حتى إذا كنا مرة جالسين في حديقة بين الخضرة والزهر وقد سكت كل منا وذهبت به أفكاره كل مذهب نظرت إليها، فرأيت الدمع يجول في عينيها، فقلت لها: من أي شيء تبكين؟ قالت: من السعادة، فإن هذا اليوم وهذه السماء وهذا المنظر وهذا السكون والسكوت والوحدة واختلاط نفسينا حتى لا تحتاج إحداهما إلى الكلام؛ كل هذه أكثر من أن تحملها فتاة مثلي يقتلها السرور كما يقتلها الحزن. ثم تورد خداها وبرقت عيناها حتى خفت أن يستحسنها الموت على تلك الحال فيأخذها مني، ورأت ما كان بي من الاندهاش، فقالت كمن ينبهني من حلم: يا روفائيل، إن في الدنيا إلها، وإن الله موجود. قلت: وما الذي دعاك إلى هذا الكلام الآن؟ قالت: الحب، فإن الذي أشعر به منه أشبه بنهر يجري في فؤادي وله صوت لطيف تطرب له آذاني بما لم أتعود سماعه قبل اليوم، ولا شك أن المنبع الذي يجري منه مثل هذا النهر فيسر قلوب العاشقين لهو الله يرسله من أعلى سمائه، إذن فالله موجود ومحبته عظيمة فائقة ليست محبتنا إلا نقطة منها، فلا تحسبن أنني أحبك أو تحبني، فإنما نحن نحب الله ولا ندري، ونحسب أن كلا منا يحب أخاه.
فأعجبني كلامها حتى نهضت فقبلت الشجرة التي كنا نستظل بها على اعتبار أن ما قلناه كان وحيا هابطا علينا من خلال أغصانها، ثم اتفقنا فسميناها شجرة العبادة.
الفصل السابع
دنو الفراق
ومرت بنا الأيام على تلك الحال حتى أثر بي ما كنت فيه من حرارة الوجد وضيق الحال وظهرت آثار السقم على وجهي، فخافت علي وسألتني أن أذهب فأستشفي بهواء وطني ولو كان فراقي حزنا وغما عليها، ثم أرسلت لي طبيبها فرآني وأشار علي بمثل مشورتها، فعزمت على السفر وخرجت وإياها آخر يوم للوداع، فقضيناه في الحدائق والغابات بين حديث متقطع وزفرات متواصلة ودموع منسجمة حتى رجعنا مرجعا لا أقدر أن أصفه، ثم رحلت وأنا ألتفت إلى ورائي كما خرج آدم من جنان النعيم. وسارت بي المركبة أياما حتى وصلت إلى منزل أبي، فقابلتني أمي مسرورة، وأخذت تعالجني وتلطف في خدمتي حتى عاد إلي رونق الصحة وزالت عن وجهي آثار السقام، فرحلت إلى سافوا طمعا بزيادة الاستشفاء فيها، فكنت أزور أمي كل أسبوع فأجد بيتنا في حالة من الحاجة والعوز على أثر إنفاقي تزيد بها همومي وأكداري.
حتى إذا كان أول الشتاء وردني كتاب من غصن البان تشكو فيه من خوفها على صحة أبيها ، وأنه آخذ في الانحطاط كل يوم عن أمسه وهو ما أوجب طول بقائها في باريز، ثم سألتني أن أذهب إلى حيث كنا في شامبيري وأنتظرها شهرا توافيني في آخره من غير بد، فاستأذنت أمي بالسفر فأعطتني ما كان معها من مال التقتير والاقتصاد، فرحلت ماشيا بهيئة صياد آكل وأنام في أحقر البيوت وأصغر المزارع حتى وصلت بعد أيام إلى شامبيري، وأقمت أنتظر قدوم حبيبتي وأنا أذكر كل يوم ما كان لي معها، وأزور كل مكان زرته وإياها، حتى إذا كنت يوما على شاطئ البحر حيث ركبنا الزورق وجدت نوتيا مقبلا يستوقفني وفي يده كتاب من صديقي فألقاه إلي وانصرف، فوجدته كبير الحجم ثقيل الحمل فعلمت أن فيه كتبا كثيرة، وأن أحدها - ولا شك - يبشرني بقدوم من أهوى فانطلقت مسرعا إلى المنزل الذي استأجرته، فأشعلت المصباح وفضضت غلاف الرسالة فكان أول ما وقع نظري عليه غلافا محاطا بالسواد وعليه خط الطبيب الذي أشار علي بالسفر ومعه عدة أوراق تساقطت من يدي لارتجافها وأنا لا أجسر أن ألتقطها أو أقرأ حرفا منها خوفا أن يكون فيها الخبر الهائل الذي لا يقوى على حمله فؤادي، ولكني تجلدت أخيرا وفضضت كتاب الطبيب وإذا فيه:
كن رجلا، واصبر لحكم الله، ولا تنتظر أحدا؛ لأن التي تنتظرها على الأرض قد سبقتك إلى السماء في صباح الخميس بعد أن كلفتني بأن أرسل إليك آخر كلماتها التي كتبتها بيدها قبل وفاتها إلى أن أوقف الموت يدها بعد تمام اسمك.
ولم أكد أتم الرسالة حتى سقطت مغشيا علي في مكاني، فلم أستفق إلا عند منتصف الليل ورسالة النعي بين يدي، فتركتها وتناولت رسائل غصن البان فإذا هي مخطوطة على هذا النسق، قالت في الرسالة الأولى:
عفوا يا روفائيل، يا حبيب فؤادي، ويا أخي، واغفر لأختك طول غشها لك، أقول ذلك لأنني لم يكن لي أمل بأن أعود فأرى سافوا، ولأنني كنت عالمة بأن أيامي معدودة لا تنفسح لي إلى نيل هذه السعادة. ثم إني يوم قلت لك عند فراقنا الأخير: إلى الملتقى يا روفائيل. لم تفهم ما أقصد بهذه العبارة، ولم يفهمها إلا الله؛ لأنني كنت أقصد فيها ميعاد اللقاء في السماء حيث أنتظرك وأدعو لك. واعلم أيها الصبي أنني أوصيت طبيبي بأن يخدعك أيضا، وأن يساعدني على رحيلك من باريز؛ لأنني أردت بل رأيت من الواجب علي أن أكفيك شدة هذا الحزن عن قرب؛ إذ خشيت أن يقتطع قطعة من فؤادك أو من حياتك فتقصر أيامك بسببه، وزد على ذلك أنني لم أكن أريد أن تراني أموت بل أن يكون بيني وبينك حجاب من الأيام قبل الموت. آه يا روفائيل! إن الموت بارد جدا، وأنا أشعر به وأراه وأخاف لأجله من نفسي، والأمر لله. لقد كنت أحب أيها الصديق أن أترك في عينيك صورة آثار من جمالي الزائل تذكرني بها بعد موتي، أما الآن فقد قضي الأمر فأقم في مكانك ولا ترحل إلى سافوا ولا تنتظرني في مكان، فإنه لا يمضي علي يومان أو ثلاثة حتى لا يعود لي أثر في هذه الحياة الدنيا سوى روحي خافقة ترفرف على رأسك حيثما كنت. انتهى.
وكان على الرسالة آثار دموع جفت، فجعدت الورقة من تحتها. ومن بعدها رسالة أخرى مؤرخة في اليوم نفسه، وهي كما يأتي:
अज्ञात पृष्ठ