر من الإخلاص. بهذه الطريقة، يفرض الصواب (أو العدالة) إطارا سياسيا ليبراليا يحق لكل فرد فيه المراجعة والتنقيح والسعي لصياغة مفهومه الشخصي عن الخير إلى الحد الذي يتوافق وحرية الآخرين في أن يفعلوا المثل. ومن ثم، فالصواب يعول على وجود عدة مفاهيم متنافسة للخير (أو مذاهب شاملة) من الممكن أن تحظى بدعم المواطنين. والصواب والخير متكاملان: «العدالة ترسم الحدود، والخير يجلي الغاية.» (5-3) هابرماس في مقابل رولز
من الواضح أن هناك اتفاقا كبيرا بين هابرماس ورولز؛ فكلاهما يقبل حقيقة التعددية المعقولة. ويتفق الاثنان على أن هناك فارقا جوهريا بين شيء الخلقية/الصواب والأخلاقيات/الخير، وأن الحاجة تقتضي وضع نظرية وافية لاستيعابهما. علاوة على ذلك، فهما يتفقان على أن الصواب له أولوية على الخير. وأخيرا، فهما يتفقان على أن هناك جانبا وظيفيا أو براجماتيا لأولوية الصواب. إن موضوعية مفهوم الصواب تضمن أن يلقى قبولا واسع النطاق بين الثقافات والرؤى العالمية؛ مما ييسر الاستقرار والانسجام الاجتماعيين.
ولكن كما يتجلى لنا من السجال الشهير بين هابرماس ورولز، هناك مواطن للخلاف أيضا. يفترض هابرماس أنه في مجتمع تعددي ثقافيا، تكون الأفضلية للاعتبارات الخلقية الدنيوية والعلمانية، في حين نجد رولز أكثر لاأدرية حيال هذه النقطة. إن مسألة كون الخلقية دنيوية أم دينية محل خلاف ميتافيزيقي. يعترض هابرماس على أن مفهوم رولز «السياسي» للعدالة يضحي بمكانته الإدراكية (مقبوليته العقلانية) لصالح غايته الوظيفية أو الأداتية المعنية بضمان الاستقرار الاجتماعي. إن مبادئ العدالة مبررة باعتبارها معقولة لا لسبب إلا أنه يصادف أنها تلقى قبول الجميع، بغض النظر عن كون هذه المبادئ تستحق القبول. وفي المقابل، نجد أن المبدأ الأخلاقي يضمن أن جميع المعايير المقبولة عقلانيا، دون سواها، هي المبررة (أي التي تستحق القبول من الجميع) على أساس أنها تجسد بالدليل مصلحة قابلة للتعميم. ووفقا لأخلاقيات الخطاب، يرتبط الصواب الأخلاقي بالصحة داخليا، ويناظر الحقيقة؛ ولذا، فإن هابرماس يعتبر أنه قدم مسوغات «معرفية» و«إدراكية»، لا وظيفية وحسب ، على أولوية الخلقية؛ فقد أثبت أن الخلقية هي المعرفة، لا التعبير عن قيم من الممكن تبنيها.
ومن ناحية رولز، فهو يرد على هابرماس بأن الأخير، إذ أسند أخلاقيات الخطاب إلى نظريته الجدلية للمعنى (وإذ يصر على أن الخلقية علمانية)، يطرح مبدأ ميتافيزيقيا جديدا فحسب. ويمتد أسلوب رولز في الإعراض أيضا ليشمل النظريات الفلسفية وما وراء الأخلاقية (أي النظريات التي تتناول ماهية الخلقية)؛ حيث لا يقتصر فقط على الرؤى العالمية والمذاهب الميتافيزيقية. ويزعم رولز أن الفلسفة السياسية ينبغي أن تتفادى اتخاذ أي إجراءات نظرية لا حاجة لها، من شأنها أن تجلب له المتاعب لاحقا. من جانب واحد، من الواضح أن رولز محق.
يرتبط برنامج هابرماس لأخلاقيات الخطاب ارتباطا وثيقا بمجموعة كاملة من وجهات النظر الفلسفية الجدلية المتعلقة بالمعنى والتواصل وما إلى ذلك. ورغم ذلك، فإن شاغل هابرماس الأكبر هو إنكار كون نظرية الخطاب الخلقي ميتافزيقية، انطلاقا تحديدا من كونها تعبر عن قيم ثقافية محددة. يرصد الخطاب الخلقي إجراء شكليا وعاما ليس له بديل مقبول، يحدد بواسطته المشاركون مجتمعين ما يصح من الناحية الخلقية. ومن ثم فهو يؤسس حدود الجواز الخلقي التي يعمل في إطارها الخطاب الأخلاقي. (هذه الحجة تتعرض للتقويض إلى حد ما بفعل إخفاقه في طرح اشتقاق شكلي للمبدأ الخلقي.)
المقارنة بين رولز وهابرماس فيما يتعلق بمسألة الأولوية مفيدة، لكنها في الوقت عينه مضللة بعض الشيء عندما تتجرد من سياق المشروعات الفلسفية لكل منهما؛ فأطروحة رولز لأولوية الصواب ترتبط بمفهومه اللاميتافيزيقي عما هو سياسي. فهو يهدف إلى وضع مفهوم مستقل لكل ما هو سياسي يدعم مفهومه للعدالة كإنصاف، وفي الوقت نفسه يحصنه من أي جدل لا داعي له. أما مشروع هابرماس فهو شامل بالمقارنة، لأنه معني بجميع جوانب النظام الاجتماعي، بما في ذلك أبعاده الخلقية والأخلاقية والسياسية والقانونية. ورغم أنه يظن أن الاعتبارات الخلقية يجب ألا تحتكم إلى قيم ثقافية جدلية، فهو ينكر أن ما هو سياسي يمكن أن يكون مستقلا بالطريقة التي يظن رولز أنه يجب أن يكون عليها . وعلى النقيض ، يشكل ما هو سياسي مجموعة متنوعة كاملة من آليات مختلفة لحل النزاعات، تعتمد بشكل مستقل على الأنواع الثلاثة المختلفة للخطاب العملي. (6) معقولية تمييز هابرماس بين الخلقية والأخلاقيات
يؤكد هابرماس على أنه رغم أن التمييز التاريخي بين الخلقية والأخلاقيات غامض وملتبس، فإن تمييزه المفاهيمي بين الاثنتين قاطع وحاسم. ويصر على أن المعايير الصحيحة مختلفة جوهريا عن القيم. إن الغاية من خطاب خلقي متسق مع المبدأ الأخلاقي هي استبعاد جميع القيم باعتبارها غير قابلة للتعميم. وحينئذ فقط يمكنه أن يعمل كقاعدة لحجة تجعل الاتفاق ممكنا. يود هابرماس أن يبدد أي شكوك متبقية في أن المبدأ الأخلاقي مجرد تحيز عرقي يستند إلى مجموعة عارضة من القيم. ويقول إن المبدأ الأخلاقي يضرب بجذوره في التواصل والخطاب، ويعد جزءا من نسيج المجتمعات الحديثة نفسه. وتحكم ادعاءات صحة الصواب والحقيقة التنسيق بين الأفعال، وتوفر أساسا للنظام الاجتماعي. لو كان له أن يشوش التمايز بين الخلقية والأخلاقيات، وبين المعايير الخلقية والقيم، من أي من الاتجاهين، لتسربت القيم التي يقر بها مصدرا للنزاع المستعصي إلى النطاق الأخلاقي، ولهددت مفهومه البراجماتي عن الخلقية بأكمله.
تكمن المشكلة في أن تمييز هابرماس ليس محكما كما ينبغي. يوضح توماس ماكارثي أن هابرماس أثناء تسرعه لرفض المذهب الطبيعي (القائل بأن جميع القيم يمكن اختزالها إلى حقائق تجريبية عن احتياجات البشر ومصالحهم)، فإنه يزعم أن الاحتياجات والمصالح دائما ما تتشكل ويتم تفسيرها في ضوء القيم الثقافية. ومع ذلك، فهو يزعم أيضا أن المعايير الخلقية تجسد المصالح، مع أنه يقصد المصالح القابلة للتعميم فقط؛ ولذا، فإن هابرماس يقر على أية حال بأن المعايير الخلقية تعول على القيم باعتبارها الأساس الذي يفسر الفاعلون والمشاركون في الخطاب مصالحهم واحتياجاتهم عليه. ومن ثم فهو يسمح للقيم، دون قصد، بالدخول من الباب الخلفي، وما تحمله من احتمالات تسببها في صراع خلقي.
لدى هيلاري بوتنام اعتراض يخوض بعض الشيء في هذا الاتجاه نفسه. يقول بوتنام إن التمايز بين المعايير والقيم لا يمكن أن يكون حاسما؛ لأن المعايير تفترض مسبقا وجود «مفاهيم أخلاقية صلبة» أو قيم. فمعايير مثل «كن لطيفا مع أصدقائك» و«لا تكن قاسيا على الأطفال» تفترض مسبقا وجود قيمتي الصداقة أو القسوة، ومن دونهما لا توجد لغة يمكن تعريف هذين المعيارين ووصفهما بها. إذا كان مكارثي وبوتنام على حق، فسنجد أن المعايير الصحيحة ليست نادرة وحسب، بل ومتداخلة مع القيم الثقافية المثيرة للجدل بشكل لا مناص منه. وفي هذه الحالة، سيضطر الفاعلون إلى أن يجدوا آليات مختلفة لحل النزاع، وأن يبحثوا عن سبل أخرى للتعاون والنظام الاجتماعيين بخلاف السبل الخلقية. ويستتبع هذا تحولا كبيرا في ركيزة برنامج أخلاقيات الخطاب بعيدا عن الخلقية والأخلاقيات وباتجاه السياسة والقانون.
الفصل الثامن
السياسة والديمقراطية والقانون
يرى هابرماس أن القيم الأخلاقية المشتركة (أو ما يطلق عليه روح الجماعة
ethos ) هي ما يمسك عرى المجتمعات التقليدية. وتسمح التنشئة والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية للناس باكتساب هويات ودوافع ملائمة للأدوار والواجبات التي تتطلبها مؤسسات المجتمع كي تعمل بسلاسة. المجتمعات الحديثة معقدة ومتمايزة ومتعددة الثقافات؛ فلا يوجد مركز وحيد يتحكم فيها، ولا يربط بينها أي تقليد وحيد مهيمن، أو رؤية عالمية، أو مجموعة من القواعد. في المجتمعات الحديثة، تتشكل للناس هويات عامة ومجردة؛ مما يعني أنهم لا يرون أنفسهم عموما باعتبارهم أبناء أو بنات فلان، أو جزءا من عائلة أو سلالة أو كمواطنين بدولة في المقام الأول؛ إنهم يرون أنفسهم والآخرين أولا وأخيرا أفرادا وأشخاصا مستقلين وعقلانيين يمارسون حياتهم بناء على مبادئ عامة وأسباب محددة تنطبق عليهم. وتستمر هوياتهم المجردة رغم التغيرات التي تطرأ على الجنسية والثقافة وبلد الإقامة والعمل والاسم وما إلى ذلك. والذاتية الحديثة أيضا تحيد عن مركزيتها؛ لأن الضغوط المستمرة التي لا مناص منها للمشاركة في الخطاب (لا سيما الخطاب الأخلاقي) تتطلب تبنيا مثاليا للأدوار، وتبادلا للمنظورات مع الآخرين جميعهم، وتطويرا لما أسماه ميد بالذات الأكبر (انظر الفصل السادس).
في البرنامج الأصلي لأخلاقيات الخطاب، زعم هابرماس أنه تحت الظروف الحديثة يكون الخطاب الأخلاقي الآلية الأساسية للاندماج الاجتماعي. فالخطاب الأخلاقي مناسب للمجتمعات المتنوعة ثقافيا ، ما دام أنه يسمح للناس مجتمعين بتحديد قواعد تعايشهم بأنفسهم، وهذه القواعد عامة جدا وشمولية إلى أقصى درجة ممكنة. في فترة ما في أواخر الثمانينيات، أدرك هابرماس أن الخلقية، حسب وصفها في البرنامج الأساسي، محدودة للغاية، لدرجة أنها تخفق في الوفاء بالوظيفة الاجتماعية المركزية التي يخصصها لها. بالتزامن مع استحداث مفهوم الخطاب الأخلاقي، يبدأ برنامج أخلاقيات الخطاب المعدل في مواجهة هذه المعضلة، وتستمر النظرية السياسية لهابرماس في الاتجاه نفسه. فهي تقر بأن الخطاب الأخلاقي وحده لا يكفي لتنظيم النزاعات، والحفاظ على النظام الاجتماعي في المجتمعات المتباينة ثقافيا. وليس ذلك لمجرد وجود القليل جدا من المعايير الأخلاقية الصحيحة، ولا لأن المعايير نفسها قد تكون محملة بقيم مثيرة للجدل، ولكن لأن البشر فيهم «اعوجاج» أصلا بحسب المجاز الذي ساقه كانط. إذا كانت الأمور خلاف ذلك؛ أي إذا كان الفاعلون الحداثيون يميلون بدون شك إلى التصرف بشكل أخلاقي طوال الوقت، فقد تكون الخلقية وحدها كافية للحفاظ على سلامة المجتمع واستمراره. ومن الواضح أن هذا ليس الحال.
يبدأ برنامج هابرماس للنظرية الديمقراطية والقانونية بالإقرار بأن الأنظمة الاجتماعية الحديثة لا تتشكل بالمعايير الأخلاقية فحسب، بل بالمؤسسات السياسية والقوانين أيضا. وفي هذا السياق، يتمم «بين الحقائق والمعايير» أخلاقيات الخطاب، وفي الوقت نفسه يعد امتدادا واستكمالا لبرنامج النظرية الاجتماعية. يجوز أن يقول المرء (ولا شك أن أحدهم قالها بالفعل) إن فلسفة هابرماس اتخذت منعطفا سياسيا. وإذا صح ذلك، فلا عجب ما دامت نظريته الاجتماعية والأخلاقية، بحسب زعم كثير من نقاده، كانت دوما في واقع الأمر نظرية سياسية مقنعة. وحتى لو صح ذلك، فهو لا يعني أن هابرماس يمكن أن يسقط النظرية الأخلاقية لمصلحة نظريته السياسية والقانونية. والواقع أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك؛ لأن السياسة والقانون، من وجهة نظره، لا يتسنى لهما العمل في غير وجود الخلقية؛ ومن ثم تعتمد النظرية السياسية والقانونية على النظرية الأخلاقية. (1) مفهوم السياسة لدى هابرماس (1-1) بنية السياسة «ذات المسارين»
يميز هابرماس بين نطاقين أساسيين للسياسة: غير الرسمي والرسمي. ويتألف النطاق السياسي غير الرسمي من شبكة من المصادر التلقائية «الفوضوية» من التواصل والخطاب. لنطلق على هذا النطاق «المجتمع المدني». وتشمل أمثلة المجتمع المدني المنظمات التطوعية والاتحادات السياسية والإعلام. والأمارات المميزة للمجتمع المدني هي أنه لا يتحول إلى مؤسسة، ولم يخلق لصنع القرار. وفي المقابل، فالسياسة بمعناها الرسمي تختص بالنطاقات المؤسسية للتواصل والخطاب، وهي مصممة تحديدا لصنع القرار. وتتضمن الأمثلة البارزة على السياسة الرسمية البرلمانات ومجالس الوزراء والمجالس المنتخبة والأحزاب السياسية. لاحظ أنه من الخطأ الظن بأن هذا النطاق السياسي الرسمي مرادف للدولة؛ وذلك لأن الدولة ليست مجموعة من المنتديات المؤسسية المسئولة عن وضع السياسات وصنع القرارات فحسب، بل هي أيضا نظام إداري وكيان بيروقراطي توجهه، على حد قول هابرماس، أداة السلطة.
هذا المفهوم ثنائي المسار للنطاقين الرسمي وغير الرسمي يعطينا إطارا أساسيا لمفهوم هابرماس عن السياسة. في المجتمع المدني، يشارك أعضاء المجتمع السياسي في الخطاب، ويصلون إلى تفاهم، ويقدمون تنازلات، ويصوغون آراء حول شئون خاصة وعامة. ويطلق هابرماس على تلك العملية عملية تشكل رأي الفرد وإرادته. وفي المقابل، في النطاق السياسي الرسمي يقوم الممثلون المحددون لأعضاء المجتمع السياسي باتخاذ القرارات والموافقة على القوانين وصياغة السياسات وتنفيذها.
استنادا للصورة التي يرسمها هابرماس، يؤدي النظام السياسي وظيفته جيدا عندما تستوعب مؤسسات صنع القرار مداخلات المجتمع المدني، وعندما يكون لديه القنوات السليمة التي يمكن للمداخلات الواردة من أدنى (المجتمع المدني والرأي العام) التأثير في مخرجاته (السياسات والقوانين). عمليا، تحقق الدول الديمقراطية هذا التوازن أفضل من الأنظمة اللاديمقراطية. وتميل المؤسسات الديمقراطية السليمة إلى وضع سياسات وسن قوانين متسقة مع الرأي العام المشكل تداوليا؛ ومن ثم فإنها عقلانية ومبررة. وهذا أمر منشود بحد ذاته، ومنشود من الناحية الوظيفية أيضا ما دام أن الحداثيين سينزعون إلى الالتزام بالسياسات والقوانين التي يقبلون بأساسها المنطقي. من المرجح أن يكون المجتمع العقلاني مستقرا؛ ولذا، فهناك مسوغات أخلاقية وأداتية وجيهة تعلل تفضيل الحداثيين العيش تحت مظلة مؤسسات ديمقراطية.
يجب أن نتحرى الحيطة الشديدة عندما نتناول قدرة الأنظمة الديمقراطية على الوصول إلى قرارات مبررة . في النطاق السياسي، نجد أن فكرة ما هو مبرر أكثر شمولا منها في النطاقات الفردية للخطاب النظري والخلقي والأخلاقي. تشكل التبريرات السياسية مجموعة متنوعة من الاعتبارات، إضافة إلى المعايير المعرفية والأخلاقية (أبعاد صحة الحقيقة والصواب) التي تحكم الخطاب النظري والأخلاقي على الترتيب. على سبيل المثال، يتم تفعيل الاعتبارات الأخلاقية والبراجماتية إلى جانب العوامل الخاصة بالإدراك السليم، كتلك التي يمكن تحقيقها بفعل إجراءات الوصول إلى الحلول الوسط والتفاوض. إن الخطاب السياسي أشبه بورشة العمل التي يمكن فيها، فور تجربة إجراءات الخطاب الخلقي والخطاب الأخلاقي الأكثر تطلبا وثبوت فشلها، إجراء مجموعة كاملة من التجارب الأخرى للوصول إلى حلول عقلانية وتوافقية بشكل عام. (1-2) حقوق الإنسان وسيادة الشعب
يمزج هابرماس كعادته بين مفهومين سياسيين عادة ما يعاملان على اعتبار أنهما بديلان: الديمقراطية الليبرالية والجمهورية المدنية. ويقول هابرماس إن كل مفهوم يتمحور حول فكرة وحيدة؛ الديمقراطية الليبرالية تقوم على فكرة حقوق الإنسان، والجمهورية المدنية على فكرة سيادة الشعب. (والواقع أن المفهومين ملازمان لبعض جوانب الليبرالية والديمقراطية. في الأول، نجد أن الليبرالية لها اليد العليا على الديمقراطية، وفي الثاني نرى الليبرالية تخضع للديمقراطية.) ويذكر هابرماس أن كل مفهوم يفضل تفسيرا معينا للاستقلال؛ تفضل الديمقراطية الليبرالية الاستقلال الفردي أو الخاص (أي تقرير الفرد مصيره)، في حين تفضل الجمهورية المدنية الاستقلال الجمعي أو العام أو السياسي (أي تحقيق المجتمع السياسي ذاته).
يقول هابرماس إن حقوق الإنسان تحمي الاستقلال الخاص للفرد. واستنادا لوجهة النظر الليبرالية الديمقراطية، فإن للأفراد مصالح ما قبل سياسية، ومجموعة من الحقوق التي تحمي حريتهم للسعي وراء تلك المصالح، بما يتوافق مع الحرية المماثلة للآخرين جميعا في السعي وراء مصالحهم. ينظر للحرية هنا باعتبارها فرصة. وتكمن قيمة حريتي في الفرص التي تكفلها لي، والتي يمكنني استغلالها أو تفويتها كيفما أشاء، لا في أي ممارسة فعلية لهذه الحرية. وعادة ما تلازم وجهة النظر هذه فكرة دولة الحد الأدنى التي تترك لكل فرد حرية عيش حياته على النحو الذي يناسبه، ولا تتدخل إلا لحل النزاعات الناشئة حال طغيان حرية أحدهم على حرية الآخر؛ ولذا، لا ينظر للمواطنة أو المشاركة في المجتمع السياسي باعتبارها ذات قيمة بحد ذاتها، لكنها ذات قيمة من الناحية الأداتية فقط باعتبارها وسيلة لتأمين هذه الحقوق والفرص.
ولتحقيق ذلك بإنصاف، يجب على الدولة أن تظل محايدة فيما يتعلق بقيم ومفاهيم الخير التي يسعى إليها مواطنوها. ورغم ذلك، فإن فكرة حقوق الإنسان فكرة أخلاقية متحيزة لا محالة ضد أية قيمة أو رؤية عالمية لا تتسق مع الحقوق والحريات الأساسية للجميع. ولهذا السبب، يطعن كثير من النقاد المجتمعيين والجمهوريين الذين ينتقدون الديمقراطية الليبرالية، في حيادها المزعوم. وينكر أغلب الليبراليين من ناحيتهم أن الدولة يجب أو حتى يمكن أن تظل محايدة فيما يتعلق بنتائج أو تبعات سياساتها وقوانينها؛ ويزعمون أنها ينبغي أن تظل محايدة فيما يختص بتبرير سياساتها وقوانينها كي تنأى بنفسها عن أي جدل لا داعي له؛ ولذا، فرغم أن جميع القوانين أو السياسات ربما لن تفيد الجميع بالطريقة نفسها وبالقدر نفسه، فإنه لا يجوز تبرير أي قانون على أساس قيم خلافية.
سيادة الشعب هي الفكرة القائلة إن السلطة السياسية للدولة تكمن في نهاية المطاف في إرادة الشعب. وتفترض الفكرة أن السياسة في الأصل مسألة تتعلق بتحقيق الاستقلال الشعبي جمعيا، لا تأمين الاستقلال الخاص بالأفراد؛ إن حرية «الشعب الممثل فينا» هي ما يهم، لا حرية كل فرد على حدة. وعادة ما نتخيل الاستقلال العام استنادا إلى نموذج مجلس الشعب؛ مما ساعد على استحداث وجهة النظر القائلة إن المواطنين أحرار بقدر ما يشرعون لأنفسهم من قوانين. وبشكل أكثر عمومية، يمكن فهم السيادة العامة باعتبارها فكرة أن أعضاء المجتمع السياسي أحرار إلى الحد الذي يستطيعون في إطاره اعتبار القوانين الحاكمة لهم تعبيرا عن قيمهم الخاصة.
على النقيض من المفهوم الليبرالي للاستقلال الخاص، فإن الفكرة الجمهورية المدنية عن الاستقلال العام ليست مفهوما لفرصة، بل مفهوم لممارسة. على سبيل المثال، فالقيمة الحقيقية لحرية التعبير لا تكمن في الفرص التي تكفلها للأفراد بل في تطبيقها الجمعي. فعندما يمارس عدد كاف من الناس حريتهم في التعبير، ينشأ الإعلام الحر/الصحافة الحرة، وبشكل أكثر عمومية تتطور ثقافة مشتركة تعود بالفائدة والنفع على جميع المواطنين. إن العضوية في المجتمع السياسي عظيمة القيمة في حد ذاتها؛ ولذا، فإن الدولة أبعد ما تكون عن الحياد؛ إنها تجسد وتوصي بدأب بمجموعة من القيم والمثل لمواطنيها. وأخيرا، استنادا إلى هذا الرأي، فإن أي حقوق فردية يتمتع بها المواطنون تستقى من قيم المجتمع السياسي ومثله، وتعول في الوقت نفسه عليها.
يوفر مفهوم هابرماس ثنائي المسار عن السياسة إطارا يمزج بين الفكرتين؛ فيعدل كل واحدة منهما وينقحها بحيث تتكيف مع وقائع المجتمع الحداثي. ويثبت هذا المفهوم أن حقوق الإنسان وسيادة الشعب متزامنان ومتبادلان، أي إنه لا يسبق أي منهما الآخر، وكل منهما يعتمد على الآخر. وفي الوقت نفسه، يربط هذا المفهوم بين مفهومي الاستقلال الخاص والعام ويعطي كلا منهما ثقلا مكافئا. فالسياسة بحسب هابرماس هي التعبير عن «الحرية التي تنبع في آن واحد من ذاتية الفرد وسيادة الشعب» (بين الحقائق والمعايير). يستبقي هابرماس فكرة حقوق الإنسان، ويؤيد وجهة النظر الليبرالية أن الدولة ينبغي أن تستوعب الثقافات والرؤى العالمية المختلفة وتتحملها. لكنه ينكر ثلاث فرضيات ليبرالية أساسية: (1)
أن الحقوق تنتمي إلى الأفراد ما قبل المفهوم السياسي. (2)
أن العضوية في المجتمع السياسي ذات قيمة فقط كوسيلة لحماية الحرية الفردية. (3)
أن الدولة ينبغي أن تظل محايدة فيما يتعلق بتبرير سياساتها أو قوانينها؛ حيث يوحي الحياد بتفادي اللجوء إلى القيم والاعتبارات الأخلاقية.
يقول هابرماس إن هذه الفرضيات تعكس التحيز المتأصل تجاه الموضوع الذي يميز فلسفة الوعي. وعلى العكس من ذلك يقول إن الحقوق لا تكتسب إلا عن طريق الإدماج الاجتماعي، وأن العضوية في المجتمع ليست قيمة بشكل أداتي وحسب، وأن التبريرات السياسية ينبغي أن تستوعب الاعتبارات الأخلاقية.
في الوقت نفسه، نراه يرفض ثلاث فرضيات جمهورية مدنية أساسية: (1)
أن الدولة ينبغي أن تجسد قيم المجتمع السياسي. (2)
أن المشاركة في المجتمع هي تفعيل لهذه القيم. (3)
أن الحقوق الذاتية تستخلص من الفهم الذاتي الأخلاقي للمجتمع وتعتمد عليه.
استنادا إلى وجهة نظره، فإن هذه الفرضيات لم تعد سارية؛ لأن المجتمعات الحداثية تتألف من مجموعة كبيرة من التقاليد المتنافسة والرؤى العالمية؛ ولذا، فإن مسألة أي القيم ينبغي أن توصي بها الدولة وتتيحها لأفرادها ستكون في حد ذاتها مسألة مثيرة للجدل. جل ما يمكننا أن نتوقعه هو أن السياسات والقرارات والقوانين يمكن أن يكون لها صدى لدى الفهم الذاتي الأخلاقي لكل من مجتمعاتها المختلفة.
يدعم هابرماس نسخة حداثية من فكرة سيادة الشعب نزعت منها وجهة النظر القديمة القائلة إن الأفراد يشكلون شخصية مسلطة عليها الأضواء. «سيادة الشعب لا تتجسد في ذات جمعية، أو في كيان سياسي على غرار تجمع لكل المواطنين»، بل تكمن في أشكال «غير موضوعية» من التواصل والخطاب متداولة في المنتديات والهيئات التشريعية (بين الحقائق والمعايير). في المجتمعات الحداثية، يستقر المثال النموذجي في مدى انفتاح الهيئات الرسمية الصانعة للقرار على تأثير المجتمع المدني. عندما تكون المؤسسات السياسية الرسمية منفتحة على الحد الصحيح من المدخلات من أدنى، فستميل قراراتها وسياساتها وقوانينها إلى العقلانية وستحظى بالقبول. وبما أن الدول الديمقراطية يجب أن تكون مدمجة في المجتمع المدني بشكل مناسب، فيتعين على المجتمع المدني أن يحظى بالحماية لأجل الديمقراطية. وهنا يأتي دور نظام الحقوق. يدفع هابرماس بأن «نظام الحقوق ينص على الشروط التي يمكن بموجبها إجراء التأسيس القانوني لأشكال التواصل الضرورية لنشأة القانون الشرعي» (بين الحقائق والمعايير). الفكرة الأساسية مفادها أن نظام الحقوق الراسخ في القانون يمكن أن يساعد على تغذية أشكال المجتمع المدني التي يتعين على هيئات صنع القرار الرسمية استيعابها كي تكون قادرة على سن قوانين مقبولة عقلانيا. (2) السياسة وشكل القانون
في عصرنا الحالي، قد يبدو من الحقائق البديهية (وإن كانت حديثة المنشأ) أنه ينبغي تنظيم المجتمع في شكل دولة ذات حكومة ديمقراطية الشكل ونظام لحقوق الإنسان. ظاهريا هذا أمر غريب؛ لأن الفكرة الفردية الليبرالية لحقوق الإنسان والفكرة الجمهورية لسيادة الشعب متعارضتان جوهريا؛ فإحداهما توصي بأن الحكومة ينبغي عليها احترام حقي في الحياة كيفما أشاء (بالطبع بما يتسق وحق الآخرين جميعهم في أن يعيشوا حياتهم كيفما يشاءون)، والأخرى تؤيد حكم الشعب.
لا يحاول هابرماس أن ينكر ذلك. ويجيب بأن هذا التعارض راسخ في مفهوم القانون نفسه، وأن القانون هو الوسيلة التي تساعد في المجتمعات الحداثية على تخفيف عبء الاندماج الاجتماعي الواقع على التواصل والخطاب الأخلاقي. لنتذكر أنه بحسب رواية هابرماس، فإن الوظيفة الاجتماعية للخلقية هي تسوية تضاربات المصالح، وتنسيق الأفعال، وإقامة النظام الاجتماعي. تدعم السياسة الخلقية وترسخها؛ إذ تضعها في شكل القانون. وهذا لا يعني أن القانون والخلقية لا يمكن أن ينفصلا. فمن الممكن أن ينفصلا فعلا، على سبيل المثال في حالات العصيان المدني والاستنكاف الضميري. لكن هذه حالات هامشية. بصفة عامة، تعمل المعايير القانونية والمعايير الأخلاقية جنبا إلى جنب من أجل تسوية النزاعات، وتنسيق الأفعال، وإقامة نظام اجتماعي على أساس المعايير الصحيحة. ولكنها تحقق ذلك بطرق مختلفة. (2-1) البنية المزدوجة للقانون
لنفترض أنه ذات ليلة أردت أن تركب دراجتك وتذهب إلى حفل ما في الجانب الآخر من المدينة، لكنك اكتشفت أن مصباح الدراجة تالف. وهناك قانون يحظر ركوب الدراجات في الظلام دون مصابيح، وثمة سبب لسن هذا القانون: فركوب الدراجات دون مصابيح يعرض حياة الراكب وغيره من المشاة في الطرقات للخطر. وهو أيضا مخالفة يعاقب عليها القانون؛ إذا ضبطتك الشرطة على دراجتك بدون إضاءة المصابيح، فإنها مخولة باعتقالك وتغريمك. مثل هذه المعايير القانونية لا تتطلب سوى الامتثال. إنها تقتضي أن تطاع، لكنها لا تقتضي أن تطاع للسبب الوجيه. ومن هذا المنطلق فهي تخالف المعايير الأخلاقية التي تقتضي أن تطاع للأسباب الوجيهة. فالخوف من الاعتقال أو العقاب ليس سببا أخلاقيا وجيها للتصرف؛ ولذا، فمن الممكن للفاعل الملتزم بالقانون إما أن يذهب للحفل سيرا على الأقدام؛ لأنه يدرك أن ركوب دراجته دون إضاءة المصابيح يعرض حياته وحياة الآخرين في الطرقات للخطر، أو لأن الأمر لا يستحق المخاطرة بالاعتقال أو التعرض للعقاب. إن دوافعه عمليا غير ذات صلة بالمسألة ما دام، بطاعته للقانون، يتصرف استنادا لدواعي السلامة المرورية التي تنطبق عليه على أية حال. تعمل المعايير الأخلاقية والقانونية جنبا إلى جنب.
يزعم هابرماس أن القوانين التي تسنها المؤسسات القانونية المنفتحة على مدخلات المجتمع المدني ستميل إلى العقلانية. وأفراد المجتمع القانوني سيمتثلون عموما لمثل هذه القوانين؛ لأنهم سيستطيعون أن يدركوا مغزاها، فالقوانين تقتضي أن يفعلوا ما لديهم أسباب مستقلة لأن يفعلوه. ولكن أحيانا، لن يكفي مغزى القوانين للحث على السلوك القانوني. وفي هذه الحالات، قد يفي الخوف من الاعتقال أو التعرض للعقاب بالغرض.
يقول هابرماس إن المعيار القانوني أو القانون له جانب معياري وآخر وقائعي: فهو من ناحية شرعي، ومن ناحية أخرى واقعي. ومن ثم جاء العنوان «بين الحقائق والمعايير» الذي إذا ترجم حرفيا كان «الوقائعية والصحة». لا يكون القانون «شرعيا» إلا عندما يكون له مغزى، أو عند وجود أسباب مستحسنة للامتثال له (بخلاف كونه القانون المعمول به، وأن عصيانه مخالفة تقتضي العقاب). وتتضح حقيقة أن شرعية القانون ضرورة لكنها ليست شرطا وافيا لصحته عندما نبحث سمتين أخريين للقوانين الصحيحة. القانون «واقعي» عندما تضعه أو تفرضه هيئة معترف بها. وللقوانين سمة ثالثة أيضا؛ فهي يجب أن تكون قابلة لأن تفرض على الآخرين. ولا يصح المعيار القانوني إلا عند توافر هذه المكونات جميعا. يجب أن يكون للقانون جانب جدير بالتقدير، وأن تصدره هيئة معترف بها، وأن يكون قابلا لأن يفرض على الآخرين؛ ولذا، فإن صحة القانون تفرض مسبقا سلطة سياسية. وتفترض مسبقا أيضا، من بين أشياء أخرى، وجود سلطة قضائية ودولة تحتكر القوة الشرعية والقدرة على إنفاذ القوانين بواسطة التنظيم الشرطي للعمل بها ومعاقبة مخالفيها. (2-2) شرعية القانون
رغم أن هابرماس يقر بواقعية القانون وقابلية فرضه بالقوة، فهو دوما يشدد على شرعيته. فالقوانين الشرعية، أي القوانين ذات المغزى، تحث المواطنين على أن يمتثلوا امتثالا عقلانيا طوعيا. لاحظ أن الامتثال العقلاني يختلف عن الولاء العاطفي، مع أن كليهما يمكن أن يتبناه المرء بإرادته. فالولاء العاطفي قد يكون نتيجة دوافع لا عقلانية ولا تداولية؛ كالقيم والاحتياجات والعواطف المحددة المرتبطة بالانتماء إلى جماعة ثقافية بعينها. أما الامتثال العقلاني فهو يترتب على «القوة المحفزة» للأسباب الوجيهة العامة (على حد قول هابرماس، الأسباب العامة بطبيعتها) التي تسري مستقلة عن المؤسسات القانونية والقضائية والعقابية. ينشأ النظام الاجتماعي بسلاسة دون تفعيل التهديد بالعقاب على أرض الواقع. وهذا أمر ضروري ما دام أنه لا يمكن في المجتمعات الكبرى الحداثية الإجبار على جميع السلوكيات القانونية، أو الحث على الالتزام بها بالتهديد بالعقوبات. يجب أن ينبع السلوك القانوني إلى حد بعيد إراديا استجابة إلى الشرعية الملموسة للقانون.
يصوغ هابرماس فكرة الشرعية هذه في مبدأ الديمقراطية. يقال إن المبدأ الديمقراطي شرط من شروط مبدأ الخطاب. ويحدد مبدأ الخطاب شرطا ضروريا لصحة معايير الفعل، وينطبق على كل من المعايير القانونية والأخلاقية. ينص المبدأ الديمقراطي على ما يلي:
القوانين التي تعتبر شرعية هي تلك التي يتوافق عليها جميع أعضاء المجتمع القانوني في عملية تشريع تداولية مشكلة بدورها قانونيا. «بين الحقائق والمعايير»
وهذا شكل آخر من أشكال فكرة هابرماس الأساسية القائلة إنه إذا أمكن تبرير شيء ما، فلا بد أن يستطيع الجميع الموافقة عليه في خطاب متواصل بشكل سليم. وفقا لهابرماس، ينشأ المبدأ الديمقراطي من «التداخل» بين مبدأ الخطاب والشكل القانوني. وتفاصيل عملية «التداخل» هذه معقدة جدا بما يحول دون الخوض فيها هنا، لكن المحصلة من المفترض أن تتمثل في أن الميثاق القانوني ومبدأ الديمقراطية يخلق كل منهما الآخر.
والأهم أن الشكل القانوني يثري مبدأ الخطاب عن طريق استحداث أوجه اختلاف من حيث النطاق والتبرير. فالمبدأ الديمقراطي ينص على أن القوانين الشرعية يجب أن تكون قابلة لقبول جميع أفراد المجتمع القانوني، لا لقبول كل من يتأثر بالمعيار، كما في مبدأ الخطاب. ويتألف المجتمع القانوني من أي شخص قادر على إتيان السلوك القانوني، ويحكم أفعاله للقانون موضع النقاش. وبحسب مبدأ الخطاب، فإن القابلية للإجماع علامة على صحة المعيار. وعلامة شرعية أي قانون بحسب المبدأ الديمقراطي أكثر تعقيدا بكثير. يجب أن تكون القوانين الشرعية قادرة على كسب موافقة جميع أعضاء المجتمع القانوني. وهذه الموافقة يجب أن تكون نتاج عملية تشريع مشكلة تشكيلا قانونيا. وبتعبير آخر، لا يكون المعيار شرعيا إلا إذا استطاع جميع أفراد المجتمع القانوني الموافقة عليه، وبإمكانهم الموافقة عليه؛ لأنه صدر عن هيئة صانعة للقرار تعتمد المداولة والخطاب، ومنفتحة على مدخلات المجتمع المدني، وتمتثل لمنظومة الحقوق الموضوعة قانونا. لاحظ أن المبدأ الديمقراطي يوحي بأن القوانين الشرعية يجب أن تحظى بموافقة جميع أعضاء المجتمع القانوني؛ لا أنه يتعين عليهم التماسها عمليا، بل يجب على الجميع فعليا أن يوافقوا على كل قانون. في إنجلترا، سيصدر قريبا قانون يحظر صيد الثعالب، بغض النظر عن وجهات نظر صائدي الثعالب الساخطين. وتمت الموافقة على القانون بطريقة سليمة بمعرفة هيئة صنع قرار معترف بها كانت منفتحة على مدخلات المجتمع المدني، وبحثت احتجاجات صائدي الثعالب. ومن ثم، فهو قانون شرعي. وعند إنفاذ القانون، لن تكون حقيقة أن صائدي الثعالب لا يوافقون عليه ويعارضون الأسباب الداعية لوجوده ذات أهمية. وعلى فرض أنه يمكن، إضافة إلى ذلك، إنفاذه ومراقبته شرطيا بشكل مناسب، فسيكون القانون صحيحا. وتستند نظرية هابرماس للقانون، شأنها شأن نظريته عن الخلقية، بقدر كبير على تمييزه بين ما هو قابل للموافقة في الأساس وما يلتمس هذه الموافقة عمليا. (2-3) الحداثة والقانون والخلقية
رغم أن مكون الشرعية لأي قانون - أي مغزاه - هو مزيج من الاعتبارات الخلقية والأخلاقية والبراجماتية، فإن الخلقية هي المكون الرئيس. يقول هابرماس إن القانون الشرعي «يرتبط بعلاقة ما بالخلقية الراسخة بداخله» (بين الحقائق والمعايير). لكن من الصعب الجزم بماهية هذه العلاقة. بصفة عامة، كلمة «قانون» في الإنجليزية تستخدم كترجمة لمرادفها الألماني
Recht (كما في كلمة
Rechtswissenschaft
ومعناها فقه القانون)؛ لكن الكلمة نفسها يمكن أيضا أن تعني «عدالة» أو «صوابا». ولكن يفترض أن الفكرة التي تدور بعقل هابرماس هي علاقة مفاهيمية بين القانون والخلقية، لا علاقة اشتقاقية. فهو يزعم على سبيل المثال أن القوانين الشرعية يجب أن تكون «منسجمة» مع المعايير الخلقية والقيم الأخلاقية (بين الحقائق والمعايير).
وعلاوة على أن القوانين الشرعية تتسق والمطالب الأخلاقية، فإنها تتمتع، شأنها شأن المعايير الخلقية، بتوجه داخلي نحو الصالح العام؛ ففكرة أن أي قانون يخدم بوضوح المصلحة العامة هي جزء من الغاية من هذا القانون. مال هابرماس في عمل سابق له إلى افتراض أن القوانين الشرعية مناظرة للمعايير الخلقية، ما دامت المعايير الصحيحة «صالحة للجميع بالقدر نفسه»؛ ومن ثم فهي أيضا تخدم الصالح العام. لكن البرنامج المعدل يعترض سبيل هذه الفرضية. فهو يوحي بأن الصالح العام يمكن أن يعني عدة أشياء مختلفة في سياقات متباينة. الفارق هو أن المعايير الخلقية صالحة للجميع «بالطريقة نفسها» (لأنها تتضمن مصالح قابلة للتعميم)، في حين أن المعايير القانونية على أفضل الفروض صالحة «بطريقة ما» لجميع أفراد المجتمع القانوني. لم يعد المفهوم الجامع للصالح العام للمجتمع القانوني مكافئا بعد لمفهوم الصواب الخلقي.
يبدو أن حجة هابرماس الكلية هي أن القانون الشرعي يتيح مسارا موازيا يمكن من خلاله إدماج الفاعلين اجتماعيا في خلقية ما بعد تقليدية. ويعود هذا في جزء منه إلى أن القانون الشرعي يتسق مع الخلقية، ولأنه أيضا يقدم للفاعلين الفرصة كي يشهدوا المصلحة العامة القانونية ويعملوا على خدمتها. إن الأفعال التي تتسق مع المعايير القانونية، والتي يتم الإتيان بها لأن هذه المعايير تخدم الصالح العام بوضوح، مناظرة للأفعال الخلقية ما بعد التقليدية. علاوة على ذلك، فإن المواطنين الذين يعيشون في الدول الديمقراطية الغربية يمكنهم النظر بشكل مبرر إلى قوانينهم باعتبارها مختارة من قبلهم؛ لأن مؤسسات صنع القرار الخاصة بهم منفتحة على الخطاب ومدخلات المجتمع المدني. وإلى هذا الحد، فإن طاعة القوانين الشرعية هي توجه مرهون بمبادئ ذاتية الاختيار، مرة أخرى شأنها شأن خلقية ما بعد التقليدية. ومن ثم، ففي المجتمعات الحداثية شديدة التعقيد، التي فقدت آصرة روح الجماعة المشتركة، يدعم القانون نطاق الخلقية الهش، ويتيح قنوات قانونية «يمكن أن ينتشر المحتوى الخلقي في المجتمع» من خلالها بصورة قد تشبه حتى ما يحدث مع أنظمة المال والسلطة (بين الحقائق والمعايير). (3) الاعتراضات على نظرية هابرماس الديمقراطية والقانونية
رغم ثراء وأصالة عمل هابرماس «بين الحقائق والمعايير»، واجه الكتاب بعض الاعتراضات الجادة؛ أولا: يزعم هابرماس أن الدول الديمقراطية يجب أن تسعى إلى تحقيق التوازن السليم بين مدخلات المجتمع المدني ومخرجات هيئات صنع القرار الرسمية، لكنه لا يصرح بماهية هذا التوازن السليم. هل ينبغي للمدخلات القادمة مباشرة من أدنى أن تحدد العملية التشريعية؟ هل من الأفضل أن يدلي أعضاء البرلمان بأصواتهم على أساس التفضيلات الفعلية لناخبيهم، أم أن يعتمدوا على حكمهم الشخصي في البرلمان؟ على أية حال، يقر هابرماس بأن المجتمع المدني فوضوي وتلقائي وغير مقيد وغير مستقر أصلا. الكثير من المدخلات من أدنى يمكن أن تقحم عناصر الفوضوية والتلقائية وعدم الاستقرار في النظام الديمقراطي، وهي المشكلة نفسها التي شابت الأشكال القديمة من الديمقراطية المباشرة.
ثانيا: لا يوضح هابرماس إلى أي حد يوصي بمثال نموذجي معياري للديمقراطية التشاورية أو التداولية، وإلى أي حد يقدم لنا نظرية تجريبية. فهو يقول بطبيعة الحال إن نظريته مثال نموذجي معياري ووصف للديمقراطية. وهذا أمر مفهوم ما دام مصطلح «الديمقراطية» على أية حال له محتوى معياري ووصفي يكاد يستحيل الفصل بينهما. ولكن، بينما نرى هابرماس حريصا على الترويج للإثباتات التجريبية لنظريته (على سبيل المثال، بين الحقائق والمعايير)، فإنه يبدو أقل عناية بأن يعادل بين نظريته والبيانات التجريبية ذات الصلة من أن يجعلها متوافقة مع برامجه النظرية الأخرى السابقة.
وثالثا: بالنظر إلى ولع هابرماس بعلم العمارة في الفلسفة، فمن الغريب أن نظريته الاجتماعية تمثل مشكلة للنظرية السياسية. يحدد عمله «بين الحقائق والمعايير» بعدين للسلطة السياسية: السلطة التواصلية والسلطة الإدارية. وتكمن السلطة التواصلية في المجتمع المدني، وفي منتديات التشاور والخطاب المدمجة في هيئات صنع القرار. أما السلطة الإدارية فتكمن في بيروقراطية الدولة والحكومة. تقوم أطروحة هابرماس الأساسية على أن المؤسسات السياسية (الديمقراطية) السليمة تترجم بنجاح، وحري بها ذلك، السلطة التواصلية إلى سلطة إدارية. ولكن، بحسب النظرية الاجتماعية لهابرماس، إدارة الدولة جزء من النظام الذي توجهه معايير الكفاءة الأداتية، في حين أن المجتمع المدني جزء من العالم المعيش. إن الساحات المؤسسية للخطاب والتشاور امتدادات سياسية للعالم المعيش. والآن، إذا كان التمايز بين العقلانية التواصلية والأداتية، والعالم المعيش، والنظام محددا تحديدا واضحا ، كما تزعم النظرية الاجتماعية لهابرماس، وإذا كان تكامل العالم المعيش ينهار بفعل تدخل النظام، فكيف يمكن الحصول على الترجمة المنشودة للسلطة التواصلية إلى سلطة إدارية؟ لم لا يطمس الأثر التحضري للخطاب الأخلاقي والخطاب الخلقي بفعل آليات العمل الجامدة للإدارة؟ (4) الديمقراطية والنظرية الاجتماعية النقدية
علاوة على الرد على السؤال التوجيهي لمشروع هابرماس الاجتماعي، يمكن النظر إلى نظريته الديمقراطية والقانونية لهابرماس باعتبارها امتدادا لمشروع النظرية الاجتماعية النقدية. وهي امتداد للنظرية الاجتماعية النقدية؛ إذ تشخص في المقام الأول نقاط القوة والضعف للدول الديمقراطية الغربية والأخطار التي تواجهها تلك الدول. وهناك خطران أساسيان؛ الأول: إذا لم تتمكن حقوق الإنسان المكفولة قانونا من حماية المجتمع المدني من التآكل بفعل الأسواق والأجهزة الإدارية، فإن مصادر التواصل والخطاب التي تعول عليها المؤسسات السياسية ستجف وتنضب. وإذا حدث ذلك، فستكون القرارات السياسية أكثر عرضة إلى التشويه الأيديولوجي والتحيز لجماعات المصالح القوية. وعندما تحرم فئات بعينها من الإدلاء بدلوها في العملية التشريعية، فمن الأرجح أن تبدو القوانين التي تعيش تلك الفئات تحت مظلتها غير مراعية لهم أو عدائية تجاههم، وستتفاقم مشاعر التهميش والتغريب والتشاؤم لديهم، وربما يشرعون تدريجيا في أن يمثلوا خطرا على النظام الاجتماعي.
ثانيا: الأسلوب الحالي الذي تتبناه الحكومة في بريطانيا والولايات المتحدة يقضي بتفويض صنع القرار إلى النخبة البيروقراطية «المطلعة» من قبل الخبراء وجماعات المصالح. جرى العرف على أن يوافق البرلمان ومجلس الوزراء روتينيا على السياسات، لا أن يكونا ساحتين لمناقشة تلك السياسات ودراستها. وفي نهاية المطاف، اعتاد المسئولون ذوو الخبرة الإعلامية أو المتحدثون الإعلاميون على استمالة الجمهور إلى هذه السياسات. وصناعة القبول الشعبي هي الخطوة الأخيرة في سلسلة القرارات التي لا توصف إلا بالبيروقراطية. والاتجاه هنا ليس تعزيز مؤسسات صنع القرار المنفتحة والشفافة، بل تجاهل واستبعاد إجراءات التواصل والخطاب من العملية السياسية بالكامل لأجل الملاءمة أو «الوضوح» الأخلاقي أو غير ذلك من المنافع المفترضة. إن القرار الأخير الذي اتخذته الحكومة البريطانية لدعم التدخل العسكري الأمريكي في العراق بإرسالها قوات للعراق؛ حالة تستدعي الدراسة . ففي بريطانيا ، كانت هناك احتجاجات جماهيرية واسعة النطاق لا مثيل لها على سياسة الحكومة البريطانية. وبدا أن التصويت البرلماني كان مجرد «تحصيل حاصل» للقرار الذي اتخذه طوني بلير ومستشاروه. الخطر الثاني يكمن في أن الأثر التحضري للمجتمع المدني على الهيئات القانونية وهيئات صنع القرار ينحسر، وأن دور المواطنين يختزل بالكامل فيصبحون مستهلكين سلبيين.
رغم هذا التقييم السديد للأخطار التي تواجهها الديمقراطيات الليبرالية الغربية، يتمسك هابرماس ببصيص أمل ممثل في قدرة المؤسسات الديمقراطية على التكيف مع المشكلات التي تواجه المجتمعات الحداثية. رغم كل التوترات الكامنة بداخل الديمقراطيات الليبرالية، فهي لا تزال تحتفظ بصلة وطيدة مع المثال النموذجي للحرية باعتباره تقريرا للمصير. يقول هابرماس إن السياسة هي التعبير عن الحرية الإنسانية التي لا تفهم كحقيقة مثبتة بالفعل، بل كمهمة متواصلة يفرضها الإقرار بأن «لا أحد حر حتى نحصل جميعا على حريتنا» (الدين والعقلانية: مقالات حول العقل والرب والحداثة).
الفصل التاسع
ألمانيا وأوروبا ومواطنة ما بعد القومية
أوضحت الفصول السابقة شيئا عن عمق التزام هابرماس وإيمانه بآثار الإدماج الاجتماعي المفيدة للخلقية والديمقراطية وحقوق الإنسان الفردية. وتنبع كراهية هابرماس الأبدية للقومية بكل أشكالها من تقدير حصيف ودقيق للظروف الاجتماعية المسبقة للأخطاء البشرية المتجذرة في تجاربه الشخصية. على ما تقدم، وكما سيذكرنا، يجب ألا نخلط بين أصول المعتقدات والقناعات وصحتها. (1) الأمة والقومية (1-1) فكرة الدولة القومية
لفهم تحفظات هابرماس تجاه القومية، يجب أن ندرس في عجالة مفهومه عن الأمة. يروي هابرماس رواية تتغير فيها الأمة الأوروبية كردة فعل لمجموعة كبيرة من المشكلات الاجتماعية التي نشأت في نهاية القرن الثامن عشر. إن الأشكال الحديثة الأولى للمجتمع تعلقت بالموقع وتشكلت بنيتها بفعل التقاليد الريفية والبناء الهرمي الإقطاعي الطبيعي ظاهريا، وتقيدت بعرفها الديني المشترك المؤلف من مجموعة متجانسة من القيم الثقافية. وبالتزامن مع مطلع الحداثة، من نهاية القرن الثامن عشر فصاعدا، حرمت مجموعة متنوعة من العوامل - التحديث والحراك السكاني وتداول البضائع وتراجع تأثير الدين - المجتمع من نقاط الارتكاز هذه. وفي الوقت نفسه، بينما كانت أسس المجتمع الحديث الأول تتداعى ، كان هناك مجتمع ضخم من الغرباء حضري إلى حد بعيد بصدد التشكل.
وفقا لهابرماس، نشأت الأمة كأساس جديد أكثر تجريدا ونجاحا للاندماج الاجتماعي. وصيغت فكرة الأمة من التقاليد المبتكرة والتاريخ الخيالي لمجتمع وحيد له سلالة ولغة وثقافة مشتركة. وما إن علقت الفكرة بالخيال العام، حتى أثبت الوعي القومي براعته في خلق أواصر فعالة من التضامن بين المواطنين الذين كانوا أيضا غرباء بعضهم عن بعض. في الوقت نفسه، أتاحت النشأة التدريجية للمشاركة الديمقراطية في هياكل صنع القرار مجموعة من العلاقات القانونية القائمة على التماسك بين المواطنين. وبدأت فكرتا الأمة والوعي القومي في العمل معا إلى جانب البنى السياسية للدولة كي تغرس في مواطنيها حس الانتماء إلى مجتمع سياسي وحيد، وحس هويتهم الثقافية والسياسية الجمعية.
وبينما يقر هابرماس بالإنجازات الاجتماعية للدولة القومية، فهو على دراية بأن الفكرة تنطوي على خطورة أيضا. إن فكرة الأمة العرقية إقصائية في الأصل. فالمنتمون مميزون دوما باللغة أو الأصل عن غير المنتمين. وبمجرد أن تصبح الفكرة راسخة في المزاج العام، يكون من الممكن أن تفضي إلى خلق أقليات داخلية واضطهادها. ثانيا: علاقات الأمة هي علاقات تماهي «عاطفي» أو «انفعالي» مع المجتمع «مستقلة وسابقة على الرأي السياسي للمواطنين وتكون إرادتهم» («تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية). وهذه علاقات ما قبل تداولية، وليست خاضعة لسوق الحجة المنطقية. ومع ذلك، فإن النخبة السياسية تتلاعب بها بسهولة. على سبيل المثال، يمكن للزيادة المهولة في المشاعر الوطنية التي تصاحب الحملات العسكرية الخارجية أن تضع حدا للقلاقل السياسية الداخلية، وهو أثر معروف تستغله الحكومات مرارا وتكرارا حتى يومنا هذا.
ورغم أن هذه الأخطار موجودة في جوهر فكرة «مجتمع الشعب» أو
Volksgemeinschaft ، فإنها ليست متأصلة في نموذج المجتمع الشرعي المؤلف من المواطنين الأحرار السواسية أو
Rechtsgemeinschaft «المجتمع القانوني». إن كون المرء مواطنا أو فردا من أفراد مجتمع قانوني ما أشبه بكون المرء طالبا بإحدى الجامعات. إنه مجرد مكان يستطيع أي شخص أن يشغله. والعضوية فيه مفتوحة في الأساس، والمعايير التي ينبغي أن تحدد العضوية مسألة سياسية بحتة. لكن عضوية شعب الأمة حقيقة وراثية ما قبل سياسية؛ ولذا، بحسب هابرماس، فإن مفهوم الدولة القومية ينطوي على صراع بين نصفيه، «بين عالمية المجتمع القانوني القائل بالمساواة وخصوصية مجتمع يوحده المصير التاريخي» («تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية). إن التحدي الذي تواجهه الدولة القومية يتمثل في ارتقائها لنصفها الأفضل. (1-2) القومية
تتجلى القومية عادة عندما تقع الأمة تحت خطر فعلي. يرى هابرماس أنه في بداية الألفية الثالثة تعرضت الدولة القومية إلى تهديد من الخارج يتمثل في العولمة والضغوط الاقتصادية العالمية، ومن الداخل بفعل التعددية الثقافية.
بصفة عامة، أفضت العولمة إلى موقف تكمن فيه أسباب المشكلات الاجتماعية والسياسية الملحة - على سبيل المثال، الهجرة الاقتصادية، والفقر، والبطالة المتفشية، وخطر الكوارث البيئية - فيما هو أبعد من متناول السياسات القومية. ومن ثم، فإن حلول تلك المشكلات ليست في المتناول أيضا. تتطلب المشكلات السياسية العالمية حلولا سياسية عبر قومية. وتتفاقم المشكلات لأن قدرات الدول الفردية على التصرف تراجعت وانحسرت.
وفي الوقت نفسه، تجد الأمم نفسها مهددة من الداخل بفعل نشأة التعددية الثقافية. فقد ساعدت الهجرة والحراك المتزايد للناس على تبديد الأسطورة القومية للمجتمع الواحد المتجانس ثقافيا. تكافح الجماعات والأقليات المهمشة لتحقيق الاعتراف المتساوي، وتتحدى فرضيات ثقافة الأغلبية وقناعاتها.
في هذا السياق، تمثل القومية ردة فعل قوية، مع أنها شديدة الخطورة. فهي تهدف إلى تجديد التماسك الاجتماعي، وبث إحساس بالانتماء عن طريق إحياء الوعي القومي. إن النزعة القومية، في رأي هابرماس، ليست وسيلة للسيطرة على الموارد الملازمة لعملية التحديث - الخطاب الأخلاقي والقانون الشرعي - بل هي محاولة يائسة لعكس العملية. وهي أيضا رجعية، بحسب تقدير هابرماس. لنتذكر أنه، بحسب كولبرج، ينمو الأطفال الطبيعيون مرورا بست مراحل؛ فهم لا ينتكسون رجوعا في تلك المراحل. ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا كان باستطاعتهم «عدم تعلم» ما تعلموه. فكر كيف سيكون من غير المعتاد وغير الطبيعي لشخص تعلم بالفعل السباحة أو تحدث إحدى اللغات «ألا يتعلم» هاتين المهارتين. وبالمثل، فإن الأشكال المعاصرة للقومية تشير إلى انتكاس من الأشكال ما بعد التقليدية إلى الأشكال التقليدية من الارتباط. فالقومية نوع من الانحراف الاجتماعي عن المألوف.
يجب أن يكون المرء حذرا هنا. فالمجتمعات لا «تتعلم» إلا بقدر يكاد يكون غير محسوس؛ ولذا، فالقومية لا تكون «انتكاسية» أو «شاذة» إلا بالقدر ذاته الذي لا يكاد يكون محسوسا. لا يقترح هابرماس أن الرغبة في الانتماء إلى جماعة ثقافية في حد ذاتها انتكاسية. على العكس من ذلك، فهو يقر بأنه في ظل ظروف التعددية، يجب على المواطنين أن يضعوا أنفسهم داخل سياق التقاليد، ويتحدوا بثقافتهم، ولكن تحت مظلة التفكير النقدي الملائم. إن الجوانب الانتكاسية للقومية هي محاولات فاشلة: (1)
لاستبدال الأشكال الحداثية من الاندماج الاجتماعي - التواصل والخطاب والقانون الشرعي - بصلات القرابة العاطفية. (2)
للبحث عن معيار ما قبل سياسي وطبيعي لعضوية المجتمع السياسي. (3)
لتخليص العملية السياسية من أثر الخطاب والتواصل.
قد يبدو العداء الذي يكنه هابرماس للقومية مبالغا فيه. ولكن، لنضع في الاعتبار أنه على دراية كاملة، لا من واقع تجربته طفلا بل ومن واقع أحداث سياسية أحدث في يوغوسلافيا السابقة وغيرها من الدول، بالأخطار التي تمثلها القومية. نار القومية أسهل في إضرامها من إخمادها. وبمجرد أن تضرم ثانية، فمن الممكن أن تفضي إلى اضطهاد الأقليات الداخلية والتمييز العرقي، وفي نهاية المطاف تؤدي إلى تطهير عرقي وإبادة جماعية. (2) الوطنية الدستورية
يقول هابرماس إن الشكل الوحيد الملائم في ظل الظروف الحداثية لتماهي المرء مع تقاليده هو الوطنية الدستورية. استخدم هابرماس هذا المصطلح لأول مرة خلال سجال عام حامي الوطيس في منتصف الثمانينيات فيما عرف لاحقا باسم «سجال المؤرخين». بالمغالاة في التبسيط، أنتج مؤرخون بعينهم يرتبطون بصلات بحكومة هيلموت كول قراءات جديدة للتاريخ الألماني الحديث، أعطت بعدا نسبيا لجرائم الحقبة النازية، وقللت من شأن «الحل النهائي»، وشددت بقدر أكبر على بطولة الجنود الألمان الذين صمدوا على الجبهة الشرقية للسماح للمواطنين الألمان بالفرار من الجيش الأحمر.
وفقا لهابرماس، لم يكن النزاع حول الأطروحة التاريخية، بل حول إساءة استخدام التاريخ الأكاديمي لتلبية غايات سياسية. لم تكن هذه الروايات التاريخية المنقحة استراتيجيا تطرح ادعاءات بصحة حقيقتها وحسب، بل كانت أيضا جزءا من محاولة واعية ومنظمة سياسيا ل «تطبيع» التاريخ الألماني، والتخلص من «الماضي الذي ما برح يلازمنا». ومن بين الغايات المتوسطة الأجل لهذه الحملة الرغبة في المساعدة في خلق هوية قومية ألمانية؛ ومن ثم تعزيز شعبية هيلموت كول داخليا. ولعل الغاية النهائية المتصورة كانت تمهيد الدرب السياسي لألمانيا الغربية كي تكف عن دفع تعويضات مالية إلى إسرائيل، وتشرع في لعب دور جيوسياسي من شأنه أن يعكس قوتها الاقتصادية. وحتى الآن، المفترض أن السبيل إلى «التطبيع» تعرقله عقبة كئود: معسكر اعتقال أوشفيتس. لقد وصمت الكارثة الأخلاقية التي وقعت بين عامي 1933-1945 الوعي القومي الألماني إلى الأبد.
استنادا إلى هذه الخلفية، يقول هابرماس إن خطة صناعة ماض تستطيع أن تفتخر به ألمانيا رجعية ولا طائل منها. والشكل الوحيد للوطنية الملائم سياسيا وأخلاقيا هو الذي يرتكز على المبادئ العالمية للدولة الدستورية:
بالنسبة لنا في الجمهورية الفدرالية، تعني الوطنية الدستورية، من بين معان أخرى، الفخر بحقيقة نجاحنا في القضاء على الفاشية إلى الأبد، وإقامة نظام سياسي عادل، وإرساء ذلك النظام في ثقافة سياسية ليبرالية إلى حد بعيد. «ثورة اللحاق بالركب»
من المهم أن نتذكر أن القانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية فرضته عليها قوة محتلة أجنبية. ولم يكن تعبيرا عن تقليد السياسة الديمقراطية الألماني الأصيل. عندما وضع القانون الأساسي، كان دستورا ديمقراطيا مؤقتا يبحث عن مواطنين ديمقراطيين. ولكن، بحلول منتصف الثمانينيات، أمست ألمانيا الغربية واحدة من أكثر الديمقراطيات الأوروبية ازدهارا. وكان هذا، بحسب ظن هابرماس، إنجازا يستحق الفخر. وبقدر وافر من الحظ التاريخي والكثير من العمل الدءوب وانتهاج سياسة إعادة تعليم ناجحة، نمت لدى مواطني الجمهورية الفدرالية ثقافة سياسية وهوية سياسية استنادا إلى التزام تجاه الإجراءات والمبادئ الديمقراطية:
تتبلور الثقافة السياسية لدولة ما حول دستورها. وتطور كل ثقافة قومية تفسيرا مميزا لتلك المبادئ الدستورية ... كسيادة الشعب وحقوق الإنسان في ضوء تاريخها القومي الخاص. و«الوطنية الدستورية» القائمة على هذه التفسيرات يمكن أن تستحوذ على المكانة التي كانت تحتلها أصلا النزعة القومية. ««تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية»
في هذا التصور، نجد أن الهوية السياسية الألمانية تنطوي على مفارقة. فلأن ماضيهم القاسي كان يأبى إلا أن يكون حاضرا، اضطر الألمان الغربيون إلى اختلاق هوية سياسية تدور حول فلك «المحتوى العمومي للدولة الدستورية الديمقراطية»، والنأي عن أشكال أكثر سذاجة تاريخيا وأقل تأملا نقديا من الوطنية. وبإخلاصهم لتقاليدهم الألمانية الخاصة (وإن كانت شديدة التناقض)، اضطروا إلى التماهي بقدر أقل لا بقدر أكبر معها.
عندما شرع هابرماس في بداية الأمر في الدفاع عن فكرة الوطنية الدستورية في الثمانينيات، لم يكن قد بلور بالكامل أفكاره عن الحيثية السياسية للخطاب الأخلاقي. ومال إلى ضم المبادئ الديمقراطية مع المبادئ الأخلاقية. وكما أن الذات الأخلاقية ما بعد التقليدية ملتزمة، لا نحو القيم الجوهرية للمجتمع، بل تجاه الإجراء الذي يتم به ترسيخ المعايير الصحيحة، كذلك فإن الوطني الدستوري يتماهى مع الإجراءات الديمقراطية لا مع نتائج محددة بعينها. وكلاهما تنمو لديه هوية لامركزية ومجردة إلى الحد الذي تنطوي فيه الخلقية والديمقراطية على الإقرار بالجدارة المساوية للآخرين. علاوة على ذلك، يقول هابرماس إن المواطنين يتماهون مباشرة مع المبادئ الديمقراطية والأخلاقية العالمية.
في عمله اللاحق، غير هابرماس رأيه. فنراه يقول إنه لكي يضرب الدستور الديمقراطي بجذوره، يجب أن تدعمه ثقافة سياسية تلبي مجموعة مختلفة من الشروط؛ أولا: يجب أن يتسق والخلقية ما بعد التقليدية. وثانيا: يجب أن يكون له صدى لدى الفهم الأخلاقي لجميع المجموعات الثقافية في المجتمع السياسي. لا يمكن أن ترى الثقافة السياسية باعتبارها تعبيرا عن القيم الجوهرية والخاصة لثقافة الأغلبية. وأخيرا: فإن الثقافة السياسية بحاجة لأن تدعمها الحقوق الاجتماعية وحقوق الرفاهة لكي يستشعر المواطنون «القيمة المنصفة لحقوقهم»؛ أي أن يشعروا بفائدة مشاركتهم في الثقافة السياسية العامة. (3) توحيد ألمانيا
مثل التاسع من نوفمبر عام 1989 نقطة تحول في حياة الألمان جميعا؛ ففي ذلك اليوم سقط جدار برلين، وانهارت جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وحينئذ أعلن هابرماس عن بعض الملاحظات النقدية الهامة حول الطريقة التي تم بها تنفيذ الوحدة وتوقيتها والأساس المنطقي السياسي وراء طريقة وتوقيت التنفيذ.
توجهت انتقاداته في أول الأمر إلى المسألة الإجرائية المتعلقة بما إذا كان ينبغي إنجاز الوحدة على أساس المادة 23 من القانون الأساسي أم المادة 146. تنص المادة 146 على أن القانون الأساسي دستور مؤقت وليس نهائيا. وجاء في نصها أن: «يتوقف العمل بالقانون الأساسي يوم سريان دستور جديد يضعه الشعب الألماني بقرار حر.» وبموجب المادة 23 يسري القانون الأساسي على مناطق أخرى من ألمانيا. فهي تنص على آلية لمنح الولايات الجديدة حق الانضمام إلى الاتحاد الفدرالي. ولقد وضعت هذه المادة أساسا لولاية سارلاند على الحدود مع فرنسا.
شكل 9-1: ألمان شرقيون يجلسون منفرجي السيقان على جانبي جدار برلين.
وفضل كول ومستشاروه إسناد التوحيد إلى المادة 23 بما أنها لم تقتض أي تعديل في القانون الأساسي لألمانيا الغربية. سارع هابرماس بمعارضة ذلك. ففي رأيه الوحدة على أساس المادة 23 ما هي إلا مناورة إدارية محضة يمكن بواسطتها ضم ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية فعليا. والأدهى أن هذه الاستراتيجية اختيرت بحيث يمكن إدارة العملية بأسرها بما يخدم مصالح السياسة الداخلية والخارجية للديمقراطيين المسيحيين التابعين للمستشار كول. كان استخدام المادة 23 يعني أن العملية يمكن أن تستكمل بسرعة نسبيا لتعزيز الشعبية الداخلية لكول قبل الانتخابات القادمة.
ونتيجة لذلك، حرم الألمان الشرقيون والغربيون من فرصة إقامة خطاب أخلاقي- سياسي حول أنواع البنى السياسية التي يفضلون العيش تحت مظلتها. وكان هابرماس واحدا من بين كثيرين من المفكرين آنذاك ممن أيدوا معدل إصلاح أبطأ وعملية أكثر شمولا. كان يجب أن يكون التوحيد «فعلا عاما استنادا لقرار ديمقراطي يتخذ بروية وتفكر في الألمانيتين الشرقية والغربية» (الهوية الألمانية مجددا). كان يمكن للألمان الشرقيين المشاركة في العملية، بدلا من أن يتولى عنهم البيروقراطيون في الغرب كل شيء، وكان يمكن للألمان الغربيين التصويت على دستورهم الخاص. اعترض هابرماس على «العيب المعياري» في التوحيد؛ لأن الاتحاد افتقر إلى التبرير السياسي والأخلاقي والخلقي الكافي؛ أي المدخلات من أدنى التي يراها شرطا ضروريا للشرعية الديمقراطية.
وفي سياق مماثل، اعترض هابرماس على «التصفية» الإدارية لجميع المؤسسات القديمة التي تؤوي بقايا المجتمع المدني الألماني الشرقي - كالجامعات والكليات والمتاحف والمسارح وما إلى ذلك. وحذر من أن المجتمع المدني، ويريد به شبكات التواصل والخطاب العام غير الرسمية، مورد سياسي هش وثمين، تدميره أسهل بكثير من إعادة بنائه. زعم هابرماس أن الوحدة ليست حقيقة إدارية واقتصادية فحسب، لكنها أيضا مهمة سياسية؛ ومن ثم فلا بد من السماح بنشأة ثقافة سياسية يمكن أن تجد صدى لدى فهم الألمان الشرقيين لذواتهم.
وأخيرا، اعتقد هابرماس أن الحكومة الديمقراطية المسيحية القائمة آنذاك قد تجنح إلى تشريع سياساتها بتأجيج المشاعر القومية الداعية للوحدة الألمانية. في بداية الأمر، رضوا بالاحتكام إلى القومية الاقتصادية. فمن ناحية، ذكروا مواطني الجمهورية الفدرالية بحجم الإنجازات التي حققوها حتى ذلك الحين، وقطعوا على أنفسهم عهدا لا سبيل إلى الوفاء به؛ ألا وهو أنه لن يتعين عليهم (الألمان الغربيين) أن يتكفلوا بثمن الوحدة بدفع ضرائب أعلى. ومن ناحية أخرى، فقد قدموا للألمان الشرقيين رؤية لازدهار اقتصادي شبيه. كان فكر هابرماس، الملخص في عمله «الهوية الألمانية مجددا»، يفيد بأنه عندما اتضح له في نهاية المطاف أن إعادة البناء الاقتصادي لألمانيا الشرقية سيكون بطيئا وشاقا ومكلفا، ولن يحظى بالتمويل الكامل من النمو الاقتصادي، سيشعر المواطنون الألمان الشرقيون والغربيون على حد سواء بالخيانة. السبيل السهل للخروج من هذا المأزق هو تأجيج مشاعر القومية الألمانية بما يلازمها من أخطار. ولقد سلط اندلاع أعمال العنف الطائفي ضد العاملين الزائرين الأجانب في روستوك وهويرزفيردا بألمانيا الشرقية إثر النشوة الأولى بالوحدة، سلط الضوء على هذه الأخطار بجلاء ووضوح.
حذر هابرماس المحافظين من تعريض الثقافة السياسية الهشة التي تحققت بشق الأنفس لألمانيا الغربية للخطر؛ تلك الثقافة السياسية المتمثلة في هوية جمعية لا قومية، واعية للذات، ما بعد قومية؛ ووطنية دستورية. وبدلا من الاحتكام المحض إلى الوطنية الاقتصادية، دعا هابرماس إلى عملية «إعادة توحيد تعطي أولوية لحق المواطنين الحر في تحديد مستقبلهم بالتصويت المباشر في إطار فضاء عام لا يزاحمهم فيه أحد ...» (الهوية الألمانية مجددا). ستكفل عملية أبطأ، حسب المادة 146، وقتا ومجالا للخطابات الأخلاقية والخلقية والسياسية الضرورية التي يمكنها أن تسمح بنمو علاقات التضامن المشترك بين مواطني ألمانيا الشرقية والغربية. وسيشجع ذلك بدوره المواطنين الألمان على تقييم المسألة من منظور أكثر اتساعا من منظور مصلحتهم الشخصية الفردية. (4) الاندماج الأوروبي
تتسق وجهات نظر هابرماس بشأن مسألة الاندماج الأوروبي وملاحظاته حول تقادم فكرة الأمة وعدائه السياسي والأخلاقي للقومية. وهو يورد عدة مجموعات مختلفة من الاعتبارات المؤيدة للاتحاد الاقتصادي والسياسي للدول الأوروبية. (4-1) ألمانيا والمسألة الأوروبية
أولا؛ هناك مجموعة من الأسباب التاريخية والأخلاقية بصفة عامة تندرج تحت فكرة هابرماس عن «التعلم من الكارثة». ليس علينا سوى الرجوع إلى تاريخ القرن العشرين الحديث، ورؤية الكوارث التي أفضت إليها الحربان العالميتان إن أردنا أن نقيم أخطار وجود دول قومية ذات سيادة مستقلة في أوروبا في حالة تنافس اقتصادي وسياسي بعضها مع بعض. يقول هابرماس إن الأوروبيين «يجب أن يتخلوا عن العقليات التي تتغذى عليها الآليات القومية والإقصائية» («تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية). سيكفل الاتحاد السياسي إطارا يمكن فيه تحقيق الاندماج الاجتماعي ما بعد القومي على أساس «الشبكة التواصلية من فضاء عام سياسي شامل لأوروبا مدمج في ثقافة سياسية مشتركة.»
أقترح أنه حتى هذا المشروع يمكن أن يفهم باعتباره وسيلة سياسية واقعية جدا للرد على الأمر القطعي الجديد لأدورنو؛ الحيلولة دون تكرار حادثة أوشفيتس أو ما شابهها من حوادث. وبالنظر إلى الخصائص الدقيقة لماضي الاندماج الأوروبي الحديث، فإنه تتجلى أهميته أكثر فأكثر بالنسبة لألمانيا. وجهر هابرماس بمعارضته لما اعتبره اقتراحات قميئة وخطيرة في بعض دوائر المحافظين مفادها أن على ألمانيا أن توقف اندماجها في الاتحاد الأوروبي للحفاظ على المارك الألماني، ولإقامة صلات سياسية واقتصادية مع دول أوروبا الوسطى التي تحررت الآن من الشيوعية السوفييتية.
وتعنى مجموعة أخرى من الحجج المؤيدة للاندماج الأوروبي بآثار تبني اقتصاد عولمي على الدولة القومية وحدها. بصفة عامة، تدرك حكومات الدول الصناعية المتقدمة والمتطورة فنيا أن النمو الاقتصادي يأتي على حساب الجانبين الاجتماعي والسياسي بقدر معين؛ ومن أمثلة ذلك الزيادات في نسب البطالة والفقر وتفاوتات الدخل. إذا تركت هذه الآثار دون احتواء ، فستكون أسبابا محتملة للتفسخ الاجتماعي وزعزعة الاستقرار السياسي الداخلي. لكن الدول الغنية استطاعت - إلى حد ما - احتواء هذه الآثار السلبية بواسطة برامج الرفاهة وتنظيم سوق العمل وسياسات إعادة توزيع الثروات وغيرها من التدابير.
لقد بدلت عولمة الأسواق الاقتصادية والمالية التوازن الدقيق بين النمو الاقتصادي والرفاهة الاجتماعية. وكان للعولمة أثر؛ إذ قيدت حكومات الدول القومية فرادى. فالشركات الكبرى يمكنها بسهولة التهرب من قوانين العمل بتغيير مقرها إلى بلدان تفتقر أسواقها للقوانين وذات عمالة رخيصة. إن خطر «هروب رءوس الأموال» هذا يجبر الحكومات، أيا كانت طبيعتها، على خفض الضرائب (ولا سيما ضرائب الأعمال والشركات). أصبح رفع الإيرادات مشكلة تواجهها الحكومات. فثمة حد لمقدار الأموال التي يمكن جنيها عبر وفورات زيادة الكفاءة. خلاصة القول، أصبح من الصعب على حكومات الدول الوحيدة تمويل وتنفيذ سياسات من شأنها احتواء الآثار الجانبية الاجتماعية والسياسية المكروهة للنمو الاقتصادي الرأسمالي.
في رأي هابرماس، هناك ردان محتملان لهذه المشكلات. إن البديل الليبرالي الجديد يقضي بالتكيف مع الضغوط الاقتصادية العالمية على النحو التالي: خفض التكاليف، والحفاظ على «مرونة» أسواق العمل (أي عدم تقيدها بالقوانين)، وتحميل الأفراد عبء تأمين أنفسهم ضد احتمالات البطالة، وتدهور الحالة الصحية، وما إلى ذلك من أخطار. الدرس المرير المستفاد أن الفائزين اقتصاديا من المنافسة على رفع القيود التنظيمية هم الخاسرون على المستويين الاجتماعي والسياسي.
والبديل الآخر هو أنه يجب عولمة السياسة أيضا كي تكبح جماح الاقتصاد. وتحديدا، يعني ذلك إنشاء مؤسسات سياسية فوق وطنية تتمتع بسلطة ونفوذ وسبل تنفيذ قراراتها. لأول وهلة، قد يبدو هذا البديل مثاليا بشكل مغالى فيه. يرد هابرماس على ذلك قائلا إنه بمجرد أن يتقبل المرء التقادم الوشيك للدولة القومية ككيان سياسي، لا يجد أمامه سوى بديل سانح واحد، وسيكتشف أن التوسع السياساتي إلى ما وراء الدولة القومية جار بالفعل. إن الاتحاد الأوروبي مثال طموح نسبيا لما يمكن إنجازه.
بالطبع الاتحاد الأوروبي سيوفر ثقلا مقابلا فاعلا للضغوط الاقتصادية العالمية إذا تمكن من إيجاد نظائر عملية على المستوى ما فوق القومي لاحتواء وظائف دولة الرفاه . لقد استطاعت سياسات الاتحاد الأوروبي، عبر تقديم الدعم وغير ذلك من سياسات إعادة التوزيع المتواضعة، الحد من بعض الآثار الضارة للمنافسة الإقليمية بين الدول الأعضاء فيه. علاوة على ذلك، قد أصدرت محكمة العدل الأوروبية مئات القرارات المتعلقة مباشرة بمسائل العدالة الاجتماعية (مما أثار حفيظة نقادها من الليبراليين الجدد والمحافظين في بريطانيا) تؤثر تأثيرا قويا على السوق الداخلية المشتركة. ولا يقلل هابرماس من شأن الصعوبات التي تعترض مشروع الاندماج الاقتصادي والسياسي الأوروبي. فالاتحاد الأوروبي ما زال بحاجة إلى التعامل مع الغايات المتضاربة المتمثلة في التوظيف والمنافسة والنمو الاقتصادي، ويتفاوض للوصول إلى حلول وسط بشأن مطالب الدول الأعضاء الغنية المساهمة مساهمة صافية والدول الأعضاء الفقيرة المنتفعة منفعة صافية. بالنسبة لهابرماس، لم يتحدد حتى الآن إن كان الاتحاد الأوروبي قادرا على صياغة وتنفيذ سياسات قادرة على تصحيح أوضاع الأسواق بحيث يجعلها تتسق مع مثل العدالة الاجتماعية.
يقر هابرماس بأن السياسة الأوروبية، من منظور عام، ليست سوى امتداد، لا تحول، لسياسة المصلحة الذاتية القومية. إن المنافسة الإقليمية بين الدول القومية وما يلازمها من مشكلات تحدث مجددا على المستوى العابر للقوميات. وتتحدى أوروبا منافسيها الممثلين في الولايات المتحدة ودول الحزام الباسيفيكي والصين والهند الناشئتين اقتصاديا؛ ولذا، فهناك أسباب داعية للاعتقاد بأن أوروبا لن تستطيع أن تجد حلولا دائمة وشاملة للمشكلات السياسية والاجتماعية العالمية، وأنها في أفضل الظروف ستطرح حلولا مؤقتة أو جزئية. يعي هابرماس منطق الحجة التي يطرحها. إذا كان لنا أن نعثر على حلول سياسية دائمة وفاعلية للمشكلات العالمية، فلا بد أن نبحث عنها في نهاية المطاف على مستوى السياسات العالمية الكوزموبوليتانية. وإذا كان للمؤسسات السياسية فوق القومية أن تكبح جماح الأسواق العالمية، فلا بد أن تكون شمولية على النحو الصحيح. الغاية النهائية هي خلق سوق داخلية عالمية، وكيان سياسي يتمتع بالسلطة والنفوذ لتنظيم تلك السوق. الغاية النهائية هي خلق أمم متحدة سياسية لا تتمتع بسلطة صنع القرارات وحسب، بل وبتنفيذها أيضا. (4-2) عجز الشرعنة
المشكلة أن المؤسسات السياسية الأوروبية تعاني مما يعرف باسم «العجز الديمقراطي». يقول المتشككون في جدوى الاتحاد الأوروبي إن الاتحاد السياسي لا يمكن أن يكلل بالنجاح؛ لأنه لا يوجد «شعب» أوروبي لتمثله المؤسسات. لا يوجد شيء ملموس - تاريخ أو لغة أو تقاليد أو عرق مشترك - يدعو لخلق أواصر الاندماج بين المواطنين؛ التي تعول عليها الديمقراطية.
ويعترف هابرماس بأنه لا يوجد «شعب» أوروبي، لكنه ينكر أن وجود شعب أو أمة أوروبية لديها تاريخ مشترك وتتحدر من أصول مشتركة؛ أساس ضروري للاندماج الاجتماعي. ويدفع بأنه من الصحيح أن فكرة المواطنة على أساس الوعي القومي المشترك لا يمكن مدها إلى ما يتجاوز حدود الأمة الواحدة. ولا يمكن حتى أن تمتد إلى هذا الحد. ولأسباب سبق بيانها أعلاه، فإن المفهوم العتيق للفكرة لم يعد ملائما للمجتمعات الحديثة المتعددة الثقافات. سرعان ما سيكتشف المشككون في جدوى الوحدة الأوروبية، الذين يرفضون مشروع الاندماج الأوروبي ويفضلون اللجوء إلى عزلتهم، أن أساسهم واه وسقفهم خر عليهم. المجتمعات الحديثة متعددة الثقافات ليست مجتمعات لشعب واحد؛ إنها مجتمعات شرعية من مواطنين. هذا المفهوم الدقيق للمواطنة الديمقراطية كعلاقة مجردة مقننة قانونا بين الغرباء يمكن أن يمتد بحيث يشمل سكان الدول الأجنبية. ولا يحاول هابرماس أن ينكر أن ثمة عيبا ديمقراطيا في الاتحاد الأوروبي:
بالتزامن مع نشأة منظمات جديدة بمنأى أكثر عن القاعدة السياسية، مثل بيروقراطية بروكسل، تتسع باستمرار الفجوة بين الإدارات الذاتية البرمجة والشبكات النظامية من ناحية، والعمليات الديمقراطية من ناحية أخرى. ««تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية»
لكن يزعم هابرماس أنه ما من سبب في الأساس يعلل ضرورة سد هذه الفجوة. فالمجتمعات الديمقراطية الحديثة متكاملة عبر نطاقات التواصل العام غير الرسمي والساحات المؤسسية للخطاب وصنع القرار.
ثمة مشكلة ملحة، لكنها ليست عصية على الحل بالضرورة، تتمثل في كيفية التشجيع على إقامة شبكة للخطاب والتواصل على اتساع أوروبا، وخلق مجتمع مدني أوروبي وثقافة سياسية أوروبية. يقول هابرماس:
لا يمكن أن تكون هناك دولة فدرالية أوروبية جديرة بأن توصف بأنها ديمقراطية أوروبية ما لم يوجد فضاء عام متكامل على اتساع أوروبا في نطاق ثقافة سياسية مشتركة؛ مجتمع مدني يشمل اتحادات المصالح والمنظمات غير الحكومية والحركات المدنية وما إلى ذلك، وبطبيعة الحال نظام حزبي مناسب لإقامة ساحة أوروبية. ««تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية»
وسيساهم في تحقيق هذه الغاية كل من برامج التبادل التعليمي، وزيادة التعاون الاقتصادي، وتيسير السفر بين الدول الأعضاء، وتطوير نظام حزبي أوروبي.
ثمة مشكلة أخرى عملية ومؤسسية تتمثل في التفكير في سبل لربط البيروقراطية الأوروبية والبرلمان الأوروبي بهذه الثقافة السياسية الناشئة. وقد يكون ذلك صعبا، لكنه ليس مستحيلا. لكن التعلق بالإيمان بالفاعلية السياسية للدولة القومية، مع التجاهل الكامل للدليل على ذلك، أمر لا طائل من ورائه؛ ومن غير المعقول اجتماعيا وسياسيا ترك الحبل على الغارب للأسواق الاقتصادية العالمية.
وفقا لهابرماس، قد لا يكون الاندماج الأوروبي الغاية النهائية المطلقة للسياسات ما بعد القومية، لكنه على الأقل بداية مبشرة بالخير. إن الاتحاد الأوروبي تجربة مستمرة على السياسات الديمقراطية ما بعد القومية. وكما يصرح هابرماس ببراعة في حوار له مع مايكل هالر تحت عنوان «الفرصة الثانية لأوروبا»:
لو كنت قد استبقيت النزر اليسير من بقايا اليوتوبيا، فهي بالتأكيد فكرة أن الديمقراطية - وكفاحها العام للوصول إلى أفضل شكل لها - قادرة على اختراق المشكلات وحل المعضلات التي قد يتعذر حلها لولا الديمقراطية. ولا أزعم أننا سننجح في ذلك؛ فنحن لا نعلم حتى إن كان النجاح ممكنا. لكن لأننا لا نعلم، يجب علينا أن نستمر في المحاولة. «الماضي مستقبلا: يورجن هابرماس في حوار مع مايكل هالر»
رغم أننا لا نعلم إن كانت فكرة الاتحاد الأوروبي ستنجح في طرحها لحلول جزئية لمشكلات ما بعد القومية، أو ربما حتى تمثل منبرا لنظام عالمي كوزموبوليتاني محتوم، فإننا لا نستطيع الجزم بفشله أيضا. يجب أن تستمر التجربة على أية حال حسبما يرى هابرماس؛ لأننا نعلم أن البديل أسوأ بكثير؛ وهو أن نودع فكرة السياسة الديمقراطية باعتبارها محاولة من المواطنين الأحرار السواسية لتشكيل عالمهم الاجتماعي جمعيا.
ملحق: موجز لبرامج هابرماس البحثية الخمسة
(1) برنامج المعنى البراجماتي
أسئلة أساسية:
كيف للمرء أن يفهم معنى الكلام الملفوظ؟ ما الوظيفة البراجماتية للكلام؟ كيف ينسق الكلام تصرفات الفاعلين الاجتماعيين؟ ما العلاقة بين الصحة والمعنى؟ وما أنواع ادعاءات الصحة؟
أجوبة أساسية:
للمعنى نوعان؛ أدائي (براجماتي) وافتراضي. والوظيفة البراجماتية للكلام هي الحث على الوصول إلى إجماع عقلاني. وينسق الكلام التصرفات عبر ادعاءات الصحة. وادعاء صحة كلام ملفوظ يحدد كيفية فهم معناه. وهناك ثلاثة أنواع لادعاء الصحة؛ ادعاء صحة الحقيقة، وادعاء صحة الصواب، وادعاء صحة الصدق. (2) نظرية العقلانية التواصلية
أسئلة أساسية:
ما الأنواع الجوهرية للفعل؟ وما الفرق بينها؟ أي أنواع الفعل أسبق أو أكثر جوهرية؟ وما سند ذلك؟
أجوبة أساسية:
الفعل نوعان: الأول التواصلي، والثاني الأداتي والاستراتيجي. الفرق بينهما يكمن في أن الأفعال التواصلية تهدف إلى ضمان الفهم وتحقيق الإجماع، بينما الأفعال الأداتية والاستراتيجية تهدف إلى النجاح العملي. الفعل التواصلي أكثر جوهرية؛ لأنه مستقل بذاته على عكس الفعل الأداتي والاستراتيجي. (3) برنامج النظرية الاجتماعية (3-1) المشروع الاجتماعي
أسئلة أساسية:
كيف يمكن خلق نظام اجتماعي؟ ما الذي يحافظ على تماسك المجتمعات الحديثة؟ كيف يتم التنسيق بين أفعال الملايين من الفاعلين الاجتماعيين؟
أجوبة أساسية:
يعتمد النظام الاجتماعي على المعنى والصحة، وكذا على تكامل عالم معيش يتم الحفاظ عليه بواسطة التواصل والخطاب. وهو يعول أيضا على درجة من القوة الدامجة للأفعال الأداتية والاستراتيجية داخل أنظمة كالأسواق والإدارات. تحافظ المعاني والتفاهمات والأسباب المشتركة على تماسك المجتمع، وكذلك تفعل الأنظمة المنظمة من العقلانية الأداتية. (3-2) الأنطولوجيا الاجتماعية
أسئلة أساسية:
ما شكل المجتمعات الحديثة؟ ومم تتكون؟
أجوبة أساسية:
تتألف المجتمعات الحديثة من كيانين اجتماعيين؛ العالم المعيش والنظام. العالم المعيش هو محل التواصل والخطاب، أما النظام فهو منشأ الأفعال الأداتية والاستراتيجية. (3-3) النظرية الاجتماعية النقدية
أسئلة أساسية:
ما السبب الكامن وراء أمراض الحياة الاجتماعية الحديثة؟ لم يقبل الناس عموما أنظمة اجتماعية تخالف مصالحهم ويستبقونها؟ ما أكثر الأخطار الحالية تهديدا لاستبقاء العالم المعيش؟ وماذا يمكن أن نفعل حيالها؟
أجوبة أساسية:
تتوسع الأنظمة - ممثلة في الأسواق والإدارات - وتستعمر العالم المعيش الذي هو محل الفعل التواصلي والخطاب والذي تعتمد عليه تلك الأنظمة نفسها. ويجبر الناس على اتباع أنماط من الفعل الأداتي والاستراتيجي، فيمسون منفصمين عن أهدافهم الأصلية؛ ومن ثم فهم يفقدون المعنى ويخسرون استقلالهم. تستدعي الحاجة الحفاظ على العالم المعيش دون مساس، والحد من وطأة الآثار الضارة المترتبة على تدخل الأنظمة في النطاقات غير النظامية. (4) برنامج أخلاقيات الخطاب (4-1) نظرية الخطاب الخلقي
أسئلة أساسية:
كيف يمكن أن يوجد نظام أخلاقي؟ وما الذي يجعل فعلا ما صوابا/خطأ أخلاقيا؟ كيف نعرف، بل وكيف نتعلم، الخطأ/الصواب؟
أجوبة أساسية:
يعتمد النظام الأخلاقي على وجود معايير صحيحة بالدليل، وعلى أن أغلب الفاعلين يميلون إلى الالتزام بتلك المعايير. وما يجعل أي فعل صوابا/خطأ هو إجازة/تحريم المعيار الأخلاقي الصحيح له. وما يجعل المعيار صحيحا هو أنه يجسد بالدليل مصلحة عامة. وإننا نكتشف إن كان المعيار يجسد مصلحة عامة باختبار المعايير المرشحة للتأكد من أهليتها لتحقيق اتفاق عقلاني في سياق الخطاب الأخلاقي. (4-2) نظرية أخلاقيات الخطاب
أسئلة أساسية:
ما الذي يميز القضايا الأخلاقية عن القضايا الخلقية؟ ما الأهمية الاجتماعية والسياسية للقضايا الأخلاقية؟
أجوبة أساسية:
يعنى الخطاب الأخلاقي بقضايا السعادة الفردية وصالح الجماعات. وينطوي الخطاب الأخلاقي على تخصيص نقدي للتقاليد وتفسير للقيم. (5) برنامج النظرية السياسية (5-1) نظرية سياسات الخطاب
أسئلة أساسية:
كيف يمكن خلق نظام سياسي محكم التنظيم؟ وما الذي يجعل القوانين والسياسات والقرارات السياسية شرعية؟
أجوبة أساسية:
النظام السياسي المحكم التنظيم هو الذي يتحقق فيه التوازن السليم بين الاستقلال الشخصي والعام، ويتحقق فيه الاستقرار للنظام السياسي إلى حد بعيد بواسطة القرارات العقلانية التي تصدرها المؤسسات المطلعة على النطاقات العامة غير الرسمية للمجتمع المدني. وتتصف القوانين بالشرعية فقط عندما تتسق مع الآراء والقيم والمعايير التي تولد في المجتمع المدني تداوليا. (5-2) نظرية قانون الخطاب
أسئلة أساسية:
ما القانون الصحيح؟ وما دور المعايير القانونية الصحيحة؟
أجوبة أساسية:
القانون الصحيح هو الذي يتصف بالواقعية وقابلية الإنفاذ والشرعية. والقوانين الشرعية يجب أن تتسق مع الاعتبارات الأخلاقية والخلقية والبراجماتية، وتخدم مصلحة المجتمع القانوني. وتخول المعايير القانونية الصحيحة السلطة السياسية وتزودها بأدواتها، فضلا عن أنها تدعم المعايير الخلقية وتساعد على تحقيق الانسجام بين الأفعال الفردية وإقامة نظام اجتماعي.
المراجع المقتبس منها
الاستقلال والتضامن: لقاءات مع يورجن هابرماس (تحرير بي ديوز، طبعة منقحة، لندن: فيرسو، 1992).
بين الحقائق والمعايير (ترجمة ويليام ريج، كامبريدج: بوليتي بريس بالتعاون مع بلاكويل، 1996).
جمهورية برلين: كتابات حول ألمانيا (ترجمة إس ريندال، لينكون: مطبعة جامعة نبراسكا، 1997).
تضمين الآخر (فرانكفورت: زواكامب، 1996).
الحداثة: مشروع غير مكتمل (لايبسيج: زواكامب، 1992).
التبرير والتطبيق (كامبريدج: بوليتي بريس، 1993).
الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي (كامبريدج: بوليتي بريس، 1990).
ثورة اللحاق بالركب (فرانكفورت: زواكامب، 1990).
براجماتيات التواصل (تحرير ماييف كووك، كامبريدج، بوليتي بريس، 1998).
الخطاب الفلسفي للحداثة: اثنتا عشرة محاضرة (ترجمة إف لورانس، كامبريدج، بوليتي بريس، 1987).
الدين والعقلانية: مقالات حول العقل والرب والحداثة (كامبريدج: بوليتي بريس، 2002).
نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول (كامبريدج: دار نشر بوليتي بريس، 1984).
نظرية الفعل التواصلي، المجلد الثاني (كامبريدج: دار نشر بوليتي بريس، 1987).
تضمين الآخر، ترجمة سي كرونين وبي دو جريف (كامبريدج: بوليتي بريس، 1998).
الماضي مستقبلا: يورجن هابرماس في حوار مع مايكل هالر، ترجمة ماكس بينيسكي (كامبريدج: بوليتي بريس، 1994).
الهوية الألمانية مجددا (مجلة نيو جيرمان كريتيك، 1991، 84-101).
قراءات إضافية
كافة الكتب والمقالات الواردة أدناه منشورة باللغة الإنجليزية. وتشير التواريخ داخل الأقواس المربعة إلى سنة النشر الأصلية باللغة الألمانية. (1) مجموعة مختارة من كتابات هابرماس الأولى
Structural Transformation of the
Society,
tr. T. Burger and F. Lawrence (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1989 [1962]).
Theory and Practice,
tr. John Viertel (Cambridge: Polity Press, 1988 [1963]). An abridged collection of critical thematic and historical essays on social theory which includes the seminal essay on 'labour and interaction’, the key to Habermas’s understanding of Hegel, and to his critique of Marx and Marxism.
On the Logic of the Social Sciences,
tr. Shierry Weber Nicholsen and Jerry A. Stark (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1988 [1967]).
Knowledge and Human Interests,
tr. Jeremy J. Shapiro (Boston: Beacon Press, 1971 [1968]). In this book, Habermas examines the role of reflection in critical social theory. It contains a critique of the idealist philosophies of Kant and Fichte, Habermas’s engagement with pragmatism and hermeneutic philosophy, and an interesting appropriation of Freud.
Towards a Rational Society,
tr. Jeremy J. Shapiro (Boston: Beacon Press, 1987 [1969]). Contains three essays on the student protests and three essays on the role of technology and science.
Legitimation Crisis,
tr. Thomas McCarthy (London: Heinemann, 1976 [1973]). An interesting early study of crisis and legitimacy in capitalist societies in which Habermas puts the distinction between lifeworld and system to work.
Communication and the Evolution of Society,
tr. Thomas McCarthy (London: Heinemann Educational Books, 1979 [1976]). This is an important study in Habermas’s reconstruction of historical materialism, in which he looks at the role of moral development of individuals and social structures. (2) مجموعة مختارة من كتابات هابرماس النظرية في مرحلة النضج الفلسفي
النظرية البراجماتية للمعنى ونظرية العقلانية التواصلية
The Theory of Communicative Action,
tr. Thomas McCarthy, vol. 1 (Cambridge:
theory of communicative rationality are set out in Part III, 'Intermediate Reflections’. Part IV contains criticisms of Weber, Lukacs, and Adorno.
tr. William Mark Hohengarten (Cambridge: Polity Press, 1992 [1988]). A collection of essays on Habermas’s conception of philosophy, some of which are relevant to programmes 1, 2, and 4.
The following two collections contain mainly articles on programmes 1 and 2.
On the Pragmatics of Social Interaction: Preliminary Studies in the Theory of Communicative Action,
tr. Barbara Fultner (Oxford: Blackwell, 2003 [1984]).
On the Pragmatics of Communication,
ed. Maeve Cooke (Cambridge, Mass.: MIT Press, 2000).
Truth and Justification:
tr. B. Fultner (Cambridge:
studies on truth and on the pragmatic theory of meaning. Part III contains a surprising revision to Habermas’s theory of truth that has important ramifications for discourse ethics.
النظرية الاجتماعية
The lion’s share of Habermas’s social theory is contained in
The Theory of Communicative Action , vol. 2, tr. Thomas McCarthy (Cambridge:
أخلاقيات الخطاب
Moral Consciousness and Communicative Action,
tr. Christian Lenhardt and Shierry Weber Nicholsen (Cambridge: Polity Press, 1990 [1983]). This is a collection of seminal essays on the programme of discourse ethics. It should be read alongside the later collection,
Justification and Application,
tr. C. Cronin (Cambridge: Polity Press, 1993 [1991]), an important collection of essays, in which Habermas responds to criticisms and develops the distinction between morality and ethics.
النظرية السياسية والقانونية 'Law and Morality’, tr. Kenneth Baynes, in
The Tanner Lectures on Human Values , vol. 8, ed. Sterling M. McMurrin (Salt Lake City: University of Utah
before the publication of
Faktizität und Geltung , Habermas’s major work on political and legal theory. The English translation of
Faktizität und Geltung
is
Between Facts and Norms , tr. William Rehg (Cambridge: Polity Press in association with Blackwell, 1996) and it contains two important earlier essays in addition. Programme 5 is set out mainly in chapters 3, 4, 7, and 8.
The Inclusion of the Other,
tr. C. Cronin and P. De Greiff (Cambridge:
moral and political theory that contains his critique of Rawls and three studies on the nation state.
نظرية الحداثة
The Philosophical Discourse of Modernity: Twelve Lectures,
tr. F. Lawrence (Cambridge: Polity Press, 1987 [1985]). In these lectures, Habermas engages polemically with French poststructuralist thought, and develops his critique of Adorno and Horkheimer. See also Habermas’s 1980 essay 'Modernity: An Unfinished Project’, tr. Nicholas Walker, and reprinted in
Habermas and the Unfinished
Discourse of Modernity , ed. Seyla Benhabib and Maurizio Passerin d’Entrèves (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1997).
أعمال أخرى
The Future of Human Nature (Cambridge: Polity Press, 2003 [2001]) brings together some of Habermas’s essays on the moral, ethical, and political implications of bioethics and gene technology. (3) مجموعة مختارة من اللقاءات والكتابات السياسية المتفرقة
The New Conservatism: Cultural Criticism and the Historian’s Debate,
ed. and tr. Shierry Weber Nicholsen (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1989). 'What Does Socialism Mean Today?’,
New Left Review,
183: 3-21. 'Yet Again German National Identity - A Nation of Angry DM-Burghers?’ in
When the Wall Came Down: Reactions to German Unification , ed. Harold James and Maria Stone (New York: Routledge, 1992).
Autonomy and Solidarity: Interviews with Jürgen Habermas,
ed. P. Dews, revised and enlarged edn. (London: Verso, 1992).
The Past as Future: Jürgen Habermas Interviewed by Michael Haller,
tr. Max Pensky (Cambridge:
A Berlin Republic: Writings on Germany,
tr. S. Rendall (Lincoln: University of Nebraska
The Post National Constellation,
tr. and ed. Max Pensky (Cambridge: Polity
Dialogues with Jürgen Habermas and Jacques Derrida,
ed. Giovanna Borradori (Chicago: University of Chicago Press, 2003).
Time of Transitions,
tr. Max Pensky (Cambridge: Polity Press, 2005). (4) مجموعة مختارة من الدراسات الحديثة
النظرية البراجماتية للمعنى ونظرية العقلانية التواصلية
Language and Reason,
ed. Maeve Cooke (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1994). The first full study in English on Habermas’s pragmatic theory of meaning and theory of communicative rationality.
النظرية الاجتماعية
Communicative Action and Rational Choice,
Joseph Heath (Cambridge, Mass.: MIT
impressive analysis of Habermas’s social theory and its philosophical underpinnings. It brings Habermas’s philosophy into dialogue with analytic philosophy of language and rational choice theory, and also covers programmes 1, 2, and 4.
أخلاقيات الخطاب
Insight and Solidarity: The Discourse Ethics of Jürgen Habermas,
William Rehg (Berkeley: University of California Press, 1994). A comprehensive critical elucidation and defence of Habermas’s programme of discourse ethics.
Making Moral Sense: Beyond Habermas and Gauthier,
Logi Gunnarsson (Cambridge: Cambridge University Press, 2000). A critical comparison of Habermas and Gauthier’s rationalist justification of moral theory with the substantivist approach attributed to John McDowell.
Impartiality in Context: Grounding Justice in a Pluralist World,
Shane O’Neill (Albany: SUNY Press, 1997). An interesting discussion of Habermas’s discourse ethics against the backdrop of sectarian conflict in Northern Ireland.
النظرية السياسية والقانونية
The Normative Grounds of Social Criticism: Kant, Rawls and Habermas,
Kenneth Baynes (Albany: SUNY Press, 1992). An important study on Habermas’s politics providing a comparison of Habermas and Rawls. See also
Reasonable Democracy: Jürgen Habermas and the Politics of Discourse , ed. Simone Chambers (Ithaca: Cornell University Press, 1996).
نظرية الحداثة
Between Reason and History: Habermas and the Idea of Progress,
David S. Owen (Albany: SUNY Press, 2002).
أعمال أخرى
Another Country: German Intellectuals, Unification and National Identity,
Jan Werner Müller (New Haven: Yale University Press, 2000). Contains a critical analysis of Habermas’s views on German unification.
Jürgen Habermas: A
Martin Beck Matustík (Lanham: Rowman and Littlefield, 2001). Quirky biography with an emphasis on Habermas’s complex and strained relations to the student movement in the 1960s.
Habermas: A Critical Introduction,
William Outhwaite (Oxford: Blackwell, 1994).
The Philosophy of Habermas,
Andrew Edgar (Teddington: Acumen, 2004). (5) مجموعة من المقالات حول أعمال هابرماس النظرية
Habermas: Critical Debates,
ed. J. B. Thompson and D. Held (London: Macmillan, 1982). This is not recent, but is still a valuable collection that contains Habermas’s replies to his critics. Addresses programmes 1, 2, and 3.
Communicative Action: Essays on Jürgen Habermas’s 'The Theory of Communicative Action’,
ed. Axel Honneth and Hans Joas, tr. Jeremy Gains and Doris L. Jones (Cambridge: Polity Press, 1991). Collects together some critical responses to
The Theory of Communicative Action . Covers programmes 1, 2, and 3.
The Communicative Ethics Controversy,
ed. Seyla Benhabib and F. Dallmayr (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1990). A useful collection of material on discourse ethics. Programme 4.
Ideals and Illusions: On Reconstruction and Deconstruction in Contemporary Critical Theory,
Thomas McCarthy (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1991). A collection of essays by Habermas’s most longstanding critic and intellectual fellow traveller. Deals with programmes 3, 4, and 5.
Unfinished Project of Enlightenment,
ed. Axel Honneth et al., tr. William Rehg (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1992) and
Cultural-Political Interventions in the Unfinished
, ed. Axel Honneth et al., tr. Barbara Fultner (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1992). These two companion volumes contain critical responses to all aspects of Habermas’s philosophy. The list of contributors reads like a 'Who’s Who?’ of social theory. Examines programmes 2, 3, 4, and 5.
Habermas and the Unfinished Project of Modernity: Critical Essays on the Philosophical Discourse of Modernity,
ed. Seyla Benhabib and Maurizio Passerin d’Entrèves (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1997).
Habermas and the Public Sphere,
ed. C. Calhoun (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1992). Critical responses to
Strukturwandel der Öffentlichkeit
subsequent to its English translation. Many of these essays look at Habermas’s early book in the light of his mature social theory and the programme of discourse ethics, and so are relevant to programmes 3, 4, and 5.
Feminists Read Habermas: Gendering the Subject of Discourse,
ed. Johanna Meehan (London: Routledge, 1995). Feminist responses to Habermas’s philosophy.
The Cambridge Companion to Habermas,
ed. S. K. White (Cambridge: Cambridge University Press, 1995). An uneven collection of essays that includes valuable contributions by Max Pensky, Ken Baynes, and Simone Chambers (chapters 4, 7, and 8) on Habermas’s politics, and on his political and democratic theory respectively. Focuses on programmes 3, 4, and 5.
Habermas: A Critical Reader,
ed. P. Dews (Oxford: Blackwell, 1999). A collection of essays that attempt to situate Habermas’s theories in the context of the various philosophical traditions in which he works.
Habermas,
ed. Lewis Edwin Hahn (Illinois: Open Court, 2000). A large collection of critical and comparative essays addressing programmes 3, 4, and 5.
Habermas, Modernity and Law,
ed. Mathieu Deflem (London: Sage, 1996). Looks at programme 5.
Habermas on Law and Democracy: Critical Exchanges,
ed. M. Rosenfeld and A. Arato (Berkeley: University of California Press, 1998). Large collection of critical responses to
Between Facts and Norms . Programme 5.
Discourse and Democracy: Essays on Habermas’s Between Facts and Norms,
ed. René von Schomberg and Kenneth Baynes (Albany: SUNY Press, 2002). Programme 5.
Habermas and Pragmatism,
ed. M. Aboulafia, M. Bookman, and C. Kemp (London: Routledge, 2002). A collection of essays exploring the pragmatic aspects of Habermas’s work and his idiosyncratic relation to the tradition of American pragmatism. Contains material relevant to programmes 1, 3, and 5. (6) مجموعة مختارة من كتابات المؤلف عن هابرماس ومدرسة فرانكفورت 'Habermas’s Discourse Ethics and Hegel’s Critique of Kant’s Moral Theory’, in
Habermas: A Critical Reader , ed. P. Dews (Oxford: Blackwell, 1999), 29-52. 'What are Universalizable Interests?’,
Journal of Political Philosophy,
8: 4 (2000): 446-72. 'Modernity and Morality in Habermas’s Discourse Ethics’,
Inquiry,
3 (2000): 319-40. 'Adorno on the Ethical and the Ineffable’,
European Journal of Philosophy,
10, 1 (2002): 1-25.
Review of Logi Gunnarsson, 'Making Moral Sense: Beyond Habermas and Gauthier’,
Ethics,
112, 4 (2002): 828-31. 'Theory of Ideology and the Ideology of Theory: Habermas contra Adorno’,
Historical Materialism,
11, 2 (2003): 165-87. 'Habermas’s Moral Cognitivism and the Frege-Geach Challenge’,
European Journal of
(2005 forthcoming).
مصادر الصور
(1) © Ullstein, P/F/H. (2) © Ullstein, AKG Pressenbild. (3) © akg-images. (4) © Ullstein, Eckel. (1-1) © Ullstein, Keystone. (1-2) © Ullstein, AKG Pressenbild. (2-1) © Ullstein, Ullstein Bild. (9-1) © Peter Turnley/Corbis.
अज्ञात पृष्ठ