ولما نفدت دراهم الملك مست الحراس العازة وأحوجهم الأمر إلى القوت، فجعلوا يتداعون وغلمانهم إلى أصحابهم ويتطفلون على معارفهم، ولم يكن لدارتانيان صاحب سوى قسيس من بلاده كان يدعو إليه رفاقه فيتركون بيته كبيت العنكبوت. وحدث أنه بينما دارتانيان في منزله دخل عليه خادمه يستأذنه لرجل يريد مقابلته، فأذن له، فدخل الرجل وقال لدارتانيان: قد سمعت بشهرتك وبعد صيتك في الشجاعة وكرم الأخلاق، فأتيتك أستودعك سرا. قال: إني إذن أرعاه. قال: إن لي امرأة صبوحة الوجه صناع اليدين تغسل ثياب الملكة في القصر، وقريبها دي لابورت وصيف الملكة، وهو الذي سعى لها بهذه الخدمة، فبينما هي خارجة أمس من القصر خطفها رجل ومضى بها ولا سبيل لي إليه، فأغثني أغاثك الله. قال: ومن هو الرجل؟ قال: لا أعرفه، سوى أني ألقيت الشبهة على رجل كان لا يفتر عن تتبعها، وأنا أرى أن لاختطافها سببا سياسيا لا دخل للعشق فيه، ولا أظن ذلك السبب إلا امرأة أعظم منها كثيرا. قال: ومن تراها تكون؟ هل هي بواتراسي؟ قال: هي أعظم من ذلك. قال: فأكويليون؟ قال: أعظم. قال: فشفريز؟ قال: بل هي أعظم جدا يا مولاي. قال: لم يبق إلا ... (يريد الملكة). قال: هي بعينها. قال: ومن أيضا؟ قال: لا أظنه إلا الدوق دي ... (يريد بيكنهام). قال: ومن أدراك بكل هذا؟ قال: أخبرتني به امرأتي. قال: وأنى لامرأتك ذلك؟ قال: من دي لابورت وصيف الملكة، وهو الذي جعلها عندها تكل إليها أمورها في انقطاع الملك عنها من بغضه وخداع الكردينال إياها واطراحها من الجميع، وما أرى هذا الأمر إلا انتقاما من الملكة، فإنهم زوروا عنها كتابا إلى الدوق دي بيكنهام يغرونه بالمجيء إلى باريز ليوقعوا به وهو عشيقها. قال: وما دخل امرأتك في مثل هذه الأمور؟ قال: إنهم يعرفون إخلاصها للملكة ومفاداتها لها؛ ولذلك فقد رأوا إبعادها عنها لتكون في يدهم آلة يستعينون بها على الملكة. قال: أما تعرف الذي خطفها؟ قال: لا، وما أظنه إلا من أتباع الكردينال، ولا أعرفه إلا إذا رأيت وجهه؛ لأن امرأتي أشارت لي إليه، وهو رجل طويل القامة أسود الشعر في خده ندبة، فقال دارتانيان: خصمي والله الذي سرقني في مينك، فإذا انتقمت منه يكون انتقامي مزدوجا، فأين أقدر أن أراه؟ قال: لا أعلم يا مولاي سوى أني رأيته مرة واحدة كما قلت لك. قال: فما اسمك؟ قال: بوناسيه صاحب هذا البيت الذي أنت تسكنه. قال: أما عندك غير شيء على امرأتك؟ قال: نعم، رسالة وصلتني وهي هذه. فأخذها دارتانيان وقرأ: «لا تتعب في السعي وراء امرأتك، فإنها ترد إليك عند عدم الحاجة إليها، وإذا سعيت فأنت هالك.»
فقال الرجل: كيف أصنع يا مولاي ولست من رجال الحرب ولا طاقة لي على سجن الباستيل؟ فأسعفني في أمري يكن لك فضل علي وعلى الملكة، وتكون قد رغمت أنف الكردينال عدوكم وعدوها، وأنا أقدم لك هذه الخمسين دينارا تستعين بها على أمرك. ثم حانت منه التفاتة إلى النافذة فقال: هذا هو يا مولاي. فنظر الفتى فعرف خصمه، فقال: إذن والله لا يفلت مني في هذه المرة أبدا. ثم شهر سيفه وانحدر من السلم فصادف أتوس وبرتوس آتيين إليه، فمالا من طريقه وصعدا، وذهب وهو يقول: وجدته وجدته. ثم طاف كل تلك السكك والأزقة فلم يقف له على أثر.
وكان أراميس في خلال ذلك قد صعد وراء صاحبيه، فعاد دارتانيان فوجد الثلاثة مجتمعين، فقالوا له: مهيم؟ قال: طلبته فما وجدته، فوالله لكأنه ذهب بين سمع الأرض وبصرها، ومهما يكن فإنه قد أضاع علينا عملا لنا فيه أكثر من مئة دينار. قالوا: وكيف ذلك؟ فقص عليهم القصة، فقالوا: ما لنا ولها؟ قال: إن الأمر لا يتعلق بها وحدها، فإن للملكة فيها أجل نصيب. قالوا: وما لنا وللملكة وهي تحب الإنكليز والإسبان أعداءنا الألداء؟ قال: أما الإسبان فلأنهم قومها، وأما الإنكليز فلا تحب منهم إلا رجلا. فقال أتوس: لعمري أنه جدير بأن يحب، فإني لم أر مثله في الجمال والكرم، أتذكرون يا قوم يوم نثر اللؤلؤ في قصر اللوفر، فكنا نلتقط منه كما نلتقط البرد؟ قالوا: نعم نذكره ولا ننساه، فقال دارتانيان: إني لا أحب بيكنهام وإيصاله إلى الملكة، إلا كيدا للكردينال، وما أظن اختطاف هذه الامرأة إلا لهذا الشأن وأن بيكنهام في باريز. قال أراميس: اسمعوا أقص عليكم أمرا، إني كنت أمس عند أحد أصحابي وله ابنة أخ جاءت إليه ثم همت بالانصراف فرافقتها إلى العربة وأنا مشتمل بعباءتي، وإذا أنا برجل دنا مني ووراءه ستة رجال، فقال لي: اصعدا إلى هذه العربة يا دوق ولا تحاول خلاصا، فكشفت عباءتي فلما رآني ورأى ثيابي تركني وانصرف، وما أراه إلا حسبني بيكنهام وحسب الفتاة الملكة، وهو دليل على أن بيكنهام في باريز وأنهم يسعون في القبض عليه. فقال دارتانيان: ألا نبحث عن هذه المرأة؟ قالوا: إن ذلك لا يكون أبدا، فإنها وضيعة النسب لا تستحق العناء في البحث عنها، ومهما تكن فساوم زوجها بثمن غال في تفتيشك. قال: لا بد لي من البحث عليها، ولو لم آخذ من زوجها شيئا، فإن لي جزاء من غيره، ولعلكم لا تجهلون. وما أتم كلامه حتى دخل عليهم صاحب الفندق وهو يستغيث ويقول: أغيثوني، فإن أربعة من الجند يطلبوني. فقام برتوس وأراميس ووضع كل يده على قائم سيفه، فمنعهما دارتانيان وقال: إنه موقف لا تغني فيه السيوف، فالرأي قبل شجاعة الشجعان. فقال أتوس: صدق دارتانيان، فلنكل إليه أمرنا. وإذا بأربعة من الجند قد هجموا على القاعة حتى رأوا الحراس، فوقفوا هيبة منهم، فقال لهم دارتانيان: ادخلوا يا قوم فإنكم في منزل رجل مثلكم يخدم الملك والكردينال، فقال له زعيمهم: إذا كنت كذلك فما نراك مانعا عن إتمام ما أمرنا به. قال: لا، بل نساعدكم إذا قضت الحاجة. فقال بوناسيه صاحب الفندق: لقد أجرتموني، فكيف تخفرون الذمة؟ فقال له دارتانيان بصوت خفي: إنا نسعى في خلاصك بالحيلة، فلو منعناك لاتهمونا بك وأخذونا معك. ثم قال للجند: إنه رجل لا أعرفه إلا في هذه الساعة، فشأنكم به؟ ثم همس في أذنه أن اسكت ولا تنطق علينا بشيء فإنك تضرنا وتضر بالملكة. ثم دفعوه إليهم فأخذوا وانصرفوا، وعرف دارتانيان أن اسم زعيمهم بوازرنار، فلما خلا البيت قال لهم بورتوس: أف لكم، أتخفرون الذمة وتسلمون رجلا لجأ إليكم واستغاث بكم؟ قالوا: بل هو الصواب، فلنتعاقد الآن على أن نكون جميعا فدى عن واحد منا ويكون كل منا فدى عن الجميع. فتعاقدوا وانصرفوا كل منهم إلى مكانه.
الفصل السابع
امرأة صاحب الفندق السبية
وبعد أن ذهب الجند بالرجل أقام الرفاق الأربعة يبحثون عليه فلا يقفون له على خبر، وكان بيته تحت بيت دارتانيان، فاقتلع الفتى عدة أخشاب من أرض البيت بحيث صار يسمع ويرى ما يجري في بيت الرجل، فبينا هو جالس ذات يوم إذ سمع صراخ امرأة تستغيث في بيت صاحب الفندق وسمع قوما يسألونها الإقرار وهي تأبى وتصر على الكتمان ، حتى قالت لهم: أنا بوناسيه صاحبة البيت، إحدى تابعات الملكة، فقالوا لها: أنت بغيتنا. وأخذوا يجرونها وهي تدافع وتستغيث، فثارت الحمية في رأس دارتانيان فتقلد سيفه، ودعا بغلامه فقال له: اذهب وادع لي أتوس وبرتوس وأراميس من منازلهم، وقل لهم أن يسرعوا. قال: وإلى أين تمضي يا مولاي؟ قال: أتدلى من النافذة، فاصدع بما أمرتك به. قال: نعم. وذهب ونزل دارتانيان فقرع الباب، فسكنت الجلبة وهدأ الصراخ، ثم فتح له الباب، فدخل بسيفه شاهره وأغلق الباب وراءه، فرأى أربعة رجال سود الملابس بغير سلاح، فهاجمهم بسيفه، فتلقوه يدافعون عن أنفسهم بأمتعة البيت فلم يقدروا عليه، فتركوا الامرأة وفروا هاربين، فلما خلا البيت نظر الفتى إلى الامرأة فوجدها على غاية من الجمال والصباحة، تكاد تأخذها العين لحسنها، ثم حانت منه التفاتة فرأى في الأرض منديلا كالذي رآه مع أراميس، فأخذه ووضعه في جيبها وكانت على وشك الإغماء مما حل بها، فلما أحست بيد الفتى انتبهت وقامت إليه تشكره وتدعو له، فألطف لها في الجواب وقال لها: إن القوم الذين هجموا عليها ليسوا لصوصا، ولكنهم من رجال الكردينال الذين أخذوا زوجها أمس إلى سجن الباستيل. فقالت: ويلاه، وما ذنبه حتى يقاد إلى السجن؟ قال: لأنه زوجك فيما أظن، وأنت سبية الكردينال. قالت: أوتدري من سباني؟ قال: نعم، رجل صفاته كيت وكيت. وشرح لها صفات خصمه. قالت: نعم هو، أوتعرف اسمه؟ قال: لا. قالت: ومن أين درى زوجي أني اختطفت؟ قال: من رسالة وصلته، وهو يرى لاختطافك أمرا سياسيا يتعلق بالدولة، فكيف خلصت من حبسك؟ قالت: غفلوا عني فتدليت من النافذة وخلصت إلى بيتي لعلي أرى زوجي. قال: وما عساه أن يمنعك وهو لا يمنع نفسه؟ قال: ليس ذلك من قصدي، ولكن لي معه شأنا. قال: وما ذاك؟ قالت: سر لا يد لي في إفشائه. قال: أفلا نخرج من هنا، فإن أصحابك لا يبرحون أن يرجعوا بالسلاح فيفوت الخلاص. قالت: وإلى أين نمضي؟ قال: متى خرجنا نرى رأينا. ثم أخذ بيدها وخرج بها حتى أبعد عن البيت، فقالت له: وإلى أين نذهب الآن؟ قال: لا أعلم والله، إلى أين تريدين؟ قالت: أريد أن أخبر دي لابورت بما جرى، ثم أعلم منه ماذا كان في اللوفر من ثلاثة أيام، وهل أنا آمنة إن عدت إليه. قال: أنا أمضي في ذلك. قالت: لا تقدر، فإنهم لا يعرفونك بل يعرفون زوجي. قال: أما لك من يعرفك هناك فأمضي إليه بعلامة منك؟ قالت: نعم، على أن تعاهدني أنك لا تستعمل علامتي التي أعطيك في غير هذا الشأن، ولا تستخدما لمأرب في نفسك إن كان لك مأرب. قال: لا والله، فهل من يعرفك فآخذك إليه؟ قالت: لا أسترسل إلى أحد. قال: لا تخافي، فنحن على مقربة من بيت صديق لي يدعى أتوس فأضعك فيه فلا يراك أحدا. قالت: أحسنت، فهيا بنا إليه. فسار بها حتى بلغ منزل أتوس فأودعها فيه، وقال لها: أقفلي عليك الباب ولا تفتحي إلا إذا سمعت ثلاث طرقات متتابعة. قالت: نعم، فاسمع العلامة التي طلبت، تذهب إلى قصر اللوفر من جهة شارع أشيل وتسأل عن رجل يدعى جرمان، فتقول له «توروبروكسل» فيمضي في كل ما ترسمه له، فتطلب منه أن يدعو لك دي لابورت وصيف الملكة فتبعث به إلي، وكن على يقين من أني أراك لأفيك بعض حقك. قال: نعم. ومضى ففعل كما قالت له غير مخل بحرف. ثم ذهب إلى دي تريفيل فاستأذن عليه فأذن له، فدخل إلى البهو وأقام ينتظر، واغتنم فرصة غيابه فأخر عقرب الساعة خمسا وأربعين دقيقة، ثم جاء دي تريفيل فقال: ما بدا لك لزيارتنا، فإني أظن الوقت قد فات، ثم نظر إلى الساعة فقال: لا والله، بل هي الساعة التاسعة ونصف وقد كنت أظنها أكثر. فأخذ دارتانيان يقص عليه قصة طويلة بشأن الملكة وبيكنهام وغيرهما حتى صارت الساعة العاشرة وخرج، فلما قفل دي تريفيل إلى غرفته عاد دارتانيان فرد عقرب الساعة إلى ما كان عليه وذهب.
الفصل الثامن
تدبير الحيلة
ولما نزل دارتانيان من منزل دي تريفيل أخذ يفكر في محبوبته بوناسيه التي سلبت لبه ووقعت في قلبه موقعا لا يقوى على إيضاحه لسانه، وحاله تنشد:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
अज्ञात पृष्ठ