الصورة الفنية الجديدة تنشأ من ائتلاف عناصر، كانت قبل مختلفة ثم اتصلت في توافق وانسجام، لكنها لا تكون عند مولدها حاصل جمع عناصرها ومقوماتها، إنما تتخذ لها طبيعة جديدة وحياة جيدة، ويكون لها كيان عضوي جديد وقدرة جديدة على التعبير. وإنك لتسلب الشعر قيمته الكبرى إذا فاتك أن ترى هذا الطابع الذي يميزه. ونحن نعلم أن من أخطر النتائج التي قد تترتب على طرائق النقد والتقدير التي قدمناها، أنها قد تنسيك هذا الطابع، فقد تحلل القصيدة إلى عناصرها، وتخطئ فتظن أنه يكفي أن تضم العناصر بعضها إلى بعض؛ لتكون لك قصيدة الشاعر، لكن الأمر في القصيدة كالأمر في الكائنات الحية جميعا، فقد يظفر العالم بكل مقومات الحشرة أو الزهرة أو الإنسان، لكنه مع ذلك يعجز أن يصبها في حشرة حية أو زهرة نامية أو إنسان يعيش يشعر ويفكر، ولا يستطيع أن يأتي بهذه المعجزة إلا الشاعر. إن القصيدة من الشعر كالمركب الآلي فيه عجلات وتروس وأذرعة وأنابيب، ثم أضيف إلى هذه الأجزاء روح فكانت القصيدة، لكن الشاعر وحده يستطيع أن يدرك أي مركب آلي يصلح لقصيدته، على أن المركب الذي يختاره الشاعر يعود بدوره فيؤثر في عمله. ولو رأيتنا اليوم نتحدث عن أدوات الشعر كالأوزان والبحور والقوافي وما إلى ذلك، فاعلم علم اليقين أنه ما كان لنا أن ندرك لهذه الأشياء وجودا لو لم يخلقها الشعراء. وإن النقاد ليحسنون صنعا - إذ هم يقتتلون في بحور الشعر وما إليها - أن يذكروا أن بحور الشعر هي صنيعة الشعراء، هي ما يجري فيه الشعراء شعرهم بالفعل، لا ما يقرر أصحاب النظريات النقدية أنه يصلح للشعر، وينبغي أن يكون أداة في يد الشاعر. ولنعد بعد هذا الاستطراد الواجب إلى حديثنا في الرواية المسرحية.
الطابع الذي يميز الرواية المسرحية من سائر الفنون الأدبية أنها أدب يمثل، أي أنها أدب ينطق به الممثلون على مسرح، فيه مناظر على جوانبه، وأمامه نظارة يجلسون في بناء على نحو معين، ولا بد لنا أن نتساءل عن القوة المعبرة في هذه العناصر، بحكم تكوينها وطبيعتها، فمن تلك القوة المعبرة الكامنة فيها جميعا تتكون الرواية المسرحية.
الرواية المسرحية تمثل في مسرح ليشهدها نظارة، والنظارة ناس كسائر الناس من رجال ونساء، جاءوا في وقت معين ليرجعوا في وقت معين، فلا مندوحة للرواية أن تحدد الزمن الذي يلزمها، للتعبير عما تريد أن تعبر عنه، ومن ثم نشأت ضرورة في إنشاء الرواية المسرحية، أن يختار كاتبها من الفعل الذي يريد تمثيله، أعقابه التي تحرك الدهشة والعجب في نفوس المشاهدين، وليس له أن يصور الفعل بكل دقائقه المفصلة وأجزائه المعقدة المركبة المتشعبة، التي تقع في الحياة الحقيقية الجارية، وترتب على ذلك أيضا إيثار الرواية المسرحية لأنواع من الحوادث، تضم كل واحدة منها أكبر ما يمكن ضمه من العناصر المثيرة، حتى يتركز في الزمن القصير المحدد لتمثيلها مقدار كبير من الحوادث التي تستوقف النظر. وليس معنى ذلك بالطبع أنه كلما ازداد الفعل المختار إثارة للنفوس، ازدادت الرواية روعة وجودة في فنها، فليس كل مقومات الرواية المسرحية فعلا مثيرا، إنما هي كائن عضوي مركب فيه مئات الألياف والأنسجة والخلايا، ولكل من هذه العناصر الكثيرة خصائصه، ولا تبلغ الرواية مرتبة الكمال إلا إن جاءت هذه الأجزاء كلها متسقة متفقة متناغمة، لا تنافر بين نغماتها ولا نشاز، فإن أبرز عنصر واحد منها في إفراطه - بغض النظر عما تقتضيه سائر العناصر - فقد يحدث التعارض والتضارب، ومن ثم الاضطراب والنقص والسوء، فربما كان الغلو في اختيار الحوادث المثيرة طاغيا على عنصر آخر، كالممثل مثلا، فلا يمكنه من إخراج كل ما يستطيع إخراجه من قوته. ونعود فنقرر أن الرواية المسرحية تزداد كمالا، كلما زال التنافر بين العناصر المكونة لها، فلا يطغى عنصر منها على عنصر، وتتحد خيوطها جميعا في وتر واحد يخرج نغمة واحدة. خذ مثلا روايتي شيكسبير «تيتس أندرونكس» و«رتشرد الثالث»، تجد الأولى بغير شك أكثر ازدحاما بالحوادث المثيرة من الثانية، ولكنها في الوقت الذي أذنت فيه لعنصر من عناصرها أن يبرز قوته على هذا النحو، حدت من قوة عنصر آخر، فالممثل الذي يمثل «تيتس» يوضح بأعماله كيف يمكن لرجل أن يؤثر في مجرى الحوادث بقوته الجسدية العضلية، مع أنه لو بين إلى جانب ذلك كيف يؤثر في مجرى الحوادث، بقوة أخلاقه وقوة فكره، لحقق الشخصية الإنسانية أكثر مما فعل، وهذا ما قصدناه حين قلنا إن كثرة الحوادث المثيرة في الرواية، قد طغت على عنصر الممثل، فلم تسمح له أن يبرز كل ما يستطيع، وبهذا بعدت الرواية عن الكمال. أما «رتشرد الثالث» فقد أزالت هذا التنافر بين العنصرين: عنصر الحوادث، وعنصر الممثل؛ فجاءت أكمل فنا من زميلتها، إذ هي تمثل الحوادث والشخصية الإنسانية في اتزان بحيث لا يطغى جانب منهما على جانب. ونلخص ما نريده فنقول: إن الرواية المسرحية تتبع قانونها الذاتي وتنساق مع طبيعتها، إذا أباحت لنفسها أن تختار من الحوادث ما يدهش ويثير، على شرط ألا يكون في تصوير الفعل على هذا النحو ما يحد قوة أخرى لعنصر آخر من عناصرها، تستطيع أيضا استغلالها وإبرازها.
ونحن إذ نضع الممثل في اعتبارنا عنصرا أساسيا من عناصر الرواية المسرحية، نتساءل: ما دامت الرواية كغيرها من صور الأدب، لها مجالها الخاص وقوتها الخاصة في تمثيل الفعل، فأي نوع من الفعل يصلح لها أكثر من غيره - مع العلم بأنها تستخدم إنسانا بشريا وسيلة لتمثيل فعلها؟ الأمر واضح جلي، فالممثل - وهو إنسان من البشر - يكون في أحسن حالاته ومواقفه إن مثل فعلا إنسانيا مما يأتيه البشر، فالأفعال الإنسانية هي مجال الرواية المسرحية، وعليها أن تتجنب غير ذلك من الأفعال الخوارق التي تقتضي طبيعة غير طبائع البشر، فليس من شأنها أن تمثل فعل القوى الطبيعية، ولا فعل الحيوان والطير. نعم لها أن تحدث - إذا اقتضى الأمر - رعدا «مسرحيا» أو تيارا من الماء جارفا، لكن إن غالت في ذلك بحيث لم تعد هذه الظواهر الطبيعية عنصرا ثانويا، يساعد على اتساق الرواية في مجموعها وحدة متصلة؛ أقول إن غالت الرواية في تصوير هذه الظواهر الطبيعية، فجعلتها عنصرا أساسيا مقصودا لذاته ، فقد خرجت على حدودها الطبيعية من جهة، وأذنت لعنصر واحد أن يطغى على سائر العناصر من جهة أخرى. وكذلك لا يجوز للمسرحية أن تمثل فعل الطير والحيوان. وقد ترى روايات يقوم بأدوارها طير وحيوان، ولكن ذلك لا يهدم القاعدة ولا يشكك في صحتها؛ لأن الطير والحيوان في أمثال هذه الروايات تمثل الآدميين وأفعالهم بطريقة الرمز. ثم هل للرواية المسرحية أن تدخل عنصرا روحانيا بين عناصرها؟ هل لها أن تقبل بين عناصرها أربابا وأشباحا وجنيات وساحرات؟ الجواب بالإيجاب على شرط أن تعامل - كالطير والحيوان - معاملة الآدميين خلقا وسلوكا، ومع ذلك فالذوق المسرحي الحديث ينفر من أمثال هذه الخوارق ولا يستسيغها. وكم يعاني المخرج الحديث في روايات شيكسبير، حين يخرج له الشبح في «هاملت» أو في «ماكبث». ولقد كانت هذه الأشباح - فيما يظهر - أيسر تناولا في عصر شيكسبير، بل في عصر اليونان الأقدمين، ولنا إلى ذلك عودة.
الفعل الإنساني - إذا - هو مجال الرواية المسرحية، لكنه الفعل الإنساني ممثلا وظاهرا في سلوك مرئي مشهود. ونقول ذلك لأنك قد تجد من المسرحيات ما يقل فيه الفعل الجسدي المنظور قلة تلفت النظر، ويكثر فيها الكلام، ولو أن كثرة الكلام في المسرحية وقلة العمل، لا تخرجها عن حدودها الطبيعية؛ لأن الكلام ضرب من الفعل الإنساني على كل حال، لكن حصر الفعل البدني في دائرة ضيقة يعرض فن الرواية لخطر عظيم، وهو أن يفقدها قوة كامنة في أحد عناصرها، وبذلك يضيع التوازن واستغلال العناصر إلى أقصى حد مستطاع، فلا تتوفر فيها شروط الجودة والكمال. وكم من مسرحية قضي عليها بالإفلاس والفشل؛ لكثرة القول فيها وقلة العمل، وفي رواية «شو»: «الإنسان والإنسان الأعلى» منظر لا فعل فيه ولا حركة، فيوشك المخرجون جميعا أن يسقطوه حين يهيئون الرواية للتمثيل، ومع ذلك فالمسرحية الحديثة أميل من سابقتها إلى الحد من الفعل الجسدي فوق المسرح، وذلك بحكم الرغبة - التي أخذت تشيع - في أن تنحصر مناظر الرواية في أمكنة مسقوفة، أعني أن تمثل الرواية من الأفعال ما يمكن حدوثه داخل الدور، وتهمل منها ما يقتضي السهول الطلقة والعراء المكشوف، وفي هذا بالطبع تحديد شديد لما يمكن تمثيله، فلا معارك ولا جماهير محتشدة ولا حقول ولا غابات، إلى آخر هذه الأشياء التي لا تقع بين الجدران. ولنا كذلك إلى هذا الموضوع عودة.
كمال الرواية المسرحية - كما رأينا - في تمثيلها للفعل الإنساني، وذلك راجع قبل كل شيء إلى وجود الممثل - وهو إنسان - بين عناصرها التي تكون خامتها، لكن الممثل لا يقف وحده فردا قائما بذاته، إنما تحيط به جماعة من الناس هو عضو من أعضائها، فماذا تستفيده المسرحية من هذا العنصر الجديد؟ أتراه يضيف إلى قوتها المعبرة قوة جديدة؟ وازن في ذلك بين المسرحية والقصيدة الغنائية، فالشاعر الغنائي إذا ما انطلق يتغنى بشعره، فهو إنما يحصر غناءه في نفسه ويسمو بوجوده الذاتي، حتى يبلغ أوجا يطلق فيه نفسه من قيودها لتخرج مكنونها، فهو يضع نفسه في عالم خيالي لا يقيم في وجهه الحوائل والحواجز، عالم يخلقه بخياله يسود فيه سيادة مطلقة، فيستطيع أن يقول في نفسه ما يشاء، عالم من خلاء لا يسكنه سواه، فلا اهتمام إلا بشخصه، وليس لشيء غير شخصه وزن ولا قيمة، وإن كان لشيء قيمة ووزن؛ فلأنه يتصل بشخصه ويكتسب وجوده من وجوده. أما في الرواية المسرحية فالممثل يعبر عن نفسه في عالم مأهول، فتراه في هذا العالم يفعل فيكون لفعله رد فعل في سواه، أو يفعل سواه فيكون لفعلهم رد فعل فيه. هو في عالم أرضي يتفاعل فيه مع غيره، يؤثر في الناس ويتأثر بهم. وإذا فالرواية المسرحية الكاملة هي التي تضع شبكة الأفعال وردود الأفعال في صورة طبيعية تتفق مع جماعة إنسانية. الرواية الجيدة لا تمثل الفعل الإنساني في خلاء بل تمثله في مجتمع، ولا تمثله على المريخ بل فوق هذا الكوكب الأرضي، وفي هذه الحياة الدنيا. الرواية الجيدة تمثل الفعل الإنساني من جانبه الاجتماعي، لا من جانبه الفردي كما تفعل القصيدة الغنائية، هي تصور لنا الأفراد وحدات من مجتمع، لا أفرادا استقلوا بوجودهم.
هذه الصفة الاجتماعية التي تكون جزءا أساسيا من طبيعة الرواية المسرحية، هي التي تفسر لنا كثيرا من الظواهر الغربية في تاريخ المسرحية الحديثة، فكيف حدث - مثلا - للمسرحية الحديثة ألا تكتفي بتخصيص شطر عظيم من مجالها واهتمامها للنشاط الاجتماعي، وأن تغالي فتجعل من نفسها ميدانا للبحث الاجتماعي وعرض نظريات الاجتماع؟ لماذا نجعل بين روايات العصر الحديث عددا ضخما لا يدور إلا حول محور واحد، هو شرح مشكلة اجتماعية أو علاج لمرض اجتماعي؟ انظر إلى «شو» و«جولز ورذي» و«باركر» من أدباء المسرحية في العصر الحديث، تجدهم قد دفعوا أدبهم المسرحي في الاتجاه الاجتماعي إلى نهايته، فأصبحت الرواية المسرحية تفوق كل ضروب الفن الأخرى في تصوير وجهة النظر الاجتماعية وتمثيلها. أتظنها مصادفة عرضية عابرة أن ينتج أحسن الروايات المسرحية من «إبسن» إلى يومنا هذا رجال يعتنقون الاشتراكية مذهبا اجتماعيا؟ ثم كيف نعلل خلو الأدب الإنجليزي من الإنتاج المسرحي فترة طالت، فامتدت من عهد «شردان» و«جولد سمث» في منتصف القرن الثامن عشر، بحيث لم تستيقظ من رقادها إلا في ختام القرن التاسع عشر؟ لن نقول إنه عصر ضعف فيه الأدب وعز فيه الأدباء الفحول، فحسبه خصوبة وغزارة أن يكون بين رجاله «وردزورث» و«كولردج» و«شلي» و«كيتس» و«تنسن» و«براوننج». لبثت الرواية المسرحية خامدة في الأدب الإنجليزي ما يزيد على قرن كامل، حتى أيقظها كاتب مسرحي من النرويج هو «إبسن»، أفلا تكون هناك علاقة بين النزعة الفردية القوية، التي تملكت النفوس طوال تلك السنين، وبين موات الأدب المسرحي؟ أليس لنا أن نقول إنه لا رجاء في أدب مسرحي قوي، إلا إذا شاع في الناس شعور اجتماعي، يحس معه الفرد أنه لا يتحرك في خلاء، إنما يحيا في عالم مأهول يؤثر فيه ويتأثر به؟ لقد أنشأ «بيرن» في فترة الجدب المسرحي كثيرا من الروايات، لكنها فشلت جميعا؛ لأنه لم يستطع أن يجاوز حدود نفسه إلى سواه، وكذلك كتب «براوننج» الروايات، ولكنها فشلت أيضا لأنها لا توضح أثر أشخاصها بعضهم في بعض. عني «براوننج» في مسرحياته بالفرد، حتى لقد أطلق عليها «مسرحيات وجدانية»، فجاءت أبعد ما تكون المسرحيات عن كمالها الفني، باعتبار نوعها لا باعتبار شعرها.
الرواية المسرحية إذا محتوم عليها - بحكم طبيعتها - أن تمثل فعلا إنسانيا، فعلا من شأنه أن يقع من الرجال والنساء في هذه الحياة، لكنها تنظر إلى الفعل يأتيه الفرد من حيث علاقته بالأفعال يأتيها سائر الأفراد، أو بعبارة أخرى تنظر إلى الأفعال وردودها، تنظر إلى الفعل من جانب اجتماعي، وقد يكون بين الفعل ورد الفعل صنوف من الروابط والعلاقات، لا تقع تحت الحصر والتحديد، ولكنا نستطيع أن نجمع العلائق التي تصل فردين أو جماعتين، تحت نوعين رئيسيين، فهي إما علاقة ود أو نفور، وللرواية المسرحية أن تختار ما شاءت من النوعين، لكنها توشك ألا تختار منهما إلا نوعا واحدا، هو ذلك الذي فيه عداوة ونفور؛ ذلك لأن الرواية تمثل ليشهدها نظارة في مسرح، وهذه الحقيقة قد مالت بالأدب المسرحي - كما رأينا - نحو الحوادث المثيرة والأفعال، التي تبعث الدهشة في النفوس، ولا شك أن العداوة بين الناس أبعث على الدهشة من التغني بأناشيد السلام. إن العين تجذبها المعركة تنشب بين رجلين أكثر مما يستوقفها الرجلان يتصافحان في ود وصفاء، إلا إن كانت المصافحة مقدمة للقتال، أو ممهدة لصداقة بعد قتال! ومن ثم كان موضوع المسرحية المفضل المختار أفعال الفرد التي تصطدم مع أفعال الآخرين. وكل حبكة مسرحية هي في حقيقة الأمر مصطرع فيه تضارب وصدام، وأغلظ أنواع الصراع هو بالطبع ما اشتجر فيه المتقاتلان بالأكتف ضربا وصفعا، وقد يتخذ الصراع صورة أعلى، فينافس بطل الرواية نذلها منافسة تنتهي بنصره وفوزه بالجزاء، والجزاء امرأة، تلك هي الحبكة التي لا تكاد تتغير فيما يسمى «بالميلودرامة»، والميلودرامة مسرحية ترمي إلى تحريك الانفعالات الشديدة في نفوس المشاهدين، ثم تنتهي بخاتمة سعيدة، وقد كانت فيما مضى تتخللها الأغاني، لكن الأغاني لم تعد شرطا لها. ولما كان الصراع فيها بين البطل والنذل محور الحوادث، كانت ميدانا صالحا لتمثيل الفعل الجسدي، وبهذا اتصفت بأخص خصائص المسرحية الجديدة، لكنها معيبة من ناحية أخرى، وهي أنها لا تتعمق في الحوادث والأشخاص، فلا تمكن الفن المسرحي أن يستغل كل قوته المعبرة الكامنة في طبيعته؛ إذ لا تتيح للممثل أن يعرض الإنسان في تعقده وتشعبه، كما ينبغي له أن يعرض، لكن الكاتب المسرحي متأثر بكثير من العوامل، التي تحدد له نوع الصراع الذي يختاره موضوعا لروايته.
فمن هذه العوامل الكثيرة التي تسير الكاتب المسرحي في فنه، وتضطره اضطرارا أن يتخذ لنفسه طريقا معينا، أنه يريد أن يشكل الحوادث التي تقع خلال ساعتين، تشكيلا يوحد بينها ويكسبها قوة وشدة وقع في نفوس نظارته، فهو ملزم بالضرورة أن ينصرف بأكثر عنايته إلى البطل، فيوليه اهتماما لا يظفر بمثله سائر أشخاص الرواية، وبذلك يرسخ البطل في أذهان المشاهدين أكثر من سواه، ولكن لا بد لهذا البطل أن يصطرع ويختصم، وأن يكون الصراع وأن تكون الخصومة مع ند وقرين، فماذا يصنع الكاتب وكل أشخاص الرواية أدنى منه شأنا وأقل قوة وخطرا؟ إذا فليثر معركة بينه وبين جماعة، أو قل بينه وبين طائفة اجتماعية، أو بينه وبين تقاليد المجتمع وعقائده، وقد يؤدي ذلك إلى انتقال ميدان الصراع من الدنيا الخارجية إلى العالم الباطني، إلى دخيلة نفسه، فيكون موضوع الرواية صداما بين البطل ونفسه، بين نوازعه المختلفة ودوافعه المتعارضة، بين واجبه الوطني وولائه لأسرته - مثلا - أو بين الحب والواجب أو بين نداء العقل ونداء القلب وهكذا. في مثل هذه الحالة نرى البطل، وكأنما تمزقه النوازع المختلفة والدوافع المتعارضة تمزيقا مخيفا، ويترتب على ذلك أن يجعل الكاتب المسرحي لهذه العوامل الباطنية الماثلة، قوة أعنف مما يجعل للفرد الذي يحتويها، وتلك ناحية سنعود إليها بعد حين، وحسبنا أن نقول إن مثل هذه المسرحية تمثل فعلا لا يقع في صميم المجال المسرحي، وإذا فهو فعل لا يمكن للمسرحية أن تبلغ فيه حد الكمال؛ لأنه خارج عن طبيعتها، أو قل إنه فعل لا يستغل كل عناصر الرواية المسرحية، فهو يهمل المسرح ولا يستخرج منه كل ما يمكن أن يستخرجه من قوة تضيف إلى قوة التعبير.
الفعل الذي يمثل المسرح هو فعل إنسان، قد تضارب وتعارض مع أفعال سائر الناس، ولكن أي صراع يناسب التمثيل المسرحي؟ ستقول: هو الصراع الذي يقتضيه الجو الذي تقع فيه الحوادث. فأي المناظر وأي الجواء يكون المسرح على أكمل مراتبه وهو يمثلها؟ لقد رأينا أن المسرح بمثابة الميدان، يلتقي عليه الممثلون فيتفاعلون، كما يلتقي الناس في الحياة الواقعة، فهو وسط اجتماعي لا يكون فيه الفرد قائما بذاته، لكننا نعود فنقول إن الحياة الاجتماعية التي تربط الأواصر بين الفرد وغيره صنوف وأشكال، فقد تكون «الجماعة» أسرة، وقد تتدرج في الكبر والاتساع فتكون جمعية أو قرية أو حزبا سياسيا، أو سكان هذه الأرض كلها، أو كل ما يعمر الكون من أرواح، فهل يلائم الرواية المسرحية جماعة من هذه الجماعات دون أخرى؟
अज्ञात पृष्ठ