فارتاب عامر في أمر عودة يزيد، وهم بالاستفهام، فإذا بابن زياد يستأنف الحديث قائلا: وقد نجا أمير المؤمنين من خطر عظيم.
فلما سمع عامر قوله توسم الوصول إلى ما يتوقعه، لكنه خاف أن يكون ثمة ما يسيئه، فبدت البغتة على وجهه وتطاول بعنقه لسماع بقية الكلام.
فأتم عبيد الله حديث قائلا: وكانت نجاته من الخطر بسر عجيب يرجع الفضل فيه إلى كلبه وإلى رجل من خاصتنا.
فقال الرئيس: وكيف ذلك؟
قال: خرجنا من عندكم بالأمس، وبتنا في قرية على بضعة أميال من هذا الدير، فجاءني مساء أمس رجل أعرفه من أهل الكوفة، ونبهني إلى وجود غريب متنكر يعتزم الفتك بأمير المؤمنين في أثناء صيده، فشكرت مسعاه ووعدته خيرا على جميله، وأصبحنا وأنا لم أطلع الخليفة على ذلك لئلا أزعجه، فخرجنا إلى الصيد وكلما أراد الخليفة الانفراد في الغوطة لحقت به مخافة أن يكون ذلك المتنكر متربصا في بعض الأماكن، وأوصيت جماعة من رجالنا الأشداء أن يقتفوا أثرنا ويتأهبوا للوثوب عند أول إشارة، وكان معنا كلب من كلاب الصيد يمتاز بسرعة عدوه وذكائه، وقد أحبه الخليفة حتى ألبسه الدمقس والحرير، وملأ قوائمه بالأساور الذهبية، وفيما نحن على خيلنا بالقرب من غابة متكاثفة الأغصان نبح الكلب نباحا شديدا وأسرع أمامنا حتى أوغل بين الأشجار وهو يبالغ في نباحه، فعجبنا لأمره وما زلنا ندعوه إلينا وهو لا يطيع حتى ارتبت في الأمر، فتفرست في أثره فإذا بشاب ملثم قد خرج من الغابة وفي يده خنجر مسلول، طعن به أول من صادفه من الحاشية، ثم طعن الثاني والثالث واخترق الجمع وهو يلتمس الخليفة، فأمرت الرجال بأن يقبضوا عليه ولا يقتلوه، فتكاثروا عليه فقتل منهم خمسة، ولم يبلغوا منه وطرا إلا بعد أن عثر بجزع شجرة ناتئ، فتجمهروا عليه وأوثقوه وثاقا شديدا وساقوه إلى الخليفة، وكنت قد سبقته إليه وأخبرته بخبره فأمر بإرساله إلى دمشق، وعدل عن إتمام الصيد وأوعز بالإياب فأسرعت في المجيء قبله لغرض عند عمي هذا، وأشار إلى عامر. •••
سمع عامر حديث ابن زياد فلم يبق عنده شك في أن الذي قبضوا عليه هو عبد الرحمن، ولكنه عجب للغرض الذي قدم عبيد الله من أجله ، وخاف أن يكون فيه بأس عليه؛ إذ لا يبعد على الذي وشى بعبد الرحمن أن يشي بهم جميعا! فاسودت الدنيا في عينيه، ولكنه صبر صبر الرجال وتجلد، والتفت إلى عبيد الله وهو يظهر الاستغراب مما اتفق للخليفة وقال: مهما يأمر سيدي فإني رهين إشارته.
قال: إنني أحببت مصاهرتك، فهل ترضاني لك صهرا؟
فوقع ذلك الكلام على قلب عامر وقوع الصاعقة، وأرتج عليه فلم يعلم بماذا يجيبه، وهو لا يستطيع مجافاته لأنه في قبضة يده، فأراد أن يحتال في جوابه، وقبل أن يبدأ بالكلام رأى ابن زياد قد وقف فجأة وهو ينظر إلى البستان وتطاول بعنقه وعلته البغتة، فالتفت عامر فإذا بالخيول تتزاحم عند باب البستان وعليها الفرسان وفيهم يزيد بن معاوية، ثم رأوا يزيد قد ترجل وحده وأقبل مسرعا على قدميه نحو الدير كأنه يطارد شيئا، فبغت الرئيس وأسرع إلى باحة الدير وهو يتعثر بأذياله حتى كاد يقع على السلم، فرأى كلبا من كلاب الخليفة دخل الباب وعليه الأطلس والأساور كما وصفه ابن زياد، فلما رأه الكلب مهرولا نحوه انحرف بمسيره نحو غرفة سلمى ويزيد في أثره؛ لأنه افتقده وهو بقرب الدير فلم يجده، فعلم أنه دخل الدير فجاء للقبض عليه بنفسه لأنه كان يحبه، ولا سيما بعد ما بدا من نباهته في ذلك اليوم.
وكانت سلمى متكئة على عباءة وباب غرفتها مفتوح نصف فتحة، وفي يدها منديل تمسح به دموعها وهي غارقة في ظلمات الخيال، تفكر في حبيبها وما عرض نفسه له من الخطر الشديد، وقد طال غيابه فغلبها البكاء، وأطلقت لعواطفها العنان حتى احمرت عيناها وتكسرت أهدابها وتوردت وجنتاها. وكان شعرها محلولا فاسترسل بعضه على جبينها وتدلى البعض الآخر حتى غطى معصمها، وانحسر كمها عن زندها فانكشف معظمه وعليه الوشم كدبيب النمل.
وفيما هي على تلك الحال سمعت خشخشة الأساور في قوائم الكلب، ثم رأته داخلا غرفتها فتذكرت يزيد فأجفلت وتشاءمت، وإذا بها تسمع صوت يزيد وهو يناديه، وأحست به مقبلا نحو غرفتها فارتعدت فرائصها ومدت يدها إلى النقاب لتستر رأسها به فلم تدركه فأرسلت شعرها على وجهها ريثما تستتر، وإذا يزيد قد دخل ورآها فانذهل لرؤيتها ووقف مبهوتا لا يدري ما يقول وقد نسي الكلب وأساوره.
अज्ञात पृष्ठ