ومن الوطنيين المعتدلين «جوكيل» الذي مات سنة 1915، فإنه كان يدعو إلى الحكم الذاتي مع البقاء في دائرة الإمبراطورية، ولذلك لم يتعرض للحبس أو النفي كما تعرض لهما سائر الوطنيين.
ولا يمكن أن ينسى اسم «محمد علي» عند ذكر خلاصة موجزة عن الحركة الهندية، فإنه خدم الحركة في إخلاص وأمانة وكان على الدوام يساعد غاندي ويدعو للاستقلال. ولكن أخاه «شوكت علي» انفصل بعد وفاة أخيه من الحركة وأخذ يدعو لاستقلال المسلمين وانفصالهم عن الهندوكيين، مع أن هذا الرجل أعرف الوطنيين الهنود بفائدة الاتحاد بين المسلمين والأقباط في مصر. وقد زار مصر مرات ورأى بعينيه قيمة هذا الاتحاد.
وقد بقيت الحركة الهندية، وهي لا تلفت الأنظار في العالم المتمدن إلا قليلا، إلى أن سطع فيها غاندي. فإنه أكسبها من المبادئ، وعين لها من الخطط، ما جعل العالم يلتفت إليه نبيا قبل أن يرى فيه وطنيا! ولكن أعظم ما خدم الحركة الوطنية هو «فضيحة أمريتسار» التي جن فيها الجنرال داير الإنجليزي فجمع الهنود في ميدان ثم أطلق عليهم النار، فقتلهم قتلا ذريعا. ثم أمر جميع من يمر فيه من الهنود بأن يزحف على ركبتيه. وكل هذا لأن بعض السكان في هذه المدينة قتلوا بعض النساء الإنجليزيات. وكانت هذه الحادثة في الهند بمثابة دنشواي في مصر، إذ انعقدت القلوب على كراهة الإنجليز من ذلك الوقت.
وزاد في الكراهة أن الحكومة الإنجليزية حين عاقبت هذا الجنرال أبى الإنجليز المقيمون في الهند إلا تكريمه، فأهدوا إليه سيفا من الذهب، فكان هذا التحدي الوقح للأمة الهندية سبيلا إلى اتحادها وإلحاحها في الاستقلال.
الفصل الخامس
الثقافة الإنجليزية في الهند
إذ كان الإنجليز قد نكبوا الهنود بالاستعمار فإنهم قد أسدوا إليهم أعظم الفضل بتعليمهم اللغة الإنجليزية التي فتحت لهم باب الثقافة الإنجليزية الواسع. وهذه الثقافة هي العلاج الحقيقي للاستعمار، لأنها تحتوي على بذرة الحرية التي لا يمكن الاستعمار أن يقتلها. ويمكن الناقد المنصف أن يقول (بعد أن يعدد المظالم الكثيرة التي أوقعها الاستعمار البريطاني بالهند) إن النهضة الهندية الحاضرة إنما تعزى إلى هذه الثقافة الإنجليزية العجيبة، وإن غاندي هو ثمرة هذه الثقافة التي لا يستطيع بها إلا أن يثور في وجه الظلم.
لما وصل الإنجليز إلى الهند كان الهنود - وخاصة الهندوكيين - في ظلام دامس، قد تحجرت تقاليدهم. يقتلون أراملهم ويخضعون لبراهمتهم وراجواتهم، لا يدرسون غير السخف الذي تراكم من العقائد الهندوكية. وكانت البوذية قد انمحت من الهند وطوردت إلى الحدود. وبقيت الحال على ذلك بعد استعمار الإنجليز للهند مدة طويلة إلى أن تعين الأديب الكبير «ماكولي» مستشارا للمجلس الأعلى في الهند سنة 1834، وهناك نسي هذا الأديب مصلحة الاستعمار وآثر عليها مصالح الذهن، فقرر أن يعلم الهنود تعليما عاليا باللغة الإنجليزية. ومن هذا الوقت انفتح أمام الهنود باب المدنية الغربية، وظهرت عندهم الدعوة إلى الحرية والمساواة وغرس الوطنية الهندية الذي يتعهده الآن تاجوري وغاندي ونهرو وغيرهم.
ونستطيع أن نجزم أنه لولا هذه الثقافة الإنجليزية لما ظهرت الدعوة إلى الحرية في الهند، ولما تجرأ رجل مثل غاندي على أن يقول بمساواة المنبوذين بسائر الهندوكيين. ولو كان الهنود يقتصرون في ثقافتهم على الآداب الشرقية لبقوا إلى الآن في خضوع أعمى لولاتهم الإنجليز، كما يخضعون لراجواتهم الهنود وبراهمتهم، ولعدوا أنفسهم منبوذين أمام الحاكم الإنجليزي كما يعد الأنجاس أنفسهم منبوذين أمام سائر الهنودوكيين.
ويجب ألا ننسى أن أنظمة الحكم الدستوري في العالم كله هي إحدى ثمرات الثقافة الإنجليزية، لأن الإنجليز هم الذين قرروا حق الشعب في أن يحكم نفسه. والتقاليد الدستورية هي جميعها تقاليد إنجليزية، وليس هناك ما يعيب الأمم التي نكبت بالاستعمار البريطاني أن تعترف لهذه الثقافة الإنجليزية بهذا الفضل.
अज्ञात पृष्ठ