هكذا ترى للدوبيت حركة مرتبة النغم حسنة التوقيع، تسير ضرباتها في انتظام صارم كأنها كتيبة من الجند تسير بخطوة واحدة ثابتة، لكن هذا الانتظام السوي نفسه هو للدوبيت نقيصة تهبط بمنزلته في حكاية القصة دون منزلة الشعر المرسل. وقد حاول «دريدن» - في أواخر القرن السابع عشر - أن يعالج في الدوبيت هذا النقص، فغير من مواضع الوقف بحيث تتباين الأزواج ولا تقع في الأذن رتيبة مملولة، لكن محاولته إن أفلحت في التغلب على الرتابة المملة، فقد بقيت أزواج الأبيات على استوائها واطرادها الذي يمنعها من العلو إلى الذروة ساعة تعلو العاطفة ويسمو الفكر بجناحيه. يستطيع الدوبيت أن يصعد بالعاطفة والفكر خطوة فوق المجال العادي المألوف في الحياة اليومية، لكنه يعجز عن الضرب في أجواز السماء إلى أوجها، كما يعجز - عادة - عن الهبوط إلى العادي المألوف. هو أصلح ما يكون في قصة تموج بالحوادث الخلابة التي تستوقف الأنظار بغرابتها، بحيث تكون حوادث القصة هذه هي مركز الانتباه ومحور الاهتمام، بل ربما كان الدوبيت أصلح بحور الشعر جميعا في رواية قصة لا تعنى بالحوادث، على أنها مجرد أفعال وقعت كما تقع الحوادث في الحياة، بل تحاول أن تكسب الحوادث قوة فوق قوتها الذاتية الطبيعية. وكذلك يصلح الدوبيت في شعر الهجاء؛ لما يضيفه إلى الحوادث التي يرويها من قوة، وخير مثال لهذا قصيدة «دريدن» الهجائية المشهورة «أبشالوم وأكيتوفيل»؛
3
ففيها ترى الدوبيت في يد الشاعر أداة طيعة تعينه على السير بالحوادث حتى تتكامل له القصة، لكنه في الوقت نفسه يزيد من ملامح الصورة قوة بحيث تجيء أقرب إلى الصور «الكاريكاتورية» منها إلى التصوير الصادق للأشخاص الذين يروي عنهم في قصته. ومن مزايا هذا البحر أيضا أنه يمكن الشاعر من بعض الانحراف عن سير القصة دون أن يتأثر بالسياق؛ لأنه إن اعترض مجرى الحوادث، بزوج يحشره بين زوجين، لما كانت هذه الزائدة استطرادا يلفت النظر ويعطل المسير. ولسنا نرى بين أبحر الشعر الإنجليزي كلها بحرا أصلح من الدوبيت في شعر الهجاء، أو في شعر النقاش بالحجة والدليل، فلأزواج الأبيات ما للنصل الباتر من حدة وبريق، فيقع كل منها موقع الحد المرهف على المهجو، وتتلاحق الضربات تلاحقا لا يدع للمهاجم فرصة يفيق فيها، وكذلك قل في شعر يراد به إقامة الدليل وإنهاض الحجة. على فرض أن هذا موضوع صالح للشعر فيستحيل أن تجد بحرا يدنو من الدوبيت في حسن أدائه لهذا الغرض؛ لأنه يسير بالنقاش خطوة في إثر خطوة كأنه بحث منطقي منظم تتعاقب فيه المقدمات مرتبطة متصلة، فما تزال الأدلة والشواهد يأخذ بعضها برقاب بعض، وتتجمع منها واحدة فوق واحدة حتى ينتهي التدليل إلى خاتمة مركزة في هيئة الحكمة المستندة إلى أقوى برهان وأصدق دليل. اقرأ - مثلا - «مقالة في الإنسان» لبوب، وهو رب القريض في هذا البحر غير مدافع، تجد في القصيدة روحا يوحي إليك بقوة في منطق الفكرة وسلامة المقدمات والنتائج. والواقع أن منطقه في القصيدة واه متهافت ضعيف، وإنما أوحى بذلك الروح فيها طريقة نظمها؛ فمن شأن الدوبيت أن يضع الفكرة في حدود البيتين، فيبلورها ويركزها، فتوهم السامع أنها الرأي القاطع الجازم الذي لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه. من أجل ذلك كان لهذا البحر سيادة مطلقة في العصر الاتباعي (الكلاسيكي) في تاريخ الأدب الإنجليزي، وموقعه النصف الأول من القرن الثامن العشر؛ لأن أدباء الاتباع - على نقيض أصحاب الابتداع (الأدب الرومانتيكي) - يجولون بأشعارهم في مرحلة وسطى، لا هم يرتفعون إلى اللحظات التي تسمو فيها العاطفة إلى أحدها، ولا هم يهبطون إلى حيث تعمق الحياة إلى أغوارها. وهذا أنسب الظروف للدوبيت؛ فلا هو يبلغ الذرى، ولا هو ينزل إلى الأعماق، وإنما يجيد غاية الإجادة التعبير عن المعاني حين تكون وسطا بين الطرفين. ومن أجل هذا أيضا تجد أدباء المسرحية يستخدمون الدوبيت عادة ليختموا به فصلا أو منظرا أو خطبة؛ لأنه يقع في أذن القارئ أو السامع بمثابة الستار المنسدل.
هذان هما البحران الرئيسيان اللذان يجري فيهما الشعر القصصي، وليس ينفي ذلك بالطبع أن بعض الشعراء قد يختار غيرهما لقصصه، لكنها قلة ولهما الكثرة الغالبة. أما الشعر الغنائي الذي يعبر عن الوجدان ولا يقص الحوادث، فبحوره أكثر تنوعا وأوسع نطاقا، وهي بصفة عامة أعقد تفصيلا من بحور الشعر القصصي؛ فكلها يتألف من مقطوعات، وكثيرا ما تكون المقطوعات معقدة التأليف متشعبة في تفعيلاتها من حيث الأوزان والقوافي، وليس في هذا التعقيد والتشعب بالقياس إلى بساطة الشعر القصصي ما يدعو إلى العجب، فلسنا في القصيدة الغنائية الوجدانية إزاء قصة بسيطة عن أشخاص وحوادث، إنما نحن في هذا الشعر إزاء التعبير عن عالم العواطف والمشاعر التي تجيش في صدورنا، وهي من التنوع والتباين والتغير بما يستلزم هذا التعقيد والتشعب في وسيلة التعبير. والقصائد الغنائية أنواع تختلف باختلاف العاطفة التي تعبر عنها القصيدة؛ فهنالك «الأغاني»، وقد تكون الأغنية مما يتغنى بالحب أو بالشراب أو بجمال الربيع أو بألوان لا تنتهي من ألوان الغناء، ولكنها على اختلافها تعبر في مجموعها عن المشاعر التي يشترك فيها الشاعر مع غيره من الناس، على الرغم مما لها من قوي الأثر في حياة الشاعر الخاصة؛ ولهذا كانت «الأغاني» أبسط أنواع الشعر الغنائي بناء وتركيبا، فكلما قلت الفردية الذاتية في الشعر قل بناؤه تعقيدا. الأغنية - إذن - بسيطة التركيب لشيوع موضوعها وعدم اقتصارها على شعور قائلها، ولو أنك قد تجد شعراء الأغاني أحيانا - وخصوصا في أغاني الحب - يحسون العاطفة قد تفردت في نفوسهم، وتميزت عن عواطف الناس بطابع فردي خاص، رغم اشتراك سائر الناس معه في اسمها ونوعها؛ فالحب هو الحب عند المحبين جميعا، لكن الشاعر الغزل قد يرى في حبه ما يجعله مخالفا للحب عند الآخرين. هكذا كان الأمر عند الشعراء الطوافين في فرنسا في العصور الوسطى، وهكذا كان عند «بترارك» الشاعر الإيطالي في عصر النهضة. لذلك استدعى هذا الحب الفردي بعض التعقيد في بناء القصيدة الغنائية؛ ومن ثم نشأت المقطوعة الأربع عشرية
4
على يدي «بترارك» وكان له فيها فنه الخاص. لكن ضروب النظم التي ابتكرها الطوافون في الشعر الفرنسي، وابتكرها «بترارك» في الأدب الإيطالي، سرعان ما أصبحت نماذج لمن جاء بعدهم من الشعراء يحتذونها؛ إذ شاع فيهم نوع الحب الجديد بفعل العدوى، وبات يحس المحب إزاء حبيبته ما أحسه «بترارك» نحو معشوقته، فيجري غناءه الغرامي على نحو ما أجرى «بترارك» الغناء.
وهنالك من الشعر الغنائي أيضا «الترانيم» و«الأناشيد» و«المراثي» و«الأغاني الشعبية» وغيرها، لكل منها خصائص تميزها، وقد تتمسك إحداها ببحر تقليدي لا تخرج على أوضاعه. ولسنا نستطيع أن نفيض القول في هذه الأنواع، فحسبنا في بعضها كلمة موجزة. ونريد أن نؤكد قبل المضي في الحديث أن الصورة العروضية التي اختص بها كل من هذه الضروب الغنائية، إنما شاعت بين الشعراء لأنها أنسب القوالب لصياغة المعنى وأدائه في كل مجال على حدة؛ فالنشيد ينظم ليتغنى به حشد من الناس، ليحمدوا به الله ويبتهلوا إليه في ظروف تتطلب من النفوس خشوعا ووقارا. أما الأرجوزة الغزلية أو القصيدة الغرامية فتنظم معطرة لتصلح للغناء بين يدي المعشوقة في مخدعها. لهذا يميل شاعر النشيد إلى صياغة قصيدته في بناء متسق منسجم، وكثيرا ما يكون في مقطوعاته بساطة وقوة وجلال، وبخاصة إن قصد بها إلى تمجيد الوطن في أعياده القومية وذكرياته الخالدة. ومثل هذا النشيد ذي البناء الفخم الجليل ينسب إلى الشاعر اللاتيني «هوراس» فيقال «نشيد هوراسي»؛ لأنه منشئه وواضع أساسه. لكن من الأناشيد ما لا يأخذ بالبساطة الهوراسية، ويتأنق ويكثر من التفعيلات والأجزاء، وينسب هذا النوع إلى الشاعر اليوناني «بندار» فيقال «نشيد بنداري»، وأبرز خصائصه أنه يتألف من وحدة ثلاثية، وذلك أن النشيد البنداري كانت تغنيه جوقة في نوع من الرقص الحلقي؛ فمقطوعة من القصيدة تلازمها حركة الراقصين من اليمين إلى اليسار، والمقطوعة التي تليها تلازمها حركة من اليسار إلى اليمين، وفي المقطوعة الثالثة يقف الراقصون في سكون، وهذه الوحدة الثلاثية يكررها الشاعر في قصيدته عددا من المرات كما يشاء. ومن أمثلة هذه الأناشيد في الشعر الإنجليزي قصيدة «شلي» وعنوانها «نشيد الرياح الغربية»، وقصيدة «كيتس» وعنوانها «نشيد العندليب»، وقصيدة «سونبيرن» «نشيد عيد الميلاد»، وقصيدة «تنسن» «الدوق ولنجتن». وليست هذه الأناشيد في موضوعها شبيهة بأناشيد بندار إلا في وقار الموضوع وجد العاطفة. وكان الأصل في النشيد أن يكون جماعيا تنشده طائفة من الناس في صوت واحد في مناسبات قومية، كالانتصار في الحروب أو الظفر في حلبة السباق، ولكنك إذ تلقي نظرة عجلى على الأناشيد عند «شلي» و«كيتس» - مثلا - تدرك للوهلة الأولى أنها ليست من الأناشيد الجماعية في شيء. وهذا التحول نتيجة طبيعية للحضارة الحديثة التي أزالت - فيما أزالته من أوضاع المجتمع القديم - الشعائر القبلية والجماعية والقومية التي كانت أول ما أوحى بهذه الأناشيد للشعراء القدامى، لكنك إن تعمقت الأمر بنظرة فاحصة، أدركت في الأناشيد الحديثة روح الجماعة رغم تغير الموضوع. خذ - مثلا - لذلك نشيد «شلي» «في القبرة»، فهو على الرغم من تعبيره عن وجدانه الذاتي الفردي يدير هذا الوجدان حول موضوع ليس قبليا أو قوميا فحسب، بل موضوع عالمي يشتمل العالم كله. وكذلك في نشيده «الرياح الغربية» تستطيع أن تتبع الشاعر مقطوعة بعد مقطوعة وقد تحللت فرديته حتى اندمجت في الرياح التي يوجه إليها النشيد، بل في العالم كله الذي لم تكن الرياح إلا أنفاسه. النشيد - إذن - لون من الشعر الغنائي يعبر عن وجدان الشاعر في علاقته بمجموعة الناس أو ظواهر الطبيعة.
ولن نقول في الترانيم والمراثي والأغاني الشعبية شيئا، فكلها ضروب من الغناء تختلف موضوعا ونظما، لكننا لا نحب أن نطوي الحديث عن الشعر الغنائي قبل أن نعود إلى المقطوعة الأربعة عشرية نطنب فيها القول ونتتبع مراحلها في تطورها؛ لنتخذها مثالا يوضح كيف تنمو صور الأدب، كما تنمو الكائنات الحية جميعا، فتبدأ ناقصة التكوين وتأخذ في الرقي والكمال كلما تقدم بها الزمن على أيدي الشعراء، فلن تجد صورة أدبية خلقها وسواها شاعر واحد.
تتألف المقطوعة الأربع عشرية من أربعة عشر بيتا، وكان أول من أكثر الغناء بها شاعر اللاتين «بترارك» في بث حبه لمهجة قلبه «لورا»، وقد عاش بترارك في عصر جاشت فيه الصدور بجديد الدوافع والحوافز، عصر كان فاتحة عهد جديد في تاريخ البشر يطلق عليه المؤرخون اسم «النهضة»؛ ليدلوا به على أن كل شيء قد هب بعد رقاد طويل همدت فيه العقول وخمدت القلوب قرونا متتابعة. فرأى «بترارك» وجه الحياة على غير ما رآه معاصروه، وأحس الحب على نحو يختلف عما تعود الناس أن يحسوه؛ فأراد أداة جديدة يعبر بها عن تجربة جديدة، وسرعان ما وجد في المقطوعة الأربع عشرية خير أداة تعبر له عما يريد. لقد كانت في حبه للورا لفتة غريبة وجو غير معهود، كانت فيه مثالية يشوبها شيء من شهوة الحس العفة الطاهرة ، ثم كان فيه ما جرى به العرف بين العاشقين من تقديس المحبوبة وعبادتها، كان حبا عذريا وشهويا في آن معا، فكانت هذه العاطفة الجديدة في نفس الشاعر بمثابة التجربة الجديدة التي تطلبت منه أسلوبا جديدا، وكان أسلوبه الجديد في التعبير عن حبه هذا الجديد هذه المقطوعة القصيرة المركبة رغم قصرها، التي تلمع وتسطع بأجزائها المصقولة كأنها أحجار الماس في دقة صنعها، والنجوم الخالدة في لألائها وبريقها. ولم يكد «بترارك» يصوغ لعاطفته هذا القالب الجديد حتى سار الشعراء في إثره جماعات، وباتت المقطوعة الوليدة عرفا سائدا بين عشية وضحاها؛ ذلك لأن المشاعر الجديدة التي كان «بترارك» أول من وعاها وأحسها إحساسا حادا واضح المعالم، كانت
ومضت سنون، وشرع الناس في إنجلترا يدركون في غموض وإبهام مثل هذا الشعور الذي سبقهم «بترارك» إلى تبينه في نفسه، فأحسوا رغبة التعبير، فما أسعفتهم إلا أداة جديدة، هي هذه المقطوعة الأربع عشرية نفسها، فجروا فيها على غرار منشئها، لكنهم سرعان ما وجدوا أنهم إذ ينقلون المقطوعة البتراركية وزنا بوزن وقافية بقافية لا يعبرون عن مثل ما عبر عنه صاحب المقطوعة في لغته الإيطالية، فما وجدوا فيها عندئذ كبير نفع؛ لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى قالب أجوف، إنما أرادوا صورة حية تعبر لهم عن هذا الإحساس الجديد الذي أحسوا فعله في نفوسهم، والذي سبقهم الشاعر الإيطالي إلى إحساس فعله في نفسه؛ فجاهد شعراء العصر الأليصاباتي في إنجلترا - ما وسعهم الجهاد - أن يجدوا في الإنجليزية أداة تساوي الأداة الإيطالية في قدرتها على التعبير، حتى انتهت بهم المحاولة إلى ضرب من المقطوعة الأربع عشرية، يختلف اختلافا بينا عن مقطوعة «بترارك» في الشكل والملامح، لكنه يؤدي بالضبط ما أدته مقطوعة «بترارك» من عاطفة وشعور.
अज्ञात पृष्ठ