في هذا الجندي، ما هي؟ نحن لا نقدر أن نفهمها ولا هو «يفتهمها» بعد أن استبدل دمه بسبب كثرة العمليات ثارت في رأسه وجسده الآلام المبرحة، فراح الأطباء يعطونه المسكنات. سألهم ذات يوم: «هل هذه الأدوية تشفي؟» أجابوا: «لا، بل هي تطرد الأوجاع.» قال: «إذن، فأنا لا أريدها.» ورمى بها وبالأوجاع. «وعملنا خمس ست معارك.» يلفظها كسكير يردد: «وشربنا كم كأس.»
أفاق على الحياة فتى في مدرسة عسكرية في إسطنبول لا يحس قومية ولا وطنا، حتى حدث وانقسم فتيان المدرسة إلى معسكرين، بعضهم قال: «نحن أتراك.» وراحوا يتغنون بجدهم الأعلى «طوران»، وآخرون صاحوا: «نحن عرب.» وطفقوا يفاخرون بجدهم الأعلى «قحطان»، هذا القحطان الذي سمع به فوزي القاوقجي لأول مرة لم يكن في نظره إلا رمزا للاعتزاز والخصومة مع الأتراك.
ولكن بقي في نظره - حتى بدأ أن يعي حقيقته - فروسية، فالحرب للحرب. وبعد، فأكثر الرصاص لا يقتل. واستهوته الأوسمة كشهادة للبطولة، وأصيب بهوس جنوني يحمله على تحدي الأخطار رجاء أن يجرح؛ فكثرت جراحه، وهذه الجراح في نظره - وهي بعض الموت - كانت له مصلا وقاه من الموت. «رفيقك يا فوزي ما يعود.» هكذا كان البدو يقولون له، لعل نظرية «هكسلي» صحيحة، فهذا رجل طلب البطولة بشهاداتها من أوسمة وجراح، ولكنه - والموت ما كان شرطا لانتصار قضيته - لم يطلب الموت.
فكان له ما أراد؛ كانت له الأوسمة والجراح؛ لأنه هكذا شاء وعزم وأراد.
وكانت غلطته الكبرى أنه ما أراد الموت، فلم تعترف بعظمته أمة لا تكرم الأحياء.
أشيائي المفقودة والمردودة
أقولها بلوعة المفجوع: «لقد فقدت إيماني بالله.»
إن كانت هذه العبارة تصنفني كافرا فعزائي أن كفري لا يتقنع بالرياء. ترى كم واحدا بين جموع المترددين على المعابد من مختلف الطوائف، كم من الذين تسري على ألسنتهم كلمة الله، وبه يحلفون، هم في حقيقة الأمر مؤمنون؟ أكثرنا يخاف أن يصارح الناس، أو يصارح نفسه، بأن قلبه فارغ من الإيمان برب في السماء يعبده، فالصلوات والزكاة ومظاهر التقوى هي - في أكثر الأحيان - ضريبة الخوف، يدفعها من يوظف في المجهول مالا أو وقتا أو جهدا اتقاء لشر أو طمعا بمغنم قد يكون هناك.
وإن بعضنا - من أدعياء المعرفة - يعلنون بخيلاء أنهم كفرة، مزدهين بهذا القول ببطولة مزيفة، أو بعلم هو في الصحيح غي؛ فإن من الواضح أن الكون بنظامه الدقيق العجيب وروعته وغموضه، وتفتح أسراره، يستحيل أن يكون وليد صدفة، أو أن يكون قد وجد لغير غاية، فالعلم - وما أقل ما أصبنا منه! - لا يقدر أن يثبت وجود الله، ولكنه بلا ريب ينفي عدم وجوده.
أقول لقد فجعت بإيماني؛ لأنني ربيت في بيت تعلمت فيه التقوى؛ فأنا منذ أن نموت عن طفولتي ألهج بذكر الخالق، ويملأ اسمه سمعي: «حرام أن ترمي دجاجة بحجر، حرام أن يقع الرغيف على الأرض، حرام أن تشتم، أبوك يرجع من منفاه متى أراد الله، فرسنا الشقراء ماتت لأن تلك كانت مشيئة الله.» فما كانت التقوى في مشتلنا العائلي طقوسا بقدر ما كانت سلوكا، وحين تعلمت فك رموز الأبجدية اطلعت على كتب الدروز، وسهرت الليالي في «الخلوة» أقرأ من كتبنا، وأستمع إلى تجويدها ومواعظ الشيوخ ولشروحهم لها. وبعد ذلك طالت وتعددت سياحاتي المدرسية، ولكنها انحصرت في مدارس كلها تبشيرية من راهبات الكاثوليك، ورهبان الموارنة، والمبشرات والمبشرين بالبروتستنتية، وهممت ذات يوم بأن أعتنق الدين المسيحي إثر موعظة خطابية سمعتها من قسيس استهوتني منبريته، ولكنه استمهلني أسبوعا، أرجع بعده إليه لأثبت له عزمي، وما رجعت.
अज्ञात पृष्ठ