فلما سمع عبد الرحمن كلامها رجع إلى صوابه، وجلس وهو يصلح وضع كوفيته على رأسه وقال: إنك تنطقين بالحكمة، ولا تظنيني من الجهل بحيث أقتحم هذا الأمر بجهالة، ولكنني رأيت رأيا سأعرضه عليكما وأظنكما توافقانني عليه.
قال عامر: وما هو؟ قال: إنه لا يمضي أسبوع لا يخرج فيه يزيد للصيد؛ لأن له ولعا شديدا، فيخرج بحاشية كبيرة بين فارس وراجل إلى هذه الغوطة؛ لكثرة ما فيها من الطير والظباء. وأعرف قرية على مقربة من هنا يقال لها: «جرود»، يكثر فيها حمار الوحش، وهو مولع بصيده، فإذا أوغل في الصيد خرجت متنكرا أراقب انفراده خلف طريدة فأرميه بنبل أو أطعنه بخنجر، فإذا لم أتمكن في المرة الأولى حاولت ذلك في الثانية أو الثالثة حتى أظفر به وأكفي الناس شره.
فلما سمعت سلمى قوله ابتسمت وأبرقت عيناها سرورا بصواب رأيه وقالت: أنت رأي حسن، ولكن علينا أن نراقب خروجه للصيد.
قال عامر: ذلك علي، فإذا أصبحنا غدا دخلت دمشق بأحمالي وتجارتي واستطلعت خبر الصيد.
فقالت سلمى: على الله التوفيق، ولكنني أرجو منك يا عماه أن تدلنا على قبر أبي فنزوره وأكحل عيني بترابه، وأسمع منك خبر مقتله بالتفصيل.
قال: إن القبر يا ابنتي على مسافة ربع ساعة من هذا الدير، تحت شجرة من الجوز كبيرة تظهر للرائي عن بعد، ولكننا لا نستطيع الذهاب إليها إلا ليلا لئلا يرانا الرئيس أو غيره ممن يعرفون المكان فيشتبه فينا.
وقضوا بقية ذلك اليوم في الاستراحة من وعثاء السفر وهم يتأهبون للخروج في الليل إلى قبر حجر. •••
ولما غربت الشمس صعدوا إلى سطح الدير وهم يتظاهرون برغبتهم في تفقد منظر الغوطة ليلا، فلقيهم رئيس الدير وكان جالسا في أحد جوانب السطح يصلي على انفراد، فتغافلوا عنه وجعلوا يتحادثون، حتى إذا فرغ من صلاته نهض واقترب منهم، وكان القمر بدرا كاملا، فما أزف الغروب حتى أطل من وراء الأفق، كأنه يتطلع إلى الشمس يبغي وداعها وهي تتجاهل غرضه، وظلت سائرة في سبيلها لا تلتفت إليه ولسان حالها يقول: إذا كنت تبغي لقائي فاتبعني. وكأنه شعر بحاجته إلى نورها فجرى في أثرها يتبع خطاها ويسترق من أشعتها حبالا يرسلها على تلك الغوطة الواسعة الأطراف، وفيها من الفاكهة أزواج، ومن المياه أقنية وبحيرات، ينعكس النور على أسطحها متلألئا كالمصابيح، ولم تمض ساعة حتى علا البدر فأنار تلك الحدائق الغناء فأصبحت بحرا كثير الألوان، ينوب فيه عن هدير الأمواج حفيف الورق وخرير المياه وزقزقة الطيور وهي عائدة إلى أوكارها أسرابا متكاثفة، تسبح الخلاق العظيم.
وشغل عامر بالحديث مع الرئيس، أما سلمى وعبد الرحمن فإنهما لبثا واقفين يتأملان في ذلك المنظر البديع، وسلمى قلقة تفكر فيما يهدد عبد الرحمن من الخطر المقبل، وتحاول أن تلهي نفسها بالنظر إلى ما أمامها من الأشجار الباسقة والينابيع الجارية والأشعة المتلألئة، وما يتخلل ذلك من تغريد العصافير وأصوات الماشية في الحظيرة من معاء الماعز وخوار الثيران وجعجعة الجمال، على أن هذا كله لم يلهها عن مقتل أبيها وما تتوقعه من سماع حديث عامر تلك الليلة.
وأما عبد الرحمن فقد كان همه تدبير الحيلة لبلوغ أربه من يزيد، لا يعير الغوطة ولا مناظرها التفاتا، ثم حانت منه لفتة إلى سلمى وهى تنظر إلى الغوطة وقد أطل عليها البدر ووقع ضوءه على وجهها، فكأنهما قمران تلاقيا على موعد، فثار فيه ثائر الحب، وأعجب بما في ابنة عمه من جمال المعاني، وتذكر إعجاب الشعراء بجمال البدر فقال في نفسه: أين تلك الصفحة المستديرة الصماء من هذا الملاك الناطق الذي ينبعث نور الحياة من محياه! وكأن لسان حاله يقول:
अज्ञात पृष्ठ