هكذا تعرفت إلى قنصلنا في أميركا إدوار غرة حين رد علي ذات مرة، قلت: «إدوار غرة؟ من أين في لبنان؟» أجاب: «من زحلة، أجلك الله!» قلت: «لا أصدق! هات البرهان.» فراح يحدو: «... وشرب العرق عادتنا.» ومرة طلع بوجهي في إحدى القنصليتين موظف جديد طفق يحاضر في واجبات المهاجرين نحو السعي للانتصار لقضية فلسطين.
فأقفلت التليفون، وأعتقد أن الأخ الفصيح لا يزال يتكلم حتى هذه الساعة.
كانت أياما وليالي محمومة سجلت خلالها العبارة التي بدأت تظهر اليوم في الصحف: «كل مواطن خفير.» أي يهود؟ أي تقسيم؟ نحن في الفلبين خمسة عشر مغتربا، ربحنا صوت دولة، فكيف يكون شأننا في البرازيل والأرجنتين والمكسيك حيث منا مئات ألوف المواطنين؟
وفي صباح يوم تسلمت تلغرافين من كميل نمر شمعون وعادل أرسلان، فيهما تهنئة حارة، وانبسط على صفحات جرائد مانيلا الأولى نص خطاب رائع لكارلوس رومولو - وهو من خطباء الدنيا المعدودين - هاجم فيه التقسيم، وانتصر لقضيتنا.
يومان مرا بي كنت خلالهما أشعر أني أقوى من ذلك الذي يطأ الأرض مترفها من تيهه، فلقد كنت أمشي من غير أن أطأ الأرض.
ولكن الأرض انخسفت بي حين قرأت تلغرافا جديدا بتوقيع شمعون يخبرني فيه أن رومولو أبدل بمندوب ثان (نسيت اسمه، وأرجح أن اسمه الأول طوماس، فلنسمه طوماس)، وذلك تمهيدا لتعكس الفلبين موقفها من التقسيم، وأن حالتنا في منظمة الأمم خطرة، وأن التصويت تأجل.
وهرعت إلى من كان يزودني بنسخ البرقيات؛ فقلب شفته، وحك قفاه وبصق، وكانت هذه عادته في ساعات الخيبة. وقال: «إن الحكومة انتقلت إلى المصيف في «باغيو»، وهي مدينة جبلية تبعد أكثر من ثلاثماية كيلومتر عن مانيلا، وأصبحت المخابرات في يد الجيش، والولدنة مع الجيش، ومخابراته خيانة تعاقب بأحكام مختلفة أخفها الإعدام، وقلب شفته، وحك قفاه وبصق، وشاركته في كل ما فعل.
إنني كنت أعرف جيدا من هو طوماس المندوب الجديد للفلبين، إنه أكبر عدو لجاليتنا في الفلبين، وقد أصدر منشورا فور عودة الأميركان، بعد طرد اليابانيين، يتهمنا بأننا خونة، وبأننا تعاونا مع اليابانيين أيام الاحتلال، وسبب عدائه لنا أن أولاد أسعد اشتروا من قريبة له شريرة قطعة أرض إبان الحرب بثلاثين ألف دولار، ادعى طوماس أنها تساوي ربع مليون، ونشبت الدعاوى، وراح هو، وراحت قريبته تهدد بقتل أولاد أسعد، وقد جرت محاولة للفتك بأحدهم؛ يعقوب.
واجتمعت إلى الصديق المرحوم كامل حمادة وإلى أحد أولاد أسعد - نسيت أيهم - واتفقنا أن يتنازلوا عن حقوقهم في قطعة الأرض إن أيد طوماس موقفنا في قضية فلسطين. ووجدنا أن في يدنا ورقة ثانية - الخمسة المستورة - وهي أن طوماس انتخب عن دائرة جزيرة «إيلويلو»، وهناك مواطن لنا من بشراي اسمه الدكتور فرمين كرم، لا يستطيع طوماس أن يظفر بالنيابة من غير تأييده، وأرسلنا التلغرافات للدكتور كرم وإلى الأصدقاء في جزيرتي «إيلويلو»، و«نغروس» مفتشين عن فرمين كرم ليتلفن إلى صديقه وحليفه في منظمة الأمم. واتفقنا على دفع أي مبلغ إضافي قد يطلب منا. كنا في سنة 1947 والمال عبارة عن تسطير «شك» إذ كنا في بحبوحة بحيث إن سقطت من أحدنا ورقة المائة ريال لخجل أن ينحني لالتقاطها، وكنا في حمى القتال من أجل فلسطين.
وركبت سيارتي منطلقا إلى «باغيو». كانت سيارتي عامئذ من مخلفات الجيش، وهي ال
अज्ञात पृष्ठ