ولا ريب في أن الصوفية قد وجدت في الغزالي قائدا بارعا ومحاميا لبقا وشارحا ساحرا، يأسر القارئ إلى صفوفه ويكسب المعارك بفنونه، فاستطاع أن يجعل منها علما واضحا مهذبا، أو كما قال العلامة ماكدولاند: «إن الصوفية بلغت بفضله ونفوذه وتأثيره مكانا ثابتا وطيدا في الإسلام.»
وتفوق الغزالي في تاريخ التصوف مرجعه إلى تفوقه العلمي؛ فقد درس العلوم الفلسفية والتقليدية والجدلية والمذهبية دراسة لم تتيسر لكاتب صوفي سواء تقدم به تاريخ الزمن أم تأخر.
وبذلك أصبح الغزالي هو كاتب الصوفية الأول، وبفضله وضحت أسرارها ومعانيها، وتحددت أهدافها ومراميها، وكما حطم نفوذ الفلسفة في المشرق بعد سيادة وهيمنة أطلق علم التصوف في السماء، يسبح خفاقا في قداسة ونور وإجلال.
والغزالي يؤمن بأن معارف الباطن هي طريق الهداية؛ لأنها اتصال مباشر بالحقائق الخالدة والأسرار النورانية، وصلة مستمرة بين العبد والخالق، أساسها المحبة المتبادلة والإلهامات المشرقة.
وقد أطلق الصوفيون على المعرفة الروحية لقبا يجعلها أصلا من الأصول، لا فرعا من الفروع؛ فأسموها علوم الباطن، وأقاموا ثقافتهم وعبادتهم على أساسها.
وعلم الباطن عند الغزالي هو غاية العلوم وقد عرفه بقوله:
إنه عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بإدراك حقائق علم الدنيا وعلم الآخرة، وهذا ممكن في جوهر الإنسان، لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا، ولا سبيل لهذا العلم إلا بالرياضة والتعليم، وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب أو لا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء إلا مع أهله، وهذا هو العلم الخفي الذي أراده
صلى الله عليه وسلم
بقوله: «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله، فإذا نطقوا به لم يجهله أهل الاغترار بالله.»
واعلم أن انقسام هذه العلوم إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة، وإنما ينكرها القاصرون، وقد قال
अज्ञात पृष्ठ