كان البواب جالسا على دكته في الشمس حين وصلت إلى العمارة، وانتصب واقفا حين رآها وجرى نحوها وهو يمد يده السوداء تمسك بورقة بيضاء صغيرة وفتحت الورقة وقرأت: سأمر في السادسة مساء اليوم لأمر هام، الساعاتي. ودخلت المصعد بينما كانت أصابعها تعبث بالورقة وتمزقها بغير وعي إلى قطع صغيرة جدا، وتلقي بها من خلال جدار المصعد الحديدي.
سيمر في السادسة مساء، ولأمر هام ... ماذا يمكن أن يكون الأمر الهام؟ ماذا يمكن أن يكون هاما في نظرها ؟ موضوع البحث؟ مكان فريد؟ سقوط مبنى الوزارة؟ هذه هي حياتها، لا شيء هاما خارجها، ولكن الساعاتي، لا يعرف شيئا عن البحث أو فريد أو الوزارة، فما الذي يمكن أن يكون هاما في زيارته؟
ودخلت المعمل، وارتدت الفوطة البيضاء، ورصت زجاجات الأملاح والأحماض فوق المنضدة، وأشعلت الموقد، وضغطت على الماسك المعدني لتمسك أنبوبة الاختبار، لكنها لم تمسكها، وتركتها في الحامل الخشبي، منتصبة، تفتح فوهتها الفارغة للهواء.
وظلت تحملق في الأنبوبة الفارغة لحظات، ثم جلست وأمسكت رأسها بيديها، من أين تبدأ، إنها لا تعرف! لا تعرف، الكيمياء تبخرت من عقلها، الأفكار الكثيرة كانت تتزاحم في رأسها وهي تقرأ، أو وهي تجري التجارب في معمل الكلية، أو وهي سائرة في الشارع أو نائمة، كل تلك الأفكار أين راحت؛ كانت في رأسها! نعم كانت موجودة، وكانت تحس حركتها وتسمع أصواتها، وحوار طويل كان يدور بينهما، وينتهي بنتائج تندهش لها.
كثيرا ما وصلت إلى فكرة جديدة، كادت تجن لها فرحا. نعم؛ كادت تجن، وتتلفت حولها في دهشة، وترى الناس تسير وكأنها كائنات من غير نوعها، وهي! هي شيء آخر! في رأسها شيء ليس في رأس أحد، شيء سيبهر العلماء، شيء يمكن أن يغير العالم. وتكاد تدهمها عربة أو أتوبيس فتصعد إلى الرصيف في خوف، وتمشي بجوار الحائط في حذر. حياتها يمكن أن تضيع تحت أي عجلات وتضيع معها الفكرة الجديدة إلى الأبد. وتسرع الخطى، إنها تريد أن تبلغ الفكرة إلى العالم قبل أن يحدث لها شيء، وتكاد تجري؛ بل إنها تجري فعلا، وتلهث ثم تتوقف وتتلفت حولها. إلى أين، إلى أين هي تجري؟ وتكتشف فجأة أنها لا تعرف! لا تعرف!
وأطفأت الموقد، وخلعت الفوطة البيضاء، وخرجت إلى الشارع، حركة الذراعين والساقين تريحها، تخفف من الضغط داخل رأسها، تنفس عن تلك الطاقة الحبيسة في أعماقها، ولمحت تليفونا داخل محل، فتوقفت فجأة، لماذا لا توضع التليفونات في أماكن خفية؟ لماذا يعرضونها هكذا أمام عيون الناس؟ لو لم تر هذا التليفون لما تذكرت. ومدت يدها ورفعت السماعة، ووضعت أصبعها في الثقب وأدارت القرص الخمس الدورات. ودوى الجرس في أذنها حادا عاليا لا ينقطع، ووضعت السماعة بهدوء وسارت بضع خطوات ثم وقفت فجأة وهي تقول لنفسها: أهو فريد؟ أغياب فريد هو السبب؟ لماذا أصبح كل شيء متغيرا؟ لماذا أصبح كل شيء غير محتمل؟ كان فريد موجودا وكانت حياتها هي حياتها، ولكن فريد كان يجعل كل شيء محتملا. كانت تنظر في عينيه البنيتين اللامعتين فتحس أن كل شيء في الدنيا لم تعد له قيمة؛ الوزارة تصبح مبنى صغيرا مهجورا، والبحث يصبح وهما صغيرا من أوهام الفراغ، والاكتشاف؛ نعم الاكتشاف أيضا يصبح حلما باهتا من أحلام الطفولة.
كان فريد يمتص آلامها وأحلامها وتصبح معه بغير آلام وبغير أحلام، تصبح معه فؤادة أخرى غير التي ولدتها أمها، فؤادة بغير ماض أو مستقبل، فؤادة التي تعيش لحظتها ويصبح هو كل لحظتها.
كيف أصبح كل لحظتها؟ كيف أصبح رجل كل حياتها؟ كيف ابتلع شخص كل اهتمامها؟ إنها لم تعرف كيف حدث هذا، فهي ليست امرأة من ذلك النوع؛ الذي يهب حياته لأحد. إن حياتها أكبر من أن توهب لرجل واحد وحياتها فوق ذلك ليست ملكا لها، إنها ملك العالم الذي تريد أن تغيره.
وتلفتت حولها في قلق، حياتها ملك العالم الذي تريد أن تغيره، ورأت الناس تسير بسرعة، والعربات تنطلق مسرعة، وكل شيء في العالم يجري بغير توقف، هي فقط التي تقف. وقوفها لا يعني شيئا لتلك الحركة المسرعة المتدفقة. وماذا يعني وقوفها؟ ماذا تفعل قطرة في بحر؟ أهي قطرة في بحر؟ أهي قطرة؟ نعم؛ هي قطرة، وها هو البحر من حولها تتلاطم أمواجه وتتصارع وتتسابق، أيمكن للقطرة أن تغلب الموج؟ أيمكن لقطرة أن تغير البحر؟ لماذا عاشت هذا الوهم؟
وابتلعت لعابا مرا، وانكمشت داخل معطفها، وسارت ساهمة مطرقة حتى وصلت إلى بيتها، فدخلت وألقت نفسها فوق السرير بملابسها. •••
अज्ञात पृष्ठ