فاستحسن يزيد الرأي، وعزم على أن يولي ابن زياد الكوفة والبصرة، فنادى الحاجب وسأله عن عبيد الله، فافتقده في القصر فلم يجده، فصبر يزيد حتى جاء به، ودخل وسلم، ثم دفع إليه كتاب عبد الله بن مسلم، ولم يقل شيئا.
فتناول ابن زياد الكتاب وقرأه حتى أتى على آخره وسكت مطرقا، ثم دفع إليه يزيد كتاب توليته الكوفة والبصرة، فلما قرأه قبله ووضعه على رأسه وقال: إني صنيعة أمير المؤمنين ويده التي يحارب بها وسهمه الذي يرمي به أعداءه.
فقال له: سر إلى الكوفة وأصلح أمورها، وامنع أولئك الناس منها، وكن لي كما كان أبوك لأبي.
فقال: سمعا وطاعة، وقد سره ذلك لتمكنه من الخروج من دمشق عاجلا، فيخلو له الجو لاسترضاء سلمى، وكان قد بعث بها خفية قبل الفجر إلى بيت منفرد في أطراف الغوطة كما تقدم، ثم سار هو في الصباح إليها وسقاها العقار الذي أعطاه إياه الطبيب وانزوى في مكان هناك لمراقبتها، فلما أفاقت ورأت النور ظلت برهة مبهوتة لا تدري ما تقول، وعبيد الله لا يخاطبها، وفي اعتقاده أنها إذا أفاقت ورأت نفسها حية تعترف له بالجميل، فلما أفاقت تبادر إلى ذهنها لأول وهلة أنها بعثت من الموت وأنها في العالم الثاني فصاحت: أين عبد الرحمن؟ أين هو؟ أروني إياه، هل أنا في النعيم؟ عبد الرحمن! عبد الرحمن!
فضحك عبيد الله، ولما سمعت ضحكته التفتت إليه وهي تفرك عينيها بأناملها، وحالما رأته صاحت: أنت هنا يا لئيم! إني إذن في الجحيم. اذهب من وجهي.
فدنا عبيد الله منها وأمسك بيدها وقال: أنت في هذه الدنيا يا حبيبتي، وقد استبقيتك شفقة عليك.
فجذبت يدها من يده وصاحت: اخسأ يا نذل، إني لا أريد الحياة إلا إذا كان عبد الرحمن فيها. اقتلني اقتلني. قتلك الله أشفق علي واقتلني.
فعذرها لتهيجها وقال لها: إني أعاملك بما تستحقينه لأنك جاهلة، وسأصبر عليك ريثما تملكين روعك، وأنت أسيرة بين يدي لا ينجيك من غضبي غير الرضا والإذعان، فامكثي هنا حتى ترجعي إلى رشدك أو تموتي. قال ذلك وتركها، وأمر الرجلين أن يحرساها ريثما يعود.
فلما رجع إلى دمشق وقدم له يزيد كتاب توليته الكوفة والبصرة كما قدمنا واستبشر بنيل مرامه على مهل، وعلل نفسه باسترضائها في أثناء الطريق إلى الكوفة. •••
قضى عبيد الله بضعة أيام يتأهب للمسير وأعوانه يهيئون الأحمال خارج دمشق، وفي جملتها هودج حمل سلمى فيه على جملين، وأقام عليها خادمين يحرسانها ويقدمان لها الطعام والماء، وكانت في بادئ الرأي لا تقبل طعاما ولا شرابا التماسا للموت جوعا وعطشا حتى نحل جسمها وامتقع لونها، ولكن الحياة عزيزة لا يتعمد المرء فقدها عن روية، ولكنه إذا أصيب بضنك شديد قد يؤثر الموت على الحياة في حال غضبه، فإذا طال اصطباره فإنه يحن إلى البقاء ويلتمس لحنينه عذرا يحبب الحياة إليه، فلما مضى على سلمى يومان بلا أكل ولا شرب ورأت الموت لا يتهيأ لها على هذا السبيل إلا بعد العذاب الطويل، عادت تلتمس البقاء وعذرها في التماسه أن تعمل على الانتقام من سبيل آخر لا خطر فيه على حياتها.
अज्ञात पृष्ठ