وجثمنا في ذلك الكوخ نرتجف من البرد، ومن الرعب؛ إذ نذكر حوادث اليوم الفائت في جوار الدير المحترق الذي حسبناه ملجأ أمينا، ومرت أمام عيني من جديد لوحاته الكئيبة: طائرة تحوم فوق الدير تقذفه بالرصاص، وفتى إسبنيولي قتيل في باحة الدير لم يجسر على الدنو منه إلا أمه التي ركعت إلى جانبه تهز قبضتها صوب الطائرة القاتلة، وراهبات يطفن بهدوء يعالجن الجرحى، وغابت الطائرة؛ فإذا بالدير يطير في الفضاء نارا ودخانا، وإذا بأكثرنا - وأنا منهم - نهجم نحو المخزن محاولين تخليص مئونتنا، ونتخطى في ركضنا جثتي راهبتين اعترضتا طريقنا؛ إذ إن أحشاء إحداهما تجمعت على البلاط، وشظايا رأس الثانية التصقت بالحيطان.
كل هذه الصور امتثلت أمام عيني، ودوى في أذني أزيز الطائرة، وقرقعة رصاصها، فنزلت بي الرهبة التي طالما شلت مشاعري خلال شهور أربعة رأيت فيها الموت كل يوم، وفي بعض الأحيان مرات كل يوم.
قد يكون من حظي أن أعصابي بطيئة التجاوب في ساعة الخطر، تراني هادئا غير مرتعب في وسعي أن أدعي الجرأة، غير أنه بعد أن تمر بي الحادثة بساعات ينهل علي الخوف دفعة واحدة، فأصاب بما يشبه الشلل.
في ذلك الكوخ الحقير بين ضجيج الأولاد والنساء وصيحات مخيبر كيروز العنترية كنت في شبه غيبوبة؛ لذلك لم أشترك في القرار الذي اتخذوه، وهو الابتعاد عن الدير والمدينة والفرار إلى البراري.
وللمرة الثالثة بعد ابتداء هجوم الطائرات المنتظم حملنا ما نقدر عليه من الأدوية والمآكل، وسرنا نحو البرية غير قاصدين إلى مكان معين.
وحين طلعت الشمس وجدنا أنفسنا على بعد كيلومترين من المدينة في سهل بين جبلين، قافلة ملونة من رجال ينوءون تحت أحمالهم، ونساء يحملن السلال ويرتدين المعاطف الملونة، وأولاد في ألوان الفراشات التي بدءوا يطاردونها حين حميت الشمس. وأرجع النور الأمل إلى نفوسنا والدفء إلى أجسادنا وأرواحنا ، ورجعنا إلى الدعابة؛ فتطلع مخيبر إلى ماء يجري بين الأشجار المنتصبة في مضيق الجبل إلى يسارنا، فقال: «ما رأيكم لو «صلينا دبق» في هذه الأغصان ودققنا كبة على هذه البلاطة؟»
وقبل أن يسمع مخيبر الجواب لاح ظل على الأرض مخيف، وتفجر فجأة صوت محرك، فرأينا في الجو إحدى الطائرات، تلك المزدوجة الجسم، من معامل «الأكهيد»؛ ذلك أن من بعض حيل الطيارين أن يوقفوا المحرك فوق الغيوم؛ فتهبط الطائرة صامتة كي يفاجأ بها العدو، وعندما تدنو من الأرض يتحرك الموتور، وتنفذ الطائرة رسالتها التدميرية.
ودارت الطائرة في دائرة مبتعدة عنا، ثم رجعت نحونا. قلت في نفسي: هذه المرة ستفتك بنا بدون ريب؛ فنحن في سهل لا مكان فيه نختبئ، وتعالت الصيحات، ثم دارت الطائرة مرة ثانية، وإذا بذراع تمتد منها ملوحة لنا، ودارت مرة أخيرة، والذراع تلوح. في يقيني أن ألوان المعاطف أقنعت الطيار ورفاقه بأننا سكان مدنيون لا جنود.
ومشينا متثاقلين نحو المضيق حيث الأشجار والماء، وحيث أراد مخيبر أن يصلي الدبق ويدق الكبة، وانحنينا بالشفاه نعب من الماء، يقولون إن الجريح يتطلب الماء، وأزيد: أن الخائف كذلك.
وبعد أن سلقنا الرز، واستسغناه ترويقة فاخرة، انطلق مخيبر - وهو ربيب الجبال - يتكلم بطلاقة لغة القبيلة التي تسكنها ليختار لنا مأوى نلجأ إليه، ثم عاد عند العشية يبشرنا بأنه وقع على كوخ لصديق له كان شريكه في تجارة الخشب فيما مضى، عندما كان مخيبر يقدم الجسور الخشبية للحكومة، ويقتطعها صديقه من الحرج الذي يملكه.
अज्ञात पृष्ठ