وظلت سلمى واقفة تتطاول بعنقها وتحدق بعينيها بين الأشجار حتى غاب عبد الرحمن عن بصرها، فلما توارى أحست كأن قلبها انخلع من مكانه، ولم تعد تتمالك عن البكاء؛ لما غلب عليها من الخوف على حياة حبيبها، وندمت على تركه يذهب وحده، ثم عادت إلى غرفتها حزينة كئيبة لا تخاطب عامرا ولا تنظر إليه.
ولم يكن عامر أقل ندما على ذلك، فظل صامتا، ونزل في أثرها، والرهبان في شاغل عنهما برفع الآنية والأبسطة التي كانوا قد أعدوها للخليفة. •••
دخلت سلمى غرفتها وقد أظلمت الدنيا في عينيها وضاقت بها السبل فأطلقت لعينيها عنان الدموع واستغرقت في البكاء كأنها أشعرت بما سيلقاه عبد الرحمن من الخطر، وودت لو تتبعه عسى أن تكون له عونا، ولكنها لم تكن تعرف الجهة التي مضى إليها، ولا التي سار إليها موكب الخليفة، فظلت تتردد بين اليأس والرجاء، وعامر جالس منقبض الصدر وفي نفسه هواجس أمسك عن إظهارها إشفاقا على سلمى، ثم تجلد فاقترب منها وجعل يخفف عنها ويطمئنها وهي لا تصغي إليه.
على أنها عادت تعلل نفسها بنيل المنى، فتصورت فوز حبيبها بقتل يزيد وما يترتب على ذلك مما تتوق إليه نفسها ونفس كل مسلم من دعاة أهل البيت، فضلا عن شفاء غليلها بالانتقام لأبيها، فسكن روعها وخف بكاؤها، فاغتنم عامر الفرصة وقال لها: خففي عنك يا بنيتي واتكلي على الله، فإنه ولي التوفيق وهو على كل شيء قدير، وما قتل هذا الخليفة بالأمر العسير، ولا سيما أن عبد الرحمن لن يقدم على قتله وهو بين رجاله، ولكنه سيتربص به حتى يراه وحده، ولا شك في أنهما إذا تبارزا فستكون الغلبة لعبد الرحمن.
فنزل كلام عامر عليها بردا وسلاما، فكفت عن بكائها، ونهضت تتشاغل بترتيب فرش الحجرة وأثاثها، ثم استلقت وقد غلبها التعب وأدركها النعاس، وأدرك عامر ذلك فتركها وخرج ليخلو بنفسه.
وظلت سلمى نائمة إلى العصر وعامر يتردد إلى الحجرة يتفقدها، فإذا رآها ما زالت نائمة عاد إلى السطح وتشاغل بالتأمل في مشاهد الكنيسة، أو محادثة بعض الرهبان.
وفيما هو عائد ذات مرة رأى شيبوب تحت الصفصافة، فتذكر الشيخ الناسك ، وخطر له أن يذهب إليه لعله يسمع منه كلاما يطمئنه على عبد الرحمن، وكان يعتقد الكرامة في مثل هذا الناسك، ثم بدا له أن يصطحب سلمى لتشاركه اطمئنانه، فلما ذهب إلى غرفتها وجدها قد استيقظت وجلست مضطربة حزينة النفس فقال لها: ما بالك يا بنية؟ ما لي أراك مضطربة؟
قالت والدمع ملء عينيها: آه يا عماه، تسألني عن شيء أنت تعلمه! ولقد زاد في همي ما انتابني من الأحلام أثناء نومي.
فابتدرها الشيخ قائلا: دعينا من الأحلام والأوهام، وهلمي بنا إلى الشيخ الناسك لنجلس إليه عسانا نسمع منه ما يسر، فإني والله أعتقد الكرامة في أمثاله.
فارتاحت سلمى لهذا الاقتراح، ووقفت وقد انبسط وجهها وزالت عبوسته وقالت: نعم الرأي يا عماه، فهيا بنا إليه، أين هو؟
अज्ञात पृष्ठ