فبهتت سلمى، واستجمعت رشدها ولبثت مطرقة تنظر إلى الأرض وهي تراجع في ذاكرتها ما سمعته عن مقتله في دمشق، فلم تجد دليلا على أنه قتل غير ما سمعته من ابن زياد والحكيم، فهان عليها تصديق بقائه حيا، فأحست للحال أن غمامة انقشعت عن عينيها، وكأن جبلا نزل عن قلبها، فانبسط وجهها وابتسمت، فابتدرها الشيخ قائلا: أراك تضحكين، وكنت تقولين أنه لا شيء يضحكك!
قالت: لم يدر في خلدي أن أسمع هذا الخبر. أيكون عبد الرحمن حيا ولا أضحك؟! ثم انقبضت بغتة وقالت: ولكن ما الفائدة؟ أين هو؟ ما الذي يجمعني به، فقد أصبحت بعد ما لقيته من الفشل المتواتر لا أصدق شيئا حتى يقع، وقد يقع ولا أصدقه.
قال: لا تيأسي من نعم الله، فأن معسكر الحسين يجمعك بعبد الرحمن، فقد سار إليه وأنت في دمشق مع عامر، وهو يحسبك ميتة كما كنت تحسبينه ميتا! ثم قص عليها الخبر من أوله إلى آخره، فاطمأن بالها وسكن روعها ووثقت من بقائه على قيد الحياة.
الفصل السادس عشر
خروج الحسين إلى العراق
كان الحسين قد انتقل من المدينة إلى مكة وأرسل ابن عمه مسلما إلى الكوفة كما تقدم. وجاءته كتبه بأن معظم أهل الكوفة على بيعته، فعزم على الخروج إليها وهو يحسب أنه إذا جاءها استتب الأمر له، وكان يستشير أصحابه فمنهم من يخوفه من الذهاب ومنهم من يحرضه عليه، وكان في جملة المحرضين عبد الله بن الزبير، وكان طامعا في الخلافة لنفسه؛ لأنه من كبار أبناء الصحابة، كما كان أبوه الزبير بن العوام طامعا فيها قبله على عهد الإمام علي، وقد حاربه عليها في وقعة الجمل إلى جوار البصرة، ولكنه قتل هناك هو وطلحة وفاز علي بالأمر، فلما قتل علي وتولى الخلافة معاوية بن أبي سفيان لم يجرؤ ابن الزبير على مناجزته، فلما مات معاوية كان ابن الزبير والحسين في الكوفة فطلبوا منهما البيعة ليزيد كما تقدم فأبيا، ثم خرجا إلى مكة وفي نفس كل منهما أن يطلب البيعة لنفسه، فرأى ابن الزبير أنه لا يستطيع ذلك والحسين معه في مكة؛ لأن الناس يؤثرون الحسين عليه، فرغبه في طلب بيعة أهل الكوفة وحبب إليه المسير إليها، وكان الحسين مخلص الطوية صادق اللهجة مثل أبيه، والمخلص سليم النية سريع التصديق، وما أضاع علي الخلافة إلا لطيبة قلبه وحلمه ورغبته عن الدهاء والمكر.
وكان ابن الزبير يظهر للحسين عكس ما يضمره، وربما أعرب له عن بقائه بمكة وهو يريد خروجه منها، وفي جملة ما دار بينهما من الحديث في هذا الشأن أن ابن الزبير قال له مرة: «ما أدري ما ترك لنا هؤلاء، وقد كفننا عنهم ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم. خبرني ماذا أنت صانع؟»
فقال الحسين: «لقد هممت بالذهاب إلى الكوفة، وكتبت إلى شيعتي فيها وأشراف الناس، وأستخير الله.»
فقال ابن الزبير: «أما والله لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها.» ثم خشي أن يتهمه فقال له: «أما إنك لو أقمت بالحجاز وأردت هذا الأمر ههنا لما خالفناك بل ساعدناك وبايعناك ونصحنا لك، فأقم إن شئت واندبني لهذا الأمر فتطاع ولا تعصى.»
فلما خرج ابن الزبير قال الحسين لمن عنده: «إن هذا الرجل ليس شيء في الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي، فود لو أني خرجت حتى يخلو له الجو.» ويظهر من ذلك أن الحسين لم يكن يجهل طمع ابن الزبير ، ولكنه ظل راغبا في الخروج، ولعله خاف مناوأته إذا بقي هناك.
अज्ञात पृष्ठ