اشتعلت الثورة بالقاهرة وتقدم محمود الثوار، فأخذوا سمتهم إلى مخافر الجنود الفرنسية فقبضوا عليهم، وازدحمت بالناس شوارع الموسكي والغورية والنحاسين وغيرها، وجاء الجنرال «ديبوي» حاكم القاهرة ليصد الثوار مع طائفة من فرسانه، فأطبقوا عليه، وأصابه أحدهم بطعنة من رمحه فخر صريعا مجدلا، فزادت بذلك حميتهم، وتكاثر عددهم بمن انضم إليهم من أرباض القاهرة، واستولوا على المواقع الحصينة: كباب الفتوح، وباب النصر، والبرقية، وباب زويلة، وباب الشعرية وأخذوا يحفرون الخنادق وينشئون الحصون، ويطلقون منها النار على الفرنسيين.
وأدرك الفرنسيون الخطر المحدق بهم، فجمعوا جموعهم وعزموا على استئصال الثورة بالحديد والنار، وقضى أهل القاهرة الليل في تأهب وإصرار، وكان محمود يمر على من بالخنادق والمتارس حافزا للعزائم، مثيرا للهمم، حتى إذا بزغت شمس اليوم الثاني كان الفرنسيون قد احتلوا جميع المرتفعات خارج المدينة، ونقلوا إليها مدافعهم وذخيرتهم، فأرسلوا منها القذائف متتالية مرهبة على نواحي الأزهر والصنادقية، والغورية والفحامين، حتى أوشك الأزهر أن يتداعى من شدة الضرب وأن يسقط على الجماهير الحاشدة به، وصارت الأحياء المجاورة صورة من الخراب والدمار، فتهدمت البيوت، ومات تحت أنقاضها آلاف من السكان البائسين، وطال الهول واشتد، وبددت قذائف المدافع قوة العزائم، ويئست الحماسة الوطنية من أن تقاوم جهنميات العلم الحديث، وعجز الإيمان الأعزل أن يقف أمام الطغيان المسلح، فسقط في أيدي المصريين ودارت عليهم الدائرة، واستشفعوا بالمشايخ عند نابليون أن يرفع عنهم سخطه وغضبه، ولكنه بعد أن أسكت عنهم أصوات المدافع أطلق جنوده تعيث في القاهرة كما تشاء، وتتحكم في الناس كما تشاء، فدخلوا الأزهر بخيولهم وعبثوا بما فيه من كتب وخزائن.
إن نابليون كسب المعركة وقضى على الثورة، ولكنه قضى معها على كل أمل له في اجتذاب المصريين، وعلى كل عاطفة تنبض بها قلوبهم.
وخرج محمود من الثورة كالسيف المحطم: تحطم جسمه، وتحطمت روحه، وتحطمت آماله، فأسرع إلى بيت ابن عمه يائسا حزينا، وانطلقت شياطين الجواسيس من عقالها تقبض على كل من كان له ضلع في الثورة، واعتنقت آلة الإعدام كل من حامت حوله شبهة فقضت عليه، ومل الفرنسيون تكلفهم المودة للمصريين فصارحوهم العداء ومشوا لهم الضراء، وعرف المصريون بعد هذه الكارثة أن الخطب والمؤامرات شيء، والسيف والمدفع شيء آخر.
وذهب نيكلسون إلى بيته يحمل لابنته لورا حوادث الثورة، وما رآه من جرأة محمود وبطولته، وقذفه بنفسه بين براثن الموت، ثم زفر وقال: لقد كان بطلا حقا، ولكن ماذا تفعل العصا أمام السيف الحسام؟ - لقد كنت أتوجس خيفة عليكما، وكلما سقطت القذائف من القلعة وقمم المقطم، كنت أدخل تحت السرير فأسجد وأصلي لكما، أهو بخير يا أبي؟ - بخير وعافية، ولكن شعوره بالهزيمة يكاد يقضي عليه. - هذه طبيعة الشرقيين، فمتى يعرفون أن الهزيمة دائما أول حافز إلى الظفر؟ أتصدق يا أبي أني مسرورة بنتائج هذه الثورة ، إنها لم تنجح في مرآى العين، ولكنني أعتقد أنها بلغت غاية النجاح، وأن الفرنسيين لن يتم لهم أمر بعدها في مصر؛ لأنك إذا وضعت هذه الثورة إلى جانب تحطيم نلسون لأسطولهم، رأيتهم في مصر كأنهم في بيت يحترق، وقد حرموا كل وسائل النجاة.
وتوالت الأيام، وخرج محمود من مخبئه، وأكثر من زيارة نيكلسون، ورأى من لورا عطفا سحريا شفى مريض نفسه، وبعث فيها أملا جديدا، فحديثها حلو، وخلقها كريم، ومعدنها ذهب نضار، ثم هو إذا رفع إليها عينه رأى الجمال الهادئ المطمئن، الذي لم يحاول مرة أن يكون جميلا فبز كل صنوف الجمال، كان ينصت إليها فيسمع أدبا وحكمة، ويتعلم كثيرا عن الدنيا وأحوالها، والدول وسياساتها، وكانت تنظر إليه نظرة حنانة حالمة، فتلتقي بها نظرته فيحس بأريحية يكاد ينتفض لها جسمه، سمه ميلا، أو سمه حبا أخويا، أو سمه ما شئت فإنه شيء لذيذ وكفى، أكثر محمود من زيارة لورا واصطحبها لزيارة زبيدة كثيرا، وكانت زبيدة تسر بلورا وتأنس بها، حتى لقد كانت تلزمها البقاء معها ببيت خالتها أياما.
وفي صبيحة يوم قدم السيد علي الحمامي من رشيد، وأخبر زبيدة بأن أمها في شوق إليها، وأنها مريضة منذ حين، وأنها ألحت عليه أن يسافر إلى القاهرة ليعود بها، فلم تجد زبيدة بدا من السفر، فنزلت في سفينة إلى رشيد، فودعها محمود العسال ولورا بين الزفرات والتنهدات، ومال محمود على أذنها، فأجابته في ضحكة متكلفة: لم يبق إلا القليل.
الفصل الثامن
جلس مينو في صدر إيوان بيته في رشيد تحفه تلك العظمة الحبيبة إلى نفسه، والأبهة التي تميل إليها غرائزه، والجنود والديدبانات الفرنسية تحيط بأسوار الدار شاكي السلاح، في أزهى ملابسهم وأروع ما به يظهرون، والخدم والأغوات يذهبون ويجيئون في اهتمام وخشية، يدلان على جلالة شأو المخدوم وشدة صرامته، واحتفاله بصغائر الأمور، جلس مينو في صدر الإيوان جلسة الأمير المدلل، الذي يشعر أن الدنيا في يده، والخلائق طوع أمره، والقضاء والقدر من جنده، وقد قوى عنده هذا الخيال ما كان يراه في حاشيته من رءوس خاضعة، وظهور منحنية، وتسليم وإعجاب بكل ما يقول، كأنه وحي من السماء، وكان في مجلسه ذلك اليوم الجنرال «مارمون» و«دينون» الأديب الكاتب الفرنسي، و«دولوميو» الرسام، وهما من أعضاء لجنة العلوم والفنون، والطبيب «شوفور».
بدأ مينو الحديث في شيء من التضجر والسأم عما يحيط برشيد من الثورات التي لا ينطفئ أوارها، ثم هز كتفيه وقال: عجيب أمر هذه الثورات، إنها مع حقارتها وهوان خطرها، تشغل منا وقتا كان أولى بنا أن نصرفه في عظائم الأمور.
अज्ञात पृष्ठ