ولقد كان عزم الملك عند وصوله إلى روشل أن يجلي الإنكليز عن جزيرة ري ويشدد الحصار على روشل لولا أن حال بينه وبين ذلك ما وقع من النفرة بين باسومبيير وسكومبرج وبين الدوق دانكوليم. وكان باسومبيير وسكومبرج قائدين في جيش فرنسا يطلبان ما لهما من حق القيادة في الجيش، وكان باسومبيير من البروتستان في السر ، فخشي الكردينال منه أن يتساهل مع البروتستان في الحصار، فطلب من الملك أن يولي الدوق دانكوليم، فولاه قيادة عامة الجيش، فأحفظ ذلك القائدين وكادا يخرجان عن الجيش لولا أن ولوا كلا منهما قسما، وبعد ذلك أخذوا يشددون في طرد الإنكليز من الجزيرة، وكانوا قد أصيبوا ببلاء شديد من الأمراض ورداءة هواء البحر حتى قل عددهم.
واستمر الفرنسويون يضايقونهم حتى جلوهم عن الجزيرة، فانثنوا بفلكهم راجعين وقد تركوا في ساحة الحرب ألفي رجل بين قتيل وجريح فيهم كثير من الأشراف والقواد ومعهم عدة من المدافع والرايات. وكان الكردينال قد قبض على رسول بيكنهام، وعرف منه أن بيكنهام يعقد دسيسة مع إسبانيا واللورين على فرنسا، ثم وجد في غرفة بيكنهام في الجزيرة أوراقا تثبت تلك الدسيسة، وأن لدي شفريز والملكة يدا فيها؛ ولذلك فقد كان الكردينال شديد الاهتمام بأمر الحصار لأنه كان وزيرا مطلقا تلحقه التبعة في كل عمل، وكان يخشى أن تتم تلك الدسيسة فتذهب بنفسه ونفس الملك وتحط شأن فرنسا وتبيد سطوتها، فكانت رسله تنبث في الجهات وأرصاده تتقاطر عليه بالأخبار، وكان مع ذلك حريصا على نفسه شديد الحذر عليها؛ خشية من أن يقتل أو يفاجأ بمكروه.
وكان الحراس الثلاثة مرابطين لباب الملك لا يعانون من أمر الحصار شيئا ولا يقتحمون من أهوال الحرب هولا، وبينما كان دارتانيان ذات ليلة منفصلا عنهم في فرقته ركبوا خيولهم وقصدوا إلى فندق يدعى فندق برج الحمام ليشربوا فيه، وفيما هم يسيرون والليل مرخ سدوله والأرض مقفرة إذ سمعوا وقع حوافر خيل تدنو منهم، فوقفوا وإذا بفارسين على بعد منهما قد وقفا وهما بالرجوع، فتقدم أتوس وصاح بهما: من يحيي؟ فقال أحدهما: بل أنتم من يحيي؟ فقال أتوس: أجب أو تقتل، فقال الفارس الآخر: مكانكم يا قوم لا تفعلوا شيئا، فمن أنتم؟ قال: نحن فوارس نتجسس العدو في الليل. قال: وما مهنتكم في الجيش. قال: حراس عند الملك. قال: من أي فرقة أنتم؟ قال: من فرقة دي تريفيل. قال: تعالوا فأخبروني ماذا تفعلون هنا ؟ فتقدم الحراس وسبقهم أتوس وقال: نحن عسس في الليل. قال: فما أسماؤكم؟ قال: لقد أكثرت في الأسئلة، فأي سلطان لك في ذلك؟ وكان الفارس ملثما بردائه، فحله وبان وجهه، فقال أتوس: العفو يا سيدي الكردينال. قال: ما اسمك؟ قال: أتوس. فأشار الكردينال إلى خادمه فدنا منه، فقال له: قل لهم أن يتبعوني وحذرهم من الإفشاء، فإني لا أريد أن يعرف أحد أني خرجت من المعسكر، فقال أتوس: لقد وضعت سرك في موضعه يا مولاي فلا تخش إفشاءه، فقال الكردينال: لله أنت يا أتوس، فإنك أسمع من الخلد، فخذ صاحبيك واتبعوني، أوليسا بورتوس وأراميس؟ قال: بلى يا مولاي. وتقدم الحرسيان فسلما على الكردينال، فقال لهم: أنا أعرفكم يا قوم وإن لم تكونوا من صحابتي، ولكني أقدر أن أكل إليكم أمري، فاتبعوني نذهب إلى فندق برج الحمام، فقال أتوس: لقد حملتنا منة في ذلك يا مولاي، فإنه بينما نحن آتون مع الملك عجنا بهذا الفندق فجرت لنا فيه مشاجرة، ونحن نحب الآن أن نذهب إليه بحيث كانت رفقتك لنا عونا. قال: وما كان من عاقبة مشاجرتكم؟ قال: جرح صديقي أراميس في كتفه جرحا خفيفا. قال: وأنت؟ قال: أما أنا فلم أستل سيفي، بل حملت خصمي وحذفت به من النافذة فانكسرت رجله. قال: وأنت يا بورتوس؟ قال: إني لما كنت أعلم أن البراز محظور علينا لم أمد يدي إلى سيفي بل ضربت خصمي بخشبة وجدتها فكسرت كتفه. قال: وأنت يا أراميس؟ قال: أنا لما رأيت صاحبي في المشاجرة دخلت لأفصل بين المتشاجرين ففاجئني رجل بضربة سيف على عاتقي، فاغتظت منه وحملت عليه بسيفي فاخترقت صدره، وحمله أصحابه ولا أدري ماذا جرى به بعد ذلك. فقال أتوس: ولم يكن علينا في ذلك لوم يا مولاي، فإن أخصامنا كانوا سكارى وأحسوا بامرأة في إحدى غرف الفندق فحاولوا كسر الباب والدخول عليها، فقال: وهل هي جميلة؟ قال: إني لم أرها. قال: بارك الله فيكم، فإن حماية الحرم من الكرم، ونحن ذاهبون الآن إلى الفندق وسأقف على جلية الخبر. قال: إننا من النبلاء يا مولاي والقتل أهون علينا من الكذب. قال: معاذ الله أن أرتاب من كلامكم، ولكن هل كانت الامرأة وحدها؟ قال: لا، بل كان معها فارس، ولكنه لم يمنعها وما أظنه إلا جبانا. قال: يكفي، فإن بعض الظن إثم. ثم ساروا والكردينال ملثم حتى بلغوا الفندق، فأشار إلى أتباعه بالتنحي فتنحوا، ونزل إليه رجل فكلمه سرا، ثم ركب جوادا مسرجا كان هناك وسار في طريق باريز. وقال الكردينال لأتباعه: تقدموا. ثم التفت إلى الحراس فقال: لقد صدقتم في حكايتكم بارك الله فيكم، فاقتفوا أثري. ثم ترجل وترجلوا، وربطوا خيولهم، ولم تكن هيئة الكردينال في تلك الليلة إلا هيئة ضابط طارق ليل، ثم خرج صاحب الفندق فقال له الكردينال: هل عندك من مقام يقيم فيه أصحابي ساعة؟ قال: نعم، ثم فتح لهم غرفة في الطبقة العليا فدخلوها، وتوجه الكردينال بنفسه إلى غرفة أخرى.
الفصل الثامن والثلاثون
فائدة الأسطوانة
ودخل الحراس غرفتهم يتساءلون عمن عساه يكون الذي يقابله الكردينال، ثم جلس أراميس وبورتوس في ناحية يتقامران وجعل أتوس يتمشى في الغرفة مفكرا متأملا، وإذا به يسمع صوتا خارجا من أسطوانة الموقد المتصلة بالغرفة السفلى، فأشار إلى صاحبيه بالسكوت ودنا من الثقب وألصق به أذنه، فسمع الكردينال يقول: اسمعي يا ميلادي، فإن الأمر خطير واجلسي أحدثك. قالت: يقول مولاي؛ فإني سامعة مطيعة. فلما سمع أتوس صوتها ارتعدت فرائصه واقشعر جلده، فقال الكردينال: تذهبين غدا صباحا إلى مصب نهر شارانت فتجدين سفينة إنكليزية الهيئة وربانها من قبلي فتركبينها. قالت: إذن أذهب الليلة. قال: نعم، ولكن بعد أن أرسم لك ما أريد، فتجدين لدى الباب رجلين يذهبان معك، ويكون خروجك من هنا بعد خروجي بنصف ساعة. قالت: فلنعد إلى البعثة التي أنا صائرة إليها، وألتمس أن تكون تفاصيلك واضحة حتى لا يفوتني شيء منها. فسكت الكردينال برهة ليجمع بها فكره ويرتب سرد أوامره. فاغتنم أتوس ذلك وأشار إلى صاحبيه بإقفال الباب والدنو للسماع معه، ففعلا وجلسوا جميعا، فقال الكردينال: تذهبين إلى لندرة فتلتقين باللورد بيكنهام. قالت: لا أقدر يا مولاي، فإنه لم يعد يأمنني بعد أخذي منه الجوهرتين. قال: لست الآن في شيء من ذلك، ولكنك تذهبين إليه في سفارة، فتقولين له من قبلي إني عارف بكل ما يصنع وأنا في مأمن منه، وعند أقل حركة بيديه أذهب بنفس الملكة. قالت: وهل يصدق أنك قادر على ذلك؟ قال: نعم، بعلامات تأخذينها مني، فتقولين له إني أبوح بمقابلته للملكة وقد جاءها بثياب المغول التي اشتراها بثلاثة آلاف دينار، ثم تقولين له بأني عارف بدخوله القصر بهيئة قصاص إيطالي وفي ثوبه رقعة بيضاء فيها رسم جمجمة وعظام، ثم تقولين له بأني أنشر حادثة أميان بتفاصيلها، وأن رسوله مونتسكي في سجن الباستيل تحت أمري وسأجعله يقر بكل ما يعرف، ثم تذكرين له بأني وجدت في غرفته في جزيرة ري بعد ما انهزم منها أوراقا من دي شفريز بشأن الملكة تتضمن خيانتها للملك وعشقها لأعدائه وهو ما يوجب عليها القتل. قالت: نعم. وأعادت عليه الكلام بعينه لتستوثق من حفظه، ثم قالت: ولعل اللورد لا يقنع بذلك بل يستمر على حصار فرنسا. قال: لا، فإنه شديد الكلف بالملكة مشغوف بها إلى حد يكون جنونا، فهو يخشى عليها كثيرا حتى يضطر إلى الإمساك عن القتال. قالت: وإذا ثبت في عزمه؟ قال: إذن تقتلينه. قالت: وكيف يكون ذلك؟ قال: تلتمسين امرأة بارعة في الجمال جدا وترشينها بالمال وتغرينها به فتقتله وتخلص فرنسا. قالت: يكون ذلك لولا أن فيه عار الغدر. قال: ولكنه لا يدري به أحد. قالت: إذا شئت فأنا مطيعة، على أن تكتب لي صكا أكون فيه بريئة من كل ما أصنع. قال: نعم، على أن تجدي الامرأة. قالت: ذلك علي يا مولاي، فاكتب لي ما قلت لك وافسح لي في أن أعرض عليك أمر أعدائي. قال: وهل لك أعداء؟ قال: نعم، وقد عاديتهم في سبيل خدمتك. قال: ومن هم؟ قالت: أولهم بوناسيه. قال: هي في السجن. قالت: لا، فقد أخرجتها الملكة بأمر من الملك إلى أحد الأديرة. قال: أيها هو؟ قالت: لا أدري، فإن ذلك سر لم أصل إليه. قال: أنا أبحث عنه وأخبرك بعد ذلك. قالت: ثم إن لي عدوا آخر وهو صديقها. قال: ومن عساه يكون؟ قالت: تعرفه يا مولاي، وهو الذي انتصر على حراسك، وهو الذي جرح الكونت ويرد في طريق إنكلترا، وهو الذي عزم على قتلي لأني خطفت صديقته. قال: عرفته، أليس دارتانيان الذي تعنين؟ قالت: هو بعينه، فمن لنا به؟ قال: لو كان في يدك حجة عليه أنه ذهب إلى بيكنهام لأودعته سجن الباستيل. قالت: عندي، فأمهلني واكتب لي الآن ما قلت لك. قال: هاتي الدواة والقرطاس. ففعلت، وجلس يكتب. فأخذ أتوس صاحبيه وقادهما إلى طرف الغرفة فقالا: لماذا لا تدعنا نستوفي الحكاية؟ قال: سمعنا كل المهم، وأنا أريد أن أخرج. قالا: وإذا طلبك الكردينال. قال: تقولان علم من صاحب الفندق أن الطريق خطرة فخرج يتجسسها. قالا: نعم، ثم خرج وركب فرسه وسار في طريق المعسكر.
الفصل التاسع والثلاثون
لقاء الزوجين
ولم يخطئ أتوس في زعمه، فإن الكردينال لم يلبث أن نزل ودخل غرفة الحراس فوجد بورتوس وأراميس يتقامران، فقال لهما: أين أتوس؟ قالا: سمع أن الطريق خطرة فمضى يتجسسها. قال: إذن فاتبعاني، فإن الزمان قصير. ثم ركب وركبا معه وساروا من حيث أتوا.
أما أتوس فإنه ذهب بجواده غير بعيد ثم عاد فوقف إلى جانب الطريق بحيث يرى ولا يرى، ولم يمض عليه قليل حتى رأى الكردينال وأتباعه عائدين، فأتبعهم بصره حتى غابوا وعاد يركض جواده إلى الفندق، وقال لصاحبه: إن معي رسالة للامرأة التي عندك وقد نسي الذي كان معها أن يدفعها إليها فأرسلني بها الآن، فقال له: اصعد فهي في غرفتها. فصعد ودخل عليها وأقفل الباب وراءه، فالتفتت الامرأة إليه وإذا بها ترى رجلا ملتفا بردائه وقد أحنى قلنسوته على عينيه، فارتاعت منه وقالت له: من أنت؟ وماذا تريد؟ فقال في نفسه: هي والله. ثم أرسل رداءه ورفع قلنسوته ودنا منها وقال: أما تعرفيني؟ فأجفلت ميلادي لمرآه ولم تحر جوابا، فقال: أرى أنك عرفتني؟ فقالت - وقد رجعت حتى لصقت بالحائط: ويلاه إني أرى الكونت دي لافير؟ قال: نعم يا ميلادي هو الكونت دي لافير بعينه، أتى من عالم الأموات ليراك، «فاجلسي أحدثك» كما قال الكردينال. فجمدت ميلادي في مكانها كأنها صعقت، فقال لها: ما أظنك والله إلا شيطانا ماردا أفلت من النار، ولكن رويدك، فإن للرجال همما تفوق عزائم المردة، ووالله ما أدري كيف خلصت من جهنم إلى هنا باسم غير اسمك وهيئة تكاد تكون غير هيئتك، ولكنها لم تمح ما تحملين من العار والزهرة التي في جسمك. فأجفلت ميلادي من كلامه إجفال الحمل ونهضت من مكانها، فقال لها وهو قاعد: ما أراك إلا تحسبينني ميتا كما أحسبك، فإن اسم أتوس أخفى عنك الكونت دي لافير، كما أن اسم ميلادي كلاريك أخفى عني حنة دي بويل، أولم يكن ذلك اسمك عندما عقد لي عليك أخوك الكاهن؟ وما أظن أن كلا منا ترك صاحبه إلا لتوهمه إياه ميتا. فقالت: ما الذي أتى بك إلي؟ وماذا تريد مني؟ قال: أريد أن أقول لك أني متبع آثارك من غير أن تشعري بي. قالت: أوعالم أنت بما صنعت؟ قال: نعم، فاسمعي أقص عليك أفعالك من يوم دخلت في خدمة الكردينال إلى هذا المساء، فأنت سارقة الجوهرتين من الدوق بيكنهام، وأنت الخاطفة الامرأة بوناسيه، وأنت طروقة الكونت دارتانيان تحسبينه صديقك الكونت دي ويرد، ثم طروقته أيضا باسمه تحرضينه على قتل دي ويرد بزعمك أنه خادعك، ثم أنت التي حاولت قتل دارتانيان فأفلت منك بين الرصاص والسم، وأنت المعاقدة ريشيليه الليلة على قتل بيكنهام بشرط أن يسمح لك بقتل دارتانيان، فوالله ما أظنك بعد ذلك إلا من المردة الأشرار، ومهما يكن من أمرك فإن قتل بيكنهام وحياته سيان عندي فهو إنكليزي لا أعرفه، أما دارتانيان فوالله لئن مسسته يوما لأجعلن ذلك اليوم آخر أيامك من الدنيا وأولها من الآخرة، ولأطلبنك ولو كنت بين لحم الكردينال وجلده. قالت: لقد خدعني دارتانيان فيجب أن يموت . فذكر أتوس عند ذلك ماضي أيامه معها وما كان من أمرها، فهاج به حب الانتقام، فأخرج غدارة من حزامه ورفعها إلى جبهة ميلادي، وقال لها بصوت يرجف منه الأسد: والله لئن لم تعطني ورقة الكردينال لأذهبن بحياتك. وكانت ميلادي تعرف أتوس وبأسه، فأخرجت له الورقة وقالت له: خذها عليك لعنة الله. فأخذها ورد سلاحه إلى مكانه ودنا من النور وقرأ:
अज्ञात पृष्ठ