فقاطعته الملكة قائلة: إن إشارتي إليك يا أيها الملك الجليل بوضع شرائع جديدة على أولئك القوم أصحاب تلك المملكة المشئومة، وبإرفاقهم بمناظرين عليهم من طرفنا وبجعل أكثر عساكرهم من جنس عساكرنا، إنما هو عين استئصالهم وإبادتهم؛ لأنه بذلك يمكننا وضع الأيدي على مملكتهم وضمها إلى مملكتنا بكل سهولة وبدون أدنى انزعاج لداخليتنا، ولكن مع طول الزمان والصبر الأمر الذي به قد نجحت أكثر ممالك العالم حسبما تخبرنا التواريخ، ولكن إذا أوقعت بهم الآن حد السيف بدون التبصر بعواقب العجلة، فأخشى عليك من الوقوع في بلبلة البال والندم على المحال.
وبينما كانت هذه الملكة الحكيمة تبسط أفكارها لذلك الملك الجليل، وإذا برجلين مقبلين من جوف الغابة بأقدام مهرولة، وبوجوه عليها سيماء الانشغال، ولم يزالا يتقربان إلى أن وصلا أمام المظهر الملوكي وسجدا هنالك بكل احترام ووقار، وكانا متدرعين بأسلحة الحرب، وأعينهما ملتهبة بضرام المواقع، وأحذيتهما متوشحة بما نسجه النقع، والدماء سائلة على حد ظباهما ومضمخة ثيابهما العسكرية، وكان مكتوبا على خوذة أحدهما: «هذا قائد جيش التمدن.» وعلى منكب الآخر: «هذا وزير محبة السلام.»
وعندما وقعت من الملك التفاتة إليهما حياهما بالإكرام، وقال لهما: هات أخبراني بما فعلتما شفاها. فأخذ الأول يسرد الحوادث هكذا: إن نصرتنا الكاملة على الأعداء لم تحتمل أكثر من موقعتين: أما الأولى فكان حدوثها على هذا الوجه، وهو أن هؤلاء الأخصام عندما شاهدوا جيوش آدابنا المستظهرة مقبلة عليهم فرقا فرقا؛ عدوا حالا على قتالنا منظمين صفوف أجناد مقاومتهم، وأخذوا يدافعون هجومنا عليهم بنيران مدافع العناد بدون أدنى اكتراث بنا، وكان حامل بيرقهم رجلا يسمى بالبغض.
فعندما لاحظنا قحتهم هذه زمرنا حالا ببوق النار الدائمة، ورفعنا بيرق النزال، فكنت ترى حينئذ جيوشنا تلك الغضنفرية غائصة في سحب دخان الغيرة، متلامعة ببروق سحيق التعاليم على صهوات جياد المدارس التي كانت تحمحم طلبا للهجوم وشوقا للاقتحام، ولم تزل قنابر براهيننا تنقض على صفوف الأعداء كالصواعق من أفواه مدافع استظهاراتنا التي كانت ترعد تحت سماء حرب الحرية، ولم تبرح بنادق ألفاظنا تمطر عليهم رصاص العزيمة إلى أن رأيت تلك الصفوف أخيرا متفرقة كبنات نعش، ومنهزمة أمام نظام فيلقنا الذي كان يحكي الثريا شملا والجوزاء مسيرا، وهكذا لم نزل هاجمين عليهم وهم ناكصون على أعقابهم حتى ظفرنا بالغلبة والانتصار، وتركنا أكثرهم بين قتيل وجريح، والبقية أدبروا وتحصنوا في معاقل الآراء السابق تصديقها.
أما الواقعة الثانية فكان وقوعها على هذه الكيفية، وهي أن أولئك الأعداء قد أرسلوا إلينا رسولا حاملا من طرف ملكهم رقعة بها يعدنا أنهم يتركون الأسلحة بشرط أن تنحي عنهم قليلا عساكرنا، فوعدهم سعادة رفيقي هذا - وأشار إلى وزير محبة السلام - أن يجري شرطهم، وكتب لهم بذلك رقعة ودفعها للرسول فأخذها وذهب، وهكذا أتممنا الوعد.
ومذ شاهدوا تنحينا عن معاقلهم طمعوا بتغاضينا، وأخذوا يجمعون عساكر جديدة مجددي العزم، واندفعوا علينا ثانية كالوحوش الضارية تحت إدارة سبعة قواد تسمى بالأرواح الشريرة، وكان حامل سنجقهم جنديا يقال له: «الخيانة».
فعندما رأينا تأهبهم للقتال وهجومهم علينا اغتيالا ومفاجأة تحت لواء الخيانة هرعنا حالا إلى أسلحتنا القاطعة وقابلناهم بأمواج كتائبنا المنتصرة، وأخذنا نصادمهم مصادمة بني أسد لبني كلب، وكنت أنا وهذا الوزير نخترق صفوف أجوقهم شاهرين سيف الهمة والمسعى، ونضرب يمينا وشمالا بكل عزائمنا لكي نشد قلوب الجنود المنقضة عليهم كالنسور، وكان دخاننا يبتلع دخانهم ورعود مدافعنا تخرس مدافعهم، ولم نزل نجزر مدهم ونفل حدهم حتى استظهرنا عليهم مليا وأوضحنا تقهقرهم جليا، ولم نرجع عنهم حتى أوقعنا جميع عساكرهم وقوادهم في قبضتنا بعد حرب أقوم من ساق على قدم، وأشهر من نار على علم.
ولم نكتف بهذه الغلبة فقط، بل دخلنا أيضا إلى معاقلهم السخيفة لكي نستخرج ما فيها من القوات، وبينما كنا نتجسس ونبحث في تلك الحصون واحدا فواحدا وجدنا في أحدها رجلا هرما قد نفضت أقدام الأيام على هامته غبار الشيب، وهو مختبئ في إحدى زوايا حجرة ناكس الرأس مكفهر الوجه منحط العزائم والقوى ذارف الدموع منحني الظهر، حتى يرى كأنه صنم لا يمكنه أدنى حراك؛ فقبضنا عليه أيضا وأخرجناه إلى الخارج وربطناه مع سبعة قواده المذكورين ومن يحمل بيرقه بسلسلة حديدية، ووضعناهم في سجن عندنا تحت الأسر، وحالا أخذت قلما وقرطاسا وسطرت به هاتين الواقعتين كواحدة على وجه الاختصار وأرسلت الأسطر إلى عظمتكم مع بريد مخصوص.
أجاب الملك: قد وصلتني رقعتكم مع البريد المذكور، ولكني لم أستوعب كل الحوادث حسب الواجب؛ ولذلك رددت إليكم البريد لكي يدعوكم إلى هنا وأفهم الأمر منكم مشافهة، فمن الرقعة التي أبرزتموها لي لم أعلم سوى موقعة واحدة وأنكم موعودون من الأعداء بالتسليم وترك الأسلحة عندما كان نظري يسبق ويرى من بعيد دخان وغبار معركة مهولة، وأذني كانت تسمع لغطا يشبه دوي رعود من أفق شاسع، ولم ألبث أن أغرقتني لجة البلبال؛ لأنني لم أعلم النصر لمن يكون. - نعم، إن هذه المعركة التي هي الثانية ربما كانت جارية حينما كنتم تشرفون معروضنا بتلاوته؛ لأننا بعد برهة قليلة من نهاية الكفاح الأول أسرعنا إلى إخبار عظمتكم وشرعنا في الاعتراك الأخير ونلنا النصر والظفر من حيث لا تعلمون.
ومع ذلك كنا نقتصر على إنجاز تلك الموقعة الأولى حسب المرغوب لو لم يدخل غش هؤلاء المردة على سلامة قلب وزير محبة السلام. وأشار إليه، أما هذا الأخير فقد كان مطرقا في الأرض غير متحرك وكأنه واقع في هواجس كثيرة، فالتفت الملك إليه، وقال له: بالحقيقة إن سلامة قلبك قد صارت السبب الوحيد لانتشاب تلك الموقعة الثانية؛ لأنه لو كنت تعرض عن تصديق دعواهم بالتسليم عالما أن الحرب خدعة لكانت جيوشنا أنهت الموقعة الأولى حسبما اقتضت الثانية، وكنا اغتنينا عن ثقلة هذه الأخيرة ووفرنا رجالا ومالا.
अज्ञात पृष्ठ