ولقد تثقفت بالقرآن الكريم على يد شيخ معمم أزهري، وعبر السنين كنت - ولا أزال - أقرأ في المصحف الشريف، كما أكثر من ... كدت أقول دراسة الإنجيل المقدس والتوراة.
ولكن ذلك اليقين بأن في الوجود - أو عبر الوجود - قوة مسيرة تحاسب وتعاقب وتكافئ وتستمع للابتهالات تلاشى من نفسي، وخلف فيها فراغا من الحسرة؛ فأنا اليوم أحسد وأغبط كل من اعتقد بالعزة الإلهية، وإن من الجريمة أن يسعى أحد لهدم هذا المعتقد في نفس مؤمنة به، كما أنه من الجهل والتضليل أن نعتبر الطقوس وأقذار الطائفية هي بعض عبادة ذلك الشيء العظيم الذي اتفقنا على تسميته بالله.
أما الشيوعية، وهي أداة تهديم المجتمعات والسيطرة الاستعمارية على الشعوب، فقد وجدت أن أفعل السبل لتقويض الأنظمة وإثارة البلبلة، هي في أن تطرد الإيمان من قلوب البشر، فما قنعت بإفراغ الأفئدة من اليقين، بل زادت على الإلحاد الاستخفاف بالمؤمنين والهزء بهم وبعقيدتهم، ممهدة بهذا العمل التخريبي الفردي للتهديم المجتمعي الشامل.
وحين انضممت إلى الحزب القومي الاجتماعي كنت أصبو إلى أن تعيد عقيدته إلى نفسي اليقين بغيبية شردت عنها، وكنت أتوق أن يزودني الحزب بمعتقد سماوي جديد يملأ الفراغ الذي أحدثه شرودي، وسببته حيرتي، ولكنني وجدت مبادئ الحزب تنصب، وتقتصر على بناء المجتمع دون أن تعنى بأي موقف إيجابي أو سلبي من الغيب، وفكرة الله، والثواب والعقاب، بل إن مبادئ الحزب تصون للفرد حرية معتقده الديني فلا تدفعه إلى أي دين. ولكن حيرتي الكبرى زالت، وامحى التساؤل من غير أن أدري، وما عدت أستشعر بقلق ولا فراغ؛ إذ اعتضت بالعمل المجد المثابر في سبيل تحقيق شيء عن دراسة نظرية للتحقق من شيء.
يقولون أن ليس في أزمات الخوف من ملحد. إن اختباراتي الشخصية تنفي هذا القول؛ لقد واجهت أخطار الموت مرارا لا عد لها، في العواصف البحرية والزوابع الهائلة على اليابسة، في السجن، وفي حرب طاردتنا خلال سنواتها قنابل طائراتها. كنت أشتهي في أزمات المخاطر - وأنا أسمع صلوات سواي وضراعاتهم - لو أنني أقدر أن أنطق - بصدق - بكلمة فيها تعبد أو بصلاة أو ابتهال أو استسلام لرب العباد.
والحياة - وقد نهبت مني نعمة الثقة بالله والتطلع إليه والاتكال عليه - هل ردت لي من هذا الشيء المفقود ما أعتاض به عن السعادة التي حرمت منها؟
الجواب: نعم!
لقد فلسفت سلوكي؛ فانتهيت إلى الاعتقاد أن الله - إن ثبت وجوده - لن يحاسبنا على المظاهر - وهذه هي طقوس الأديان - بل على ما نوفره أو نجدد توفيره لسوانا ولأنفسنا من خير، وقد تحتشد في لفظة «الخير» هذه معاني القوة والسعادة والجمال. وما دمت أتوهم أو أدعي أو أثق أني ساع أبدا للخير، فحسابي مع الله مسدد سلفا؛ فما بي لوعة وما أنا بالمفجوع.
كنا في جمع حول كئوس من الويسكي، والدنيا طرب ودعاب، وأنا والزمرة - وبيننا أحمد ونمر طوقان - نتحدث عن أخيهما، وأخي إبراهيم طوقان، وقد ظهر ديوانه منذ أيام، بين القهقهات جئنا على ذكرى الشاعر الذي دفناه وكلنا أحبه. ويقينا أحسست بتقريع ضمير، وشيء من حقارة في النفس أن يمر طيف رفيق الصبا، فلا يلقي على كئوسنا ظلا من كآبة: إبراهيم طوقان - الشاعر - ولد على يدي، وقد تعهدت شاعريته بأمومة وأبوة. كان آخر من ودعني على الباخرة التي سلختني عن بلادي سنة 1925، وكانت آخر كلمة سمعها مني؛ إذ ابتعد قاربه المودع عن باخرتنا المقلعة فصحت به، وأعدت الصراخ مرارا حتى سمع الكلمة، وهز برأسه موافقا:
؛ أي «أنتج». تلك كانت آخر كلماتي له، ولقد بكيته في المغترب ألف مرة، وها نحن بين العبث والشراب نبحث في أمره، وفي شعره، وليس في نفوسنا وحشة.
अज्ञात पृष्ठ