بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـ[غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني]ـ
المؤلف: أحمد بن إسماعيل بن عثمان الكوراني، شهاب الدين الشافعيّ ثم الحنفي (المتوفى: ٨٩٣هـ)
من أول سورة النجم إلى آخر سورة الناس
دراسة وتحقيق: محمد مصطفي كوكصو (رسالة دكتوراه)
الناشر: جامعة صاقريا كلية العلوم الاجتماعية - تركيا
عام النشر: ١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
عدد الأجزاء: ١
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
अज्ञात पृष्ठ
سورة النجم
مكية، إحدى وستون آية أو اثنتان وستون
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) أقسم بالثريا، فإنه أبدَعُ الكواكب صُنْعًا، والنجم: عَلَمٌ غالبٌ له عند العرب وفي أمثالهم:
إِذا طَلَعَ النَّجْم عِشاَءً ... ابتغى الراعي كساءً
1 / 12
وقيل جنس النجوم، لأنها زينة السماء، ورجوم الشياطين. و(هَوَى) من الهوي، بفتح الهاء وهو السقوط، أو بضمها وهو الطلوع؛ لأنه أدل على كمال الاقتدار، كقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) أو نجم القرآن؛ لأنه نزل منجما، وهذا أوفق لوجود نظائره، وألصق بقوله: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) الضلال: ضد الاهتداء، والغواية: ضد الرشد، وهما جواب القسم، أي. ليس هو كما تزعمون ضالًّا غاويًا في ترك دين آبائه. وفي لفظ "الصاحب" وإضافته توبيخ لهم، حيث عرفوا أمانته وصدق لهجتِه، ثم نسبوه إلى الضلال.
(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) في أمر الدين والدعوة إليه. وفى الإتيان به مضارعًا بعد قوله: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) إشارةٌ إلى أنه إذا لم يكن له سابقة ضلال قبل النبوة، فبعدها أبعد.
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) استدل به من منع اجتهاده، وليس بتام؛ لأنه إذا قال له تعالى وتقدس: ما ظننت فهو حكمي يكون اجتهاده وحيًا لا بالوحي، وغيره ليس كذلك.
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) جبرائيل، والإضافة لفظية، أي: قواه الجسمانية من البطش، والسمع، والبصر.
1 / 13
ذُو مِرَّةٍ ... (٦) عقلٍ كاملٍ ورأيٍ وافرٍ، أتى به في أسلوب الترقي. (فَاسْتَوَى) على صورته الحقيقية.
(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (٧) مَطلع الشّمس وإنما ظهر له في تلك الصورة، ليتيقن أنه ذلك إذا أتاه في غير تلك الصورة ..
(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) قرب من محمد فتعلق به.
(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) أي: كان البعد بينهما مسافة قوسين أو أقرب في مرآكم لو رأيتم. القاب والقيب كالقاد والقيد: هو المقدار وقيل: القاب، ما بين المقبض إلى السِّيَةِ فلكل قوس قابان. (أَوْ أَدْنَى) على تقديركم كقوله: أو يزيدون.
وهذه الرؤية كانت بعد مجيئه بحراء أول ما بعث، لما فتر الوحي على ما رواه الثقاة، أنه لما
1 / 14
اشتد به الكَرْب من تكذيب قريش حتى قالوا: هجره شيطانه. قال: " فأردت أن ألْقيَ نفسي من شاهق فلما خرجت فإذا هو جالس عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ، وقالَ: لا تفعَل فإنّكَ رسولُ اللَّه حقًّا فَرُعِبْتُ مِنْه فَرَجعْت إلى أهلي فقلت دَثرُونِي. فنزلت: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢). فهذا معنى الدنو والتدلي، والقرب. لا أنه تمثيل للعروج به.
(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠)
الموحى هو جبرائيل، وضمير (عَبْدِهِ) للَّه، ولا لبْس فيه.
والقول بأن الضمائر للَّه. فالدنو والتدلي على التأويل، خلاف الظاهر بعيد عن المساق. (مَا أَوْحَى) لم يأت بالضمير؛ تفخيمًا لشأن المُنزل، وأنه مما يجل عن الوصف، أنّى يتوهم التباسه بالشعر والكهانة؟ وكما فخِّم شأن المنزل، كذلك شأن للنزل إليه بإيثار لفظ " العبد " المضاف إليه تعالى؛ إشارة إلى أنه العبد الحقيقي، الكامل، الذي لا يذهب الوهم منه، وإيماء إلى أنه حقيق بالحظوة والاصطفاء.
(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١) أي: ما رآه من صورة جبرائيل، أي: لم يكن قلبه منكرًا له إذا رآه مرة أخرى في غير صورته. وقيل: ما رآه من جلال اللَّه تعالى لما روى
1 / 15
مسلم عن ابن عباس ﵄: " أن رسول اللَّه ﷺ رَأي ربَّه بِفُؤاَدِهِ مَرَّتَيْنِ " والحق أن ذلك ليس تفسيرًا للآية وإن صح.
(أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢) تجادلونه، من المراء. أصله المرْي. يقال: مرَيْت الناقة، إذا جذبت ضِرْعَها لتَدُرَّ. وقرأ حمزة والكسائي (أَفَتَمْرُونَهُ) على المغالبة من ماريته فمَرَيته.
1 / 16
(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) فَعْلَة من النزول أي: مرة أخرى؛ ولذلك نصبت على الظرف.
(عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤) ليلة الإسراء، وهي شجرة النبق، كل نَبِقَة كقُلَّة من قِلال هجر، وأوراقها كآذان الفِيَلة، وقد غشيها من الأنوار ما لا يقدر على نعتها إلا اللَّه. وسميت بالمنتهى؛ لانتهاء علم الخلائق إليها، وهي في السماء السابعة. كذلك رواه البخاري.
1 / 17
(عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (١٥) الجنة التي تأوي إليها أرواح الشهداء أو المتقون.
(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (١٦) من الأنوار والألوان ما يجلّ عن الوصف، وقيل: ملائكة كالغربان على كل ورقة ملك يسبح.
(مَا زَاغَ الْبَصَرُ ... (١٧) ما مال عن سَنَن الاستقامة. (وَمَا طَغَى) وما تجاوز عن المرئي. لما قرر أن الفؤاد لم يكذب ما رأي أزال شبهة من يَتَوهم أن آلة الإدراك قد تخطئ في الإدرإك كما بيّن في موضعه. أو ما مال البصر ولا تجاوز عن مطلبه، وهو الحق تعالى.
وهذا مقام مخصوص به لم يتيسر لفرد من البشر.
1 / 18
(لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨) استئناف يؤكد ما تقرر. أي: قد رأي من عجائب الملكوت ما لا يمكن وصفه، فضلًا عن رؤية جبرائيل، ويجوز أن يكون الكبرى مفعول الرؤية. أي: رأي كُبْراهنَّ. وبه يتمسك من أثبت الرؤية إذ لا أكبر منها آية.
(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) هذه أصنام كان أهل الجاهلية يعبدونها. اللات كان بالطائف يعبده ثقيف، والعزى سمرة بجيلة يعبدها
1 / 19
غطفان. ومناة صنم كان على الساحل يعبده هذيل وخزاعة. وقد همزه ابن كثير جعله مفعلة من النوء؛ لأنهم كانوا يستمطرون عنده بالأنواء. ومن لم يهمِّزْها أخذها من
1 / 20
منى: أراق. فإنهم كانوا يريقون دماء النسائك عليها. والعزى تأنيث الأعز. قطعها خالد بن الوليد، فخرج منها شيطانة ناثرة شعرها، تدعو بالويل، فضربها خالد بن الوليد بالسيف، وقال:
كُفراَنك يا عزى لا سبْحانَك
فأخبر بذلك رسول اللَّه ﷺ فقال: " تلك العزى ولن تعبد بعد اليوم أبدا ". واللات: قيل: اسم رجل كان يَلِتُّ لها السويق. وعن مجاهد اسم رجل كان
1 / 21
يلت السمن ويطعمه، فلما مات اتخذوا قبره وثنًا. والمعنى: أَبَعْدَ هذا البيان تستمرون على الضلال. فترون هذه الأصنام آلهة تستحق العبادة، وتجعلونها شركاء اللَّه (الْأخْرَى) صفة ذم أي: الوضيعة فإنهم كانوا يرون التقدّم للات والعزى.
(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) وأنتم تقتلون الإناث، ولا ترضونها، تأنفون منها عارًا. فكيف تجوِّزون أن تكون أولادًا له وشركاء في الألوهيّة؟! وإذا كان شأنكم في
1 / 22
الجهالة والضلال هذا. فكيف تضللون من يدعو إلى التوحيد وإلى عبادة من له الخلق والأمر؟.
(تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) جائرة، من ضَازَه يضيزه إذا ظلمه. أصله ضئزى؛
لأن فعلى صفة لم يثبت على ما ذكره سيبويه. إلا مع التاء كعِزْهات فكسر الفاء لتسلم الياء كما فعل ببيض. وقرأ ابن كثير بالهمز من ضأزه ظلمه.
(إِنْ هِيَ ... (٢٣) أي: الأصنام (إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا) أي: لا حقيقة لها باعتبار الألوهية (أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) برهان يدلّ على جواز إطلاق اسم الإله عليها، وفيه تهكم بهم بأن العقل لا يجيز إطلاق الآلهة على الجماد، لو فرض ذلك لم يكن إلا تعبدًا محضًا من اللَّه. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) يقلدون آباءهم. ولا اعتبار للظن في العقائد ولا
1 / 23
تقليد. (وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أنفسهم (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) الرسول أو الكتاب الذي هو مناط الإيقان.
(أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) أم منقطعة، ومعنى همزتها الإنكار، أي: ليس للإنسان ما يتمناه حاصلًا له وهو طمع هؤلاء في شفاعة تلك الجمادات، أو ما كانوا يقولون: لئن كان هناك بعث نحن أحسن حالًا من محمد وأصحابه كقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) و(لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أو هو قول عاص بن وائل: (لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧).
1 / 24
(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (٢٥) يعطي ما يشاء لمن يشاء ليس لأحد فيهما شرك، وقدم الآخرة؛ لأن الكلامَ فيها.
(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ... (٢٦) أدنى شيء مع مكانتهم وقربهم عند اللَّه. فكيف تشفع هذه الجمادات التي هي أخسّ الكائنات. والمراد أشراف الملائكة؛ ليدل بالأولوية على انتفائها من غيرهم، ولذلك نكر الملك وخصه بمن في السموات. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ) أن يشفع ويشفع له، (وَيَرْضَى) بتلك الشفاعة أي. تكون مقبولة؛ لأن الإذن في الشفاعة لا يستلزم القبول.
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (٢٧) حيث قالوا: هم بنات اللَّه. قالوا: تزوج سروات الجن فولدت له الملائكة. والتقييد بالآخرة، إشارة إلى فرط جهلهم بأنهم يعتقدون أن الإنسان يترك سدى، ومن كان هذا شأنه لا يبعد منه تلك المقالة.
(وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ... (٢٨) لما سمعوه من آبائهم. (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ) الذي لا يمكن تبدله باختلاف الشرائع وتبدل الأعصار وهي المسائل الأصلية والمباحث الإلهية. (شَيْئًا) أدنى شيء.
1 / 25
(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ... (٢٩) أعرضَ عنه ولم يتأمله. والمراد به القرآن. وفي إضافته إلى نفسه؛ إشارة إلى أنه كان حقيقًا بالإقبال. (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) إلا هذا الخسيس، لا أن ذلك كان لعائق آخر.
(ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ... (٣٠)
اعتراض يؤكد الأمر بالإعراض؛ لأن السعي في الإرشاد إنما يجدي لمن له قابلية الترقي (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) يعلم من يجيب ومن لا يجيب، وقد علم أن هؤلاء أهل الطبع. وفي إعادة العلم ثانيًا مبالغة دالة على كمال تمايز الحزبين عنده.
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... (٣١) خَلقًَا ومُلْكًَا. نفى به توهم الإهمال، وتركهم سدى من قوله: (فَأَعْرِضْ)، ولذلك عقبه بقوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا) بجزاء أعمالهم، (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) غيَّر النظم، للدلالة على أَن جزاءهم ليس على قدر أعمالهم. ويجوز أن يتعلق (لِيَجْزِيَ) بقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ). وقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) اعتراض يؤكد حديث الجزاء بأنهم تحت ملكه.
(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ ... (٣٢)
بدل من (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) أو صفته، أو نصب، أو رفع على المدح. أَي: الكبائر من الإثم فإنه جنس الذنوب. والكبيرة: ما توَعَّد عليه
1 / 26
الشارع بخصوصه كالقتل والزنى، أو كان قبحه أزيد منه أو مساويًا. وقرأ حمزة والكسائي بالإفرإد على إرادة الجنس. (وَالْفَوَاحِشَ): ما زاد قبحه من الكبائر من عطف الخاص على العام. (إِلَّا اللَّمَمَ): ما قلّ قبحة فإنه معفو عنه إذا اجتنب الكبائر، وهو ما دون الكبيرة كمقدمات الزنا والسرقة والقتل قبل الوقوع. وأصل التركيب يدل على القلّة، ومنه اللمة لشعر جاوز الأذن، وإلمام الضيف قال:
لقاء أخلاء الصفاء لمام.
وهو استثناء منقطع، أو صفة، كأنه قيل: كبائر الإثم غير اللمم؛ لأن المضاف إلى المعرف الجنسي في حكم النكرة. (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) حيث تجاوز عن الصغائر التي قلّ أن يخلو عنه الإنسان. وإليه أشّار ﷺ " إِنْ تَغْفِر اللهُمَّ تَغفِرْ جَمَّا وَأَي عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا ".
1 / 27
(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) منكم (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) لما خلق أباكم آدم، وأخرجكم من ظهره ذرية. (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) فعلمه بكم الآن، وبما يصدر منكم أجلى وأظهر. فإن قلت: إذا كان أعلم بهم وقت الإنشاء من الأرض فلا يخفى أنه أعلم بهم حال كونهم أجنة. فما الفائدة في ذكره؟ قلت: أراد أن علمه لا يتفاوت بجلاء المعلوم وخفائه كما هو شأن العلم الحادث. (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) فإن محل التقوى هو القلب، والوقوف على أحواله وأسراره ينقطع دونه التقوى. والمنهي تزكية النفس تمدُّحًا لا شكرًا وترغيبًا للغير، ويجوز أن يراد مدح المؤمن أخاه لما روى أبو بكرة أن رجلا مدَحَ رجُلًا عند رسول اللَّه ﷺ فقال: " قطعْتَ عُنقَ صَاحِبِكَ فإذا كَان أحدُكم مَادحًا أَخَاهُ فَلْيَقلْ أَحْسبهُ كَذا وَلَا أُزَكي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ".
1 / 28
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) أي: أبَعْد علمك بأن اللَّه هو أعلم بحال الإنسان منه بنفسه أخبرني عن حال من أراد سلوك سبيل الآخرة والوصول إلى اللَّه استقلالًا. تعجيب منه.
(وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (٣٤) وأمسك بعده عن الخير اكتفاء بذلك القليل. أصله أكداء الحافر وهو أن يلقاه كدية أي: صخرة فيمسك عن الحفر.
والآية نزلت في الوليد بن المغيرة أراد أن يتبع رسول اللَّه ﷺ فعيِّره بعض المشركين، وقال: تترك دين الأشياخ؟ فقال: إني أخاف عذاب اللَّه. فقال: أعطني بعض مالك وأنا أحمل عنك العذاب، ففعل معتقدًا ذلك. ونزولها في عثمان، وتفسير التولي بالفرار يوم أحد باطل؛ لأن السورة من أول ما نزل بمكة.
1 / 29
(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ ... (٣٥) ما فيه العلم بالمغيبات وهو اللوح. (فَهُوَ يَرَى) يشاهد ما فيه، فلذلك اكتفى به واستغنى عن اتباع الرسول ﷺ. (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) والمعنى: أن هذا شرع قديم ليس من خواص ما جاء به محمد ﷺ فهلا استغنى في ذلك علماء أهل الكتاب، ليخبروه بجليِّة الحال. وتقديم موسى؛ لكون كتابه أشهر، والاطلاع على ما فيه أيسر. ولا ينافيه قوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)؛ لأن الغرض هناك تقرير كون الآخرة خير وأبّقى، وذلك مما سطر في صحف إبراهيم فضلًا عن التوراة الذي هو أعلى وأجل، ولما تأخر ذكره زاده وصفًا، وهو التوفية المبالغة في الوفاء، وأطلق ليتناول كل وفاء، من تبليغ الرسالة، والقيام بسائر المكارم، من ذبح الولد، والصبر على نار نمرود. قيل: كان عاهد اللَّه أن لا يسأل غيره، فلما أُلقي في النار لقيه جبرائيل، فقال له: هل من حاجة يا خليل اللَّه؟ فقال: أما إليك فلا، فقال: سل ربك
1 / 30