الغرامية
في مصطلح الحديث
منظومة أبي العباس أحمد بن فرح الإشبيلي
شرح وتوثيق
مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني
الطبعة الأولى
١٤٢٢ هـ ٢٠٠١ م
1 / 1
الخطة
رأيت أن يكون البحث في قسمين الأول دراسة والثاني شرح وتوثيق.
الدراسة فيها ثلاثة مباحث:
الأول: المقدمة وفيها نبذة عن علم مصطلح الحديث.
والثاني: ترجمة الناظم وفيها من الجزئيات: نسبه، مولده، نشأته، أول سماعه، رحلاته، أشهر شيوخه، أشهر تلاميذه، ما وقع له من البلاء، صفاته، عقيدته، ثقافته، مكانته الاجتماعية، مؤلفاته، وفاته.
والثالث: إثبات نسبة النظم
شرح ما ألمحت إليه المنظومة، وما ورد فيها من قواعد مصطلح الحديث.
1 / 4
المقدمة
الحمد لله الكريم المنان، واسع الفضل والإحسان، والصلاة والسلام على كامل الخلق والخلق، سيد ولد عدنان، سيد الأولين والآخرين من بني الإنسان، وعلى آله وصحبه، والمتبعين له بإحسان وبعد:
فإن أعظم ما بذل فيه الجهد، واستنفرت له الهمم، وقضيت فيه الأوقات، خدمة كتاب الله العزيز، وسنة رسول الله البشير النذير ﷺ، أما الكتاب العزيز فجهود العلماء فيه ظاهرة معلومة، وهو محفوظ من الله ﷿ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (١) فتحقق وعد الله ﷿، إذ وعته العقول، واستوعبته الصدور، وفي وقت قريب من عهد رسول الله ﷺ دون في مصحف واحد بعناية واهتمام، فتحقق له الحفظ والصون والأمان، فلا ينال منه شيطان من إنس ولا جان.
أما سنة رسول الله ﷺ فبقيت معرضة للتزوير والتحوير، وهو أمر خطير وشر مستطير، حذر منه البشير النذير ﷺ فقال: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) (٢)، وهذه لفتة نبوية إلى أن الكذب عليه سيقع لا محالة، لذلك حذر منه أمته، فكان هذا الخبر منه ﷺ دافعا قويا لأمته من بعده لأخذ الحيطة والحذر في النقل عنه ﷺ فالحديث عنه شديد كما قال زيد بن أرقم ﵁ (٣)، وهكذا احتاط الأصحاب ﵃ لأنفسهم، يقول أنس
_________
(١) الآية (٩) من سورة الحجر.
(٢) أخرجه البخاري في (ص ٧١٢) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (٥٠) حديث (٣٤٦١).
(٣) أخرجه ابن ماجه في (١/ ١١) المقدمة، باب (٣) حديث (٢٥).
1 / 5
بن مالك ﵁: "لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله ﷺ، أو قالها رسول الله ﷺ " (١)، وشددوا في التثبت من النقلة عن رسول الله ﷺ فهذا أبو بكر ﵁ في قصة ميراث الجدة لم يقبل خبر المغيرة بن شعبة ﵁، بل قال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري ﵁ فشهد له (٢)، وهذا عمر بن الخطاب ﵁ يشدد على أبي موسى الأشعري ﵁ في نقله حديث الاستئذان ويقول: " تأتيني على ذلك ببينة - وفي رواية - لتقيمن عليه بينة" (٣)، ويقول في قصة طلاق فاطمة بنت قيس: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، حفظت أم نسيت (٤)، ويزداد الموقف شدة بانقضاء الصدر الأول من الصحابة، فهذا حبر الأمة عبد الله بن عباس ﵁ لم يأذن لحديث بشير بن كعب العدوي إذ يقول: قال رسول الله ﷺ. فلما رآه لا ينظر إليه ولا يستمع لحديثه قال: يا ابن عباس مالي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ﷺ ولا تسمع؟ . فقال ابن عباس ﵁: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله ﷺ، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرفه (٥)،
_________
(١) سنن الدارمي (١/ ٦٧ المقدمة، باب (٢٥) حديث (٢٤١).
(٢) أخرجاه في الصحيحين: البخاري في (ص ١٥٣٤) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (١٣) حديث (٧٣١٨)، ومسلم في (٣/ ١٣١١) كتاب القسامة، باب (١١) حديث (٣٩ - ١٦٨٩).
(٣) أخرجهما البخاري في (ص ٤٠٧) كتاب البيوع، باب (٩) حديث (٢٠٦٢) وفي (ص ١٣٢٣) كتاب الاستئذان، باب (١٣) حديث (٦٢٤٥) ..
(٤) أخرجه مسلم في (٢/ ١١١٨ - ١١١٩) كتاب الطلاق، باب (٦) حديث (٤٦ - ١٤٨٠).
(٥) أخرجه الإمام مسلم في مقدمة الصحيح (١/ ١٢ - ١٣) باب (٤) حديث (٧ - ٧).
1 / 6
هكذا مر عهد أصحاب رسول الله ﵃ بين حيطة وتوثق من صحة النقل، فلما ظهرت الفنتة برز التفتيش عن أحوال الرجال وما هم عليه من الصفات، يقول ابن سيرين ﵀: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم (١)، وكذلك تكلم في هذا الباب جمع من التابعين منهم: الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وعامر الشعبي، والإمام مالك وغيرهم، ومن هنا أصبح الإسناد أمرا لا مفر منه في الرواية، وما ليس له إسناد كمن لا نسب له، ومن أهمية الإسناد نشأت الرحلة إلى الأمصار، بحثا عن التوثق والعلو في الإسناد، واعتبر الأئمة ذلك من الدين، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يقول ابن سيرين ﵀: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم (٢).
ومن هنا نعلم أن الخطوط العريضة لنقد الأسانيد والمتون برزت الحاجة إليها مبكرة في عهد الأصحاب ﵃، كما هو واضح مما تقدم ذكره، وهكذا نما الاعتناء بهذا الجانب العظيم، في مراحل تاريخية متفاوتة وهي أربع مراحل:
١ - عهد الأصحاب ﵃ وما أبدوا فيه من خطوط عريضة لقواعد الحيطة والتثبت في النقل عن رسول الله ﷺ، وتعتبر هذه المرحلة من بداية القرن الأول إلى نهايته، غير أنه لم يدون شيء كبير في هذا الصدد، سوى ما كان من كتابة عبد الله بن عمر وغيره، فهذا القرن خير القرون، كان فيه
_________
(١) ذكره الإمام مسلم في مقدمة الصحيح (١/ ١٥) باب (٥) ..
(٢) أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح (١/ ١٤) باب (٥).
1 / 7
الحذر والتشدد في النقل عن رسول الله تدينا، فلا سبيل لتهمة الكذب، بل كان الخوف من الخطأ والنسيان، وجرى الحرص على صحة المنقول وثبوته.
٢ - عهد كبار التابعين ﵏:
وهو فترة نشط فيها الاهتمام بالإسناد، والتعرف على أحوال الرجال، وقد تقدم قول ابن سيرين ﵀: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم، وقد تبع هذا القول اتجاهان متضادان في شأن التدوين للسنة وما يتعلق بها من آراء شخصية: فالصدر الأول من التابعين تأثروا بمنهج الأصحاب في عدم الرضى عن كتابة ما سوى القرآن الكريم (١)، وآخرون من التابعين منهم: سعيد بن جبير، وكان يقول: كنت أسير بين ابن عمر وابن عباس، فكنت أسمع الحديث منهما، فأكتبه على واسطة الرحل حتى أنزل فأكتبه (٢)، وسعيد بن المسيب رخص لعبد الرحمن بن حرملة في الكتابة حين شكا إليه سوء الحفظ (٣)، والشعبي كان يقول: الكتابة قيد العلم، إذا سمعتم مني شيئا فاكتبوه ولو في حائط، ووجد له بعد موته كتاب في الفرائض والجراحات (٤)، فهؤلاء وغيرهم من التابعين رأوا ضرورة تقييد العلم
_________
(١) انظر (تذكرة الحفاظ ١/ ٥، تقييد العلم ٥٠، وجامع بيان العلم ١/ ٦٤).
(٢) تقييد العلم ١٠٣، وجامع بيان العلم وفضله ١/ ٧٢.
(٣) تقييد العلم ٩٩، وجامع بيان العلم وفضله ١/ ٧٣.
(٤) المحدث الفاصل ص ٣٧٥ رقم ٣٥٠، وتقييد ص ٩٩.
1 / 8
واعتمدوا قول من سمح به من الأصحاب آخرا، منهم أبو بكر وعمر وعلي ﵃ (١)، وعللوا الكراهة بأن لا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عنه بسواه (٢)، وقصة الخليفة عمر بن عبد العزيز ﵀ في الأمر بتدوين العلم مشهورة معلومة، ولا شك أنه استأنس برأي العلماء، وكان أول من حقق له هذه الغاية الإمام الزهري ﵀، وكان يفخر بذلك ويقول: لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني (٣)، وإن وجد للزهري من القول ما يضاد هذا مثل قوله: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق، ننكرها لا نعرفها، ما كتبت حديثا ولا أذنت في كتابته (٤)، فهذا يؤكد أن مبادرة الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى الأمر بكتابة السنة وتدوين ما تفرق بصورة أوسع مما كان في بعض الصحف (٥)، وموافقة العلماء من أمثال الإمام الزهري
_________
(١) انظر (المحدث الفصل ص ٣٦٣ - ٤٠٠، والمستدرك ١/ ١٠٦، وجامع بيان العلم وفضله ١/ ٧٢، وتقييد العلم ٩٠).
(٢) تقييد العلم ٥٧ ..
(٣) الرسالة المستطرفة ٤.
(٤) المحدث الفصل ص ٣٧٣ رقم ٣٤٦، وتقييد العلم ١٠٨.
(٥) بدأت كتابة الحديث في عهد رسول الله ﷺ درن شك، فهذا أبو هريرة ﵁ يقول: (ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمر، فإنه كان يكتب ولا أكتب) أخرجه البخاري في (ص ٣٠) كتاب العلم، باب (٣٩) حديث (١١٣) وليس بخاف على أهل العلم أمر الصحف المكتوبة في عهده ﷺ، كصحيفة أبي بكر، وعلي له صحيفة، وصحيفة عمرو بن العاص وغيرهم ﵃، وقد صنف الحافظ الخطيب البغدادي كتابه (تقييد العلم) استوعب فيه كافة الروايات المانعة والمجيزة، وذكر الجمع بينها بعدة أوجه، ويترحج الجواز على المنع لقوة أدلته، (بين هذا الأخ الزميل أ. د محمد بن مطر الزهراني في كتابه (تدوين السنة ٦٥ - ٨٦).
1 / 9
على رأيه كان خوفا من دروس (١) العلم وذهاب أهله، وأن يدخل في سنة رسول الله ﷺ ما ليس منها، وهو ما تنبه له الزهري من تلك الأحاديث الآتية من قبل المشرق، ونجزم أن بداية جدية التفكير في تدوين السنة وتصنيف علومها كانت في عهد التابعين من أيام الزهري وأقرانه، لكنها بالنسبة لقواعد علوم الحديث لم تتجاوز نقل أقوال مبثوثة (٢)، أثرت عن الأصحاب والأئمة من التابعين، وهي لا تمثل مادة علمية كاملة لقواعد مصطلح الحديث، سوى أنها فتحت الباب على مصراعيه للبحث والنظر في هذا الموضوع الخطير.
٣ - مرحلة التصنيف في بعض فوائد علوم الحديث:
هذه المرحلة تقدر بما يقارب (١٥٠) سنة من بداية القرن الثالث إلى منتصف الرابع تميزت هذه الفترة عن سابقتها بإبراز بعض قواعد علوم الحديث في مصنفات مستقلة، مثل كتاب العلل لابن المديني، ومعظم المادة العلمية في هذه المرحلة إما قواعد مستقلة في كتب متفرقة، كما في الرسالة والأم للإمام الشافعي، أو مبثوثة في مصنفات الحديث على اختلاف طرائقها في التصنيف، كما في مصنفات الإمام البخاري، ومقدمة صحيح مسلم، وما كتبه الترمذي من العلل، وما نقل عن الإمام أحمد، وعن أبي داود وغيرهم، يقول الإمام مسلم رحمة الله علينا وعليه: وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا،
_________
(١) أي يضيع ويمحى. انظر (لسان العرب ٦/ ٧٩) ..
(٢) انظر (صحيح البخاري ص ٢٧) كتاب العلم، باب (٣٤).
1 / 10
لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار بأمر الدين إنما تأتي بالتحليل أو التحريم، أو أمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته، كان آثما بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها. . . (١).
٤ - مرحلة النضج:
هذه المرحلة هي مرحلة النضج والاستواء، مرحلة كد العلماء فيها أذهانهم، فأنتجوا علم مصطلح الحديث، وجعلوه علما قائما بذاته، يرتكز على منهج دقيق منضبط، دونت فيه قواعد مصطلح الحديث في مصنفات مستقلة، بعضها لم يستوعب، لكنه حصل بالتكامل بينها، فأصبح الباحث يجد مطلبه في أي باب من أبواب هذا العلم الجليل، وكان أول من دون قواعد هذا العلم القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي ﵀ (٢)، في كتابه "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" أجاد ولم يستوعب، وتلاه أبو عبد الله الحاكم بكتابه "معرفة علوم الحديث" تعقبه أبو نعيم في كتابه "المستخرج على كتاب الحاكم" ثم الخطيب
_________
(١) بعض قوله رحمة الله علينا وعليه في (مقدمة الصحيح ١/ ٢٨).
(٢) طلب العلم وهو حدث، وساد أصحاب الحديث، وكتابه المذكور ينبئ بإمامته، وكان أحد الأثبات، عاش إلى قريب الستين وثلاثمائة من الهجرة (السير ١٦/ ٧٣)
1 / 11
البغدادي في كتبه الكثيرة (١)، وقد أفرد كل فن من فنون الحديث بمؤلف في الغالب، ومن هنا كان كل من جاء بعده من العلماء في هذا العلم عالة على مصنفات الخطيب، ولم ينشط البحث عن الفوائد والنكت في هذا العلم إلا بعد أن أخرج أبو عمرو بن الصلاح كتابه المشهور بمقدمة ابن الصلاح، فإنه اعتنى بمؤلفات من سبقه فجمع شتات مقاصدها، وأضاف إليها من الفوائد الكثيرة ما جعل كتابه بحق أحسن ما كتب في هذا العلم، فاق من سبقه وبقي من بعده مشتغلا بكتابه هذا، ما بين دارس ومدرس وشارح (٢) وناظم ومنكت (٣) ومختصر قال الحافظ ابن حجر: "فلا يحصى كم ناظم له (٤)
_________
(١) منها الكفاية في معرفة الرواية، والسابق واللاحق، المكمل في بيان المهمل، غنية المقتبس في تمييز الملتبس، قال الذهبي: للخطيب سنة وخمسون مؤلفا، زاد عليها في التذكرة (٣/ ١١٣٩) وذكر أن ابن النجار زاد على ذلك في معجمه (السير ١٨/ ٢٨٩) وذكر ابن خلكان أنه صنف قريبا من مائة مصنف، أحصاها يوسف العش فبلغت واحدا وسبعين (الخطيب البغدادي ص ١٢٠) وشيخنا أكرم العمري بلغت في حصره ستة وثمانين مصنفا (موارد الخطيبص ٥٥) ..
(٢) مثل عمل زين الدين العراقي في كتابه التقييد والإيضاح، وبعده السيوطي في كتابه تدريب الراوي، فإنه كثيرا ما يكمل عبارة ابن الصلاح وهو الكتاب الذي وضعه على تقريب النووي.
(٣) منهم بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، وابن حجر.
(٤) منهم زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، نظم فيه ألفيته المشهورة، وزاد عليه فوائد لا يستغني عنها طالب العلم، أشار إلى هذا فقال:
لخصت فيها ابن الصلاح أجمعه *** وزدتها علما تراه موضعه
1 / 12
ومختصر (١)، ومستدرك عليه ومعارض له (٢) ومنتصر" (٣) ونرى أن مراحل التدوين والتدقيق والتحقيق أربع أيضا:
الأولى: بدأت بكتاب الرامهرمزي، فقد حاز السبق في تدوين أبواب من هذا العلم.
والثانية: بدأت بمؤلفات الخطيب البغدادي، فكل من جاء بعده صار عالة على مصنفاته في هذا العلم.
والثالثة: بدأت بكتابة أبي عمرو بن الصلاح، فقد لاقى قبولا كبيرا عند العلماء، فتنافسوا في الاشتغال به على ما تقدم بيانه.
والرابعة: بدأت بكتابة ابن حجر، فقد استفاد منها من أتى بعده من العلماء، فإنه دقيق الملاحظة واسع العلم حسن التنظيم، اشتغل العلماء بمؤلفه النفيس "نخبة الفكر" فمنهم الشارح له والناظم، ولا أنفس من شرحه هو لها المسمى "نزهة النظر" وصدق الحافظ العراقي رحمة الله علينا وعليه إذ قال: وبعد فعلم الحديث خطير وضعه، كثير نفعه، وبه يعرف الحلال والحرام، ولأهله اصطلاح لا بد للطالب من فهمه (٤).
_________
(١) منهم ابن دقيق العيد، ومن بعده الذهبي، وفاقهما الحافظ ابن حجر فقد أخرج مختصرا هو الأجود تدقيقا وتحقيقا، سماه (نخبة الفكر).
(٢) منهم ابن حجر نفسه لم يناسبه ترتيب ابن الصلاح فقال: لم يحصل ترتيبه على الوضع المناسب (نزهة النظر ص ١٧) وانظر (توجيه النظر ١/ ٣٦٤).
(٣) نزهة النظرص ١٧.
(٤) التبصرة والتذكرة ٢ - ٣.
1 / 13
وقد وقفت على أبيات معدودة بعشرين بيتا، نظمت من قبل أحمد بن فرح الإشبيلي، نظمها بأسلوب مشوق لحفظها، ميسر بعد توفيق الله أمرها، ضمنها (٢٨) ثمانية وعشرين نوعا من أنواع مصطلح الحديث، عني بها بعده جمع من العلماء، من حيث الحفظ والفهم والشرح، وقد شرحت من قبل بعض العلماء باختصار فيما يخص مصطلح الحديث، وتضمن الشرح الجانب الأدبي والبلاغي، وبيان ما فيها من المحسنات اللفظية، فشدتني الرغبة في شرح ما ضمت من أنواع مصطلح الحديث، شرحا فيه إضافة مفيدة، معرضا عما اعتنى به الشراح مما يتعلق بالحب والغرام، وما يتعلق بجانب المحسنات اللفظية، والعبارات الأدبية، وقد بدأته بهذه المقدمة، مضفيا زيادة بيان لم تكن فيما أذكر من الشروح التي وقفت عليها، ومضيفا ترجمة وافية للناظم في (١٤) أربعة عشرمبحثا، تلا ذلك إثبات نسبة المنظومة، كل ذلك وفق منهج علمي حديث، رجاء أن يكون هذا الجهد تبصرة للمبتدي وتذكرة للمنتهي، سائلا الله ﷿ أن يجعله عملا متقبلا، ولا يحرمنا أجره إلى يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين.
الشارح
1 / 14
ترجمة الناظم
نسبه:
شهاب الدين أبو العباس، أحمد بن فرح (١) بن أحمد، اللخمي الإشبيلي الشافعي، نزيل دمشق (٢).
نسبته:
اللخمي: نسبة إلى لخم قبيلة من اليمن نزلت الشام (٣)، الإشبيلي: نسبة إلى إلى اشبيلية، بلدة من بلاد الأندلس، تقع على نهر وادي الكبير، قريبة من البحر يطل عليها جبل الشرف، وقد كانت قاعدة ملك الأندلس، وبها كان بنوا عباد (٤)، الشافعي: نسبة إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي، نسبة إلى المذهب الفقهي.
مولده:
ولد بإشبيلية إحدى مدن الأندلس الإسلامية، سنة (٦٢٤) أربع وعشرين وستمائة من الهجرة، وقال ابن كثير سنة (٦٢٥) (٥).
_________
(١) بفاء وراء ساكنة ثم حاء مهملة، انظر (طبقات الشافعية ٨/ ٢٦، ونفح الطيب ٢/ ٥٣١).
(٢) انظر (تذكرة الحفاظ ١٤٨٦، ومعجم الشيوخ ١/ ٨٦، وطبقات السبكي ٨/ ٢٦) وانظر [أعيان العصر للصفدي، خ ورقة ١٥٠ / أ، والوافي بالوفيات ٧/ ١٣٨، والشذرات ٥/ ٤٤٣].
(٣) الأنساب ١١/ ١٨.
(٤) الأنساب ١/ ٢٦٤، ومعجم البلدان ١/ ١٩٥.
(٥) انظر المصادر السابقة، وطبقات الفقهاء الشا فعية ٢/ ٩٤٠.
1 / 15
نشأته:
نشأ بمسقط رأسه إلى أن أسره الفرنج (الإسبان) سنة (٦٤٦) ست وأربعين وستمائة من الهجرة (١)، ولم نقف على مزيد من المعلومات في هذا الجانب.
أول سماعه:
الذي يظهر والله أعلم أن أول سماع ابن فرح العلم كان سنة بضع وخمسين وستمائة من الهجرة، بعد نجاته من الأسر، في أول رحلة له إلى مصر، حيث تفقه على العز بن عبد السلام وغيره (٢).
رحلاته:
بعد أن تخلص من الأسر، ورد الديار المصرية، سنة بضع وخمسين وستمائة من الهجرة، وهي أول رحلة له، فسمع من شيخ الشيوخ في مصر شرف الدين عبد العزيز الأنصاري الحموي، ومن الإمام عز الدين بن عبد السلام وطبقتهما، ورحل إلى دمشق، ونزل بالشامية البرانية، أكبر المدارس وأعظمها، وأكثرها فقهاء وأكثرها أوقافا (٣)، وسمع من أحمد بن عبد الدائم، وعمر الكرماني، وفراس العسقلاني، ووإبراهيم بن إسماعيل بن أبي اليسر، وخلق سواهم، واعتنى بالحديث، وأتقن ألفاظه ومعانيه حتى صار من الأئمة فيه، ورحل إلى مكة لأداء فريضة الحج (٤).
_________
(١) طبقات الفقهاء الشافعية ٢/ ٩٤١.
(٢) انظر (طبقات الفقهاء الشافية ٢/ ٩٤٠).
(٣) طبقات الفقهاء الشافعية ٢٩٤٠، والدارس في تاريخ المدارس ١/ ٢٧٧.
(٤) انظر (التذكرة ١٤٨٦، وطبقات الفقهاء الشافعية ٢/ ٩٤٠).
1 / 16
أشهر شيوخه:
شرف الدين عبد العزيز الأنصاري الحموي، والإمام عز الدين بن عبد السلام، سمع منهما بمصر، وسمع من معين الدين أجمد بن زين الدين، وإسماعيل بن عزوز، والنجيب بن الصيقل، ومكي بن المسلم بن علان، وأحمد بن عبد الدائم وخلق (١).
أشهر تلاميذه:
الحافظ الذهبي فقد صرح في التذكرة أنه من شيوخه فقال: شيخنا الإمام العالم الحافظ شيخ المحدثين، وروى عنه قول علي بن أبي طالب ﵁: "لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله ﷺ وإذا حدثتكم فيما بيننا فإن الحرب خدعة" (٢) ونقل السبكي عن شيخه الذهبي قوله: أخذت عنه ونعم الشيخ (٣)، والحافظان: شرف الدين أحمد بن محمد الدمياطي، وعيسى بن أحمد اليونيني، وقد سمعا عليه منظومته هذه، وسمع منه البرزالي، وعثمان بن بلبان المقاتلي، وأبو محمد بن أبي الوليد (٤).
ما وقع له من البلاء:
لقد كانت حروب التتار في المشرق، والفرنج في المغرب بلاء عظيما على المسلمين، نالهم فيها من الذل والهوان، ما الله به عليم، ويشبهه ما يقع للمسلمين اليوم في كثير من البلدان، قال الذهبي تلميذ الناظم: بقي في أسر
_________
(١) المصادر السابقة، ونفح الطيب (٢/ ٥٢٩).
(٢) انظر (تذكرة الحفاظ ١٤٨٦، ومعجم الشوخ ١/ ٨٧).
(٣) انظر (التذكرة ١٤٨٦، والطبقات ٨/ ٢٦ - ٢٧).
(٤) طبقات الفقهاء الشافعية ٢/ ٩٤٠، ونفح الطيب ٢/ ٥٢٩.
1 / 17
الفرنج مدة ثم خلصه الله (١)، وقد جاء ما يفيد بأن مقدار هذه المدة بضع عشرة سنة، إذ وقع في الأسر سنة (٦٤٦) ست وأربعين وستمائة من الهجرة، إلى بضع وخمسين وستمائة، فيكون مكثه في الأسر على أقل تقدير (٨) ثمان سنوات، وقد أسر في بلده وعمره (١٧) سبع عشرة سنه (٢).
ثناء العلماء عليه:
يقول تلميذه الحافظ الذهبي: شيخنا الإمام العالم، الحافظ الزاهد، شيخ المحدثين، كان إماما متقنا، عارفا الفقه كثير الإفادة، عني بهذا، على هذا الشأن، ثم أقبل على تقييد الألفاظ، وفهم المتون ومذاهب العلماء، وكانت له حلقة إقراء للحديث وفنونه، حضرت مجالسه، نعم الشيخ كان، علما وفضلا ووقارا، واستحضارا وثقة وصدقا وتعففا وقصدا، له أشغال بجامع دمشق يقرئ الفقه والحديث (٣)، ووصفه تلميذ تلميذه أبو نصر عبد الوهاب السبكي بالإمامة والحفظ والزهد، وكان من كبار أئمة هذا الشأن، وممن يجري فيه وهو طلق اللسان (٤).
صفاته:
يقول الذهبي: كان مهيبا مديد القامة، متزهدا عابدا صالحا، حسن
_________
(١) معجم الشيوخ ١/ ٨٧، وانظر (طبقات السبكي ٨/ ٢٦)
(٢) انظر (طبقات الفقهاء الشافعية ٢/ ٩٤٠).
(٣) انظر (التذكرة ١٤٨٦، ومعجم الشيوخ ١/ ٨٧، والعبر ٣/ ٣٩٦، وطبقات الفقهاء الشافعية ٢/ ٩٤٠).
(٤) الطبقات ٨/ ٢٧، ونفح الطيب ٢/ ٥٢٩.
1 / 18
السمت يلبس زي الصوفية، وكان فيه ديانة وورع وصيانة (١).
عقيدته:
لم نقف على ما يثلب عقيدته ﵀ وقد أثنى عليه الحافظ الذهبي وهو تلميذه ومن أعرف الناس به، ولو ظهر له ما يقدح في عقيدته لذكره وما سكت عنه، بل ولا أخذ عنه، وأثنى عليه الحافظ ابن كثير رحمة الله علينا وعليه، فهو محمول على السلامة في ذلك، وما ذكر عنه من التزي بزي الصوفية يحمل على السلامة من الغلو ما لم يثبت خلاف ذلك.
ثقافته:
نال الإمامة في الحديث، إذ شهد له بهذا أئمة معتبرون، وقد عرضت عليه مشيخة دار النورية، وعده الحافظ ابن كثير في طبقات الفقهاء من الشافعية كل هذا، مع ما ذكر العلماء من أوصافه والثناء عليه، ينبئ عن ثقافة له واسعة في علوم شتى منها - على وجه الوثوق ـ: السنة وعلومها، والفقه وأصوله، واللغة وعلومها، وقد بان ذلك بجلاء في منظومته البديعة السبك في اللفظ والمعنى (٢).
مكانته الاجتماعية:
إن من تعرض عليه رئاسة دور العلم، ويوصف بالإمامة والحفظ والعبادة والزهد والورع، ويكون الواصفون له أئمة عاصروه وعرفوا أمره لحري أن
_________
(١) معجم الشيوخ ١/ ٨٧، وقارن بما في التذكرة ١٤٨٦، والعبر ٣/ ٣٩٦، وطبقات الفقهاء الشافعية ٢/ ٩٤٠، ونح الطيب ٢/ ٥٢٩.
(٢) المصادر السابقة.
1 / 19
يشار إليه بالبنان، وأن يسير بعلمه الركبان، فضلا عن إحاطة مجتمعه بمكانته بينهم، فلم يكن شخصا عاديا بينهم، بل كان مشهورا بالعلم والدين والعبادة والورع، ومعلوم أن العلماء رؤوس الناس ومحط أنظارهم، فكيف بمن جلس لإقراء الحديث والفقه في جامع دمشق في أول النهار من كل يوم، وعرض عليه جهات (١) كثيرة فيعرض عنها، كما ذكر ابن كثير، وابن تغري بردي (٢).
مؤلفاته:
لم نقف على كم من مؤلفات هذا الإمام سوى هذا النظم (قصيدة في أصول الحديث)، وشرح الأربعين النووية، ومختصر خلافيات البيهقي (٣)، ويقول ابن كثير: له كتابة لكتب كبيرة وصغار، وله شعر جيد من ذلك: قصيدة نحو عشرين بيتا في أنواع الحديث (٤).
وفاته:
قال الحافظ الذهبي: انتقل إلى رحمة الله تعالى، حميدا مفيدا بمنزله في تربة أم الصالح مبطونا، في (٩/ ٦/٦٩٩) ليلة الأربعاء التاسع من جمادى الآخرة، سنة تسع وتسعين وستمائة من الهجرة (٥).
_________
(١) (أي مناصب في جهات مرموقة كالقضاء، واليوان ونحو ذلك.
(٢) طبقات الفقهاء الشافعية ٢/ ٩٤٠ والنجوم الزاهرة ٨/ ١٩١.
(٣) انظر (كشف الظنون ٥٩، ١٣٢٩، والرسالة المستطرفة ١٦٢).
(٤) طبقات الفقهاء الشافعية ٢/ ٩٤٠
(٥) التذكرة ١٤٨٦، وطبقات الفقهاء الشافعية ٢/ ٩٤١.
1 / 20
إثبات نسبة المنظومة
ما من شك في نسبة هذه المنظومة اللطيفة، المؤثرة البليغة إلى قائلها الإمام ابن فرح الإشبيلي ﵀، وذلك للنقول التالية: قال السبكي (ت ٧٢٧ هـ) وهو تلميذ تلميذ الناظم بعد أن ترجم له وأورد القصيدة: وهذه القصيدة بليغة، جامعة لغالب أنواع الحديث (١) قال الحافظ ابن كثير:
(ت ٧٧٤ هـ): له شعر جيد من ذلك: قصيدة نحو عشرين بيتا في أنواع الحديث، ونقل ابن العماد قول ابن ناصر الدين محمد بن أبي بكر (ت ٨٤٢ هـ) في التبيان (٢): ومن نظمه الرائق قصيدته التي أولها:
غرامي صحيح والرجا فيك معضل، وقد حفظها جماعة، وعلى فهمها عولوا، وذكر منها أبياتا (٣) قال: وقد أنشدني القصيدة أحد الوعاظ، وأعجبت بما فيها من تورية الألفاظ، فرأيتها حينئذ قاصرة، ونظم على غرارها قصيدة استدرك فيها أنواعا لم تذكر فيها، وسماها "عقود الدرر في علوم الأثر" (٤) وذكر أن ابن جماعة نظم على غرارها أيضا، قال الحافظ ابن حجر: (ت ٨٥٢ هـ) في معرض كلامه عن محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز ابن جماعة الحموي: ونظم قصيدة على طريقة ابن فرح أودعها
_________
(١) الطبقات ٨/ ٢٧ - ٢٩.
(٢) مخطوط.
(٣) الشذرات ٥/ ٤٤٣.
(٤) طبعت بشرح مختصر سنة ١٤١٥ هـ.
1 / 21
علوم الحديث (١) وفي هذا نظر، لأنه شرح قصيدة ابن فرح، وليست له قدرة على محاكاة قصيدة ابن فرح لقول السخاوي (ت ٩٠٢ هـ): لم يرزق ملكة في الاختصار، ولا سعادة في حسن التصنيف، وكذا كان ينظم شعرا عجيبا، غالبه غير موزون، ولذا كان يخفيه كثيرا إلا عمن يختص به ممن لا يدري الوزن (٢)، وعن ابن فرح يقول يوسف بن تغري بردي: هو صاحب القصيدة المشتملة على صفات الحديث، ثم أورد منها ثمانية أبيات وقال: وهي أطول من ذلك (٣) وهذه المنظومة لاقت استحسان العلماء وعنايتهم، فتناول شرحها عدد كبير من العلماء من أقدمهم: محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة (٤)، نص عليه السخاوي في ترجمته، وعنوانه "زوال القرح بشرح منظومة ابن فرح" (٥)، وقاسم بن قطلو بغا
_________
(١) المجمع المؤسس ٣/ ٢٩٤.
(٢) الضوء اللامع ٧/ ١٧٢ - ١٧٣.
(٣) النجوم الزاهرة ٨/ ١٩١.
(٤) ولد في ينبع المدينة المعروفة اليوم سنة (٧٤٩) تسع وأربعين وسبعمائة من الهجرة، وصف بالإمام العلامة الفهامة الفريد الأصيل، مات بالطاعون سنة (٨١٩) تسع عشرة وثمانمائة من الهجرة، واشتد أسف الناس عليه، ترجمته في (إناء الغمر ٧/ ٢٤٠، والضوء اللامع ٧/ ١٧١ - ١٧٤، والنجوم الزاهرة ١٤/ ١٤٣ - ١٤٤).
(٥) صور مخطوطة شرحه في مركز خدمة السنة والسيرة النبوية عن نسخة مكتبة ابن أبي العباس المرسي بالإسكندرية، وعد في (الفهرس الشامل ٢/ ٨٧٨ - ٨٨٠) من نسخه الخطية (٧٣) ثلاثا وسبعين نسخة، مبينا أماكن وجودها.
1 / 22