Fundamentals and Methods of Da'wah 3 - Al-Madinah International University
أصول الدعوة وطرقها ٣ - جامعة المدينة
प्रकाशक
جامعة المدينة العالمية
शैलियों
-[أصول الدعوة وطرقها ٣]-
كود المادة: IDWH٣٠٣٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
अज्ञात पृष्ठ
الدرس: ١ الإيمان بالقضاء والقدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(الإيمان بالقضاء والقدر)
حقيقة مذهب السلف في الإيمان بالقدر، والنصوص الدالة عليه
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونصلي ونسلم على خير خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها؛ ففي (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل ﵇ الرسول ﷺ عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: -أي جبريل، ﵇ صدقت».
والنصوص المخبرة عن قدرة الله أو الآمرة بالإيمان بالقدر كثيرة: فمن ذلك: قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: ٤٩)، وقوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ (الأحزاب: ٣٨) وقوله: ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ (الأنفال: ٤٢) وقال: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ (الفرقان: ٢) وقال: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ (الأعلى: ١ - ٣).
وروى مسلم في صحيحه عن طاوس قال: أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز.
وروى مسلم أيضًا عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ﷺ في القدر؛ فنزلت: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: ٤٨، ٤٩).
والنصوص في ذلك كثيرة جدًّا؛ فإن النصوص الدالة على علم الله وقدرته ومشيئته وخلقه تدل على قدره ﵎ فالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله ومشيئته
1 / 9
وخلقه، والقدر يدل بوضعه -كما يقول الراغب الأصفهاني فيما نقله عنه ابن حجر العسقلاني- على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم؛ فلله تعالى القدرة المطلقة، وقدرته لا يعجزها شيء، ومن أسمائه ﵎ القادر والقدير والمقتدر، والقدرة صفة من صفاته؛ فالقادر: اسم فاعل من قدر يقدر، والقدير: فعيل منه، وهو للمبالغة، ومعنى "القدير": الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة، لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه؛ ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله ﷿، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (فصلت: ٣٩)، والمقتدر: مفتعل من اقتدر، وهو أبلغ من قدير، ومنه قوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ (القمر: ٥٥).
وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن القدر؟ فقال: القدر قدرة الله، قال ابن القيم: وقال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدًّا، وقال: هذا يدل على دقة أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين.
وهو كما قال أبو الوفا؛ فإن إنكاره إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها، وقد صاغ ابن القيم هذا المعنى شعرًا فقال:
فحقيقة القدر الذي حار الورى ... في شأنه هو قدرة الرحمن
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد ... لما حكاه عن الرضا الرباني
والحق أن تعريف أحمد -رحمه الله تعالى- قد كفى وشفى؛ فالقدر يعني ما قرره الله سبحانه في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ (آل عمران: ١٥٤) وفي قوله: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ (هود: ١٢٣) وغير ذلك من الآيات التي تدل على أنه لا يحدث شيء في الكون إلا بإرادة الله ومشيئته.
قال الطحاوي: وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئتُه تنفذ؛ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء الله؛ فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن، لا راد لقضائه؛ ولذا فإن الذين يكذبون بالقدر لا يُثبتون قدرة الله تعالى.
1 / 10
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: من لم يقل بقول السلف فإنه لا يثبت لله قدرة، ولا يثبته قادرًا، كالجهمية ومن اتبعهم والمعتزلة المجبرة النافية، حقيقة قولهم: أنه ليس قادرًا وليس له الملك؛ فإن الملك إما أن يكون هو القدرة، أو المقدور، أو كلاهما، وعلى كل تقدير فلابد من القدرة؛ فمن لم يثبت له قدرة حقيقة لم يثبت له ملكًا، والذين كذبوا بالقدر لم يوحدوا الله ﷿ فإن نفاة القدر يقولون: خالق الخير غير خالق الشر.
ويقول من كان منهم في ملتنا: إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى، وربما قالوا: ولا يعلمها أيضًا، ويقولون: إن جميع أفعال الحيوان واقعة بغير قدرته ولا صنعه؛ فيجحدون مشيئته النافذة وقدرته الشاملة؛ ولهذا قال ابن عباس: القدر نظام التوحيد؛ فمن وحَّد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده.
وقد تقاطر أهل العلم على تقرير القدر والنص على وجوب الإيمان به، وما من عالم من علماء أهل السنة الذين هم أعلام الهدى وأنوار الدجى إلا وقد نص على وجوب الإيمان به، وبدّع وسفّه من أنكره وردَّه.
يقول النووي -رحمه الله تعالى- في شرحه لأحاديث القدر من (صحيح مسلم): وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر، وأن جميع الواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها.
قال في موضع آخر: تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله ﷾.
ويقول ابن حجر -رحمه الله تعالى-: مذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ (الحجر: ٢١).
1 / 11
تعريفات القضاء والقدر، والفرق بينهما
التعريف بالقضاء والقدر:
التعريف بالقدر:
القدر مصدر، تقول: قدَرت الشيء -بتخفيف الدال وفتحها-: أقدره -بالكسر والفتح- قدْرًا وقدَرا إذا أحطت بمقداره، والقدر في اللغة: القضاء والحكم، ومبلغ الشيء، والتقدير: التروية والتفكر في تسوية الأمر.
والقدر -في الاصطلاح-: ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه ﷿ قدّر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى وعلى صفات مخصوصة؛ فهي تقع على حسب ما قدرها.
وقال ابن حجر في تعريفه: المراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد؛ فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته.
ونقل السفاريني عن الأشعرية: أن القدر إيجاد الله تعالى الأشياء على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها طبق ما سبق به العلم وجرى به القلم.
وهذه التعريفات متقاربة فيما بينها، وهي تفيد أن القدر يشمل أمرين:
الأول: علم الله الأزلي الذي حكم فيه بوجود ما شاء أن يوجده، وحدد صفات المخلوقات التي يريد إيجادها، وقد كتب كل ذلك في اللوح المحفوظ بكلماته؛ فالأرض والسماء أحجامهما وأبعادهما وطريقة تكوينهما وما بينهما وما فيهما؛ كل ذلك مدوّن علمه في اللوح المحفوظ تدوينًا دقيقًا وافيًا.
1 / 12
والثاني: إيجاد ما قدّر الله إيجاده على النحو الذي سبق علمه وجرى به قلمه؛ فيأتي الواقع المشهود مطابقًا للعلم السابق المكتوب، والقدر يطلق ويراد به التقدير السابق لما في علم الله، ويطلق ويراد ما خلقه وأوجده على النحو الذي علمه.
وسئل الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- عن القدر؟ فأجاب شعرًا قائلًا:
فما شئتَ كان وإن لم أشأْ ... وما شئتُ إن لم تشأْ لم يكن
خلقتَ العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وهذا لم تُعِن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن
التعريف بالقضاء:
القضاء: الفصل والحكم، وقد تقرر في أحاديث الرسول ﷺ ذكر القضاء، وأصله القطع والفصل؛ يقال: قضى يقضي قضاء فهو قاضٍ إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه؛ فيكون بمعنى الخلق، وقال الزهري: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه، وكل ما أُحكم عمله أو أُتم أو أُدي أو أُوجب أو عُلم أو نُفّذ أو أُمضي فقد قضي، وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الأحاديث.
وللعلماء في التفرقة بين القضاء والقدر قولان:
الأول: القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر: وقوع الخلق على وزن الأمر المقضى السابق.
1 / 13
يقول ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-: قال العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله.
وقال في موضع آخر: القضاء: الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر: الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل.
الثاني: عكس القول السابق؛ فالقدر: هو الحكم السابق، والقضاء: هو الخلق؛ قال ابن بطال: القضاء هو المقضي، ومراده بالمقضي: المخلوق، وهذا هو قول الخطابي؛ فقد قال في (معالم السنن): القدر اسم لما صار مقدرًا عن فعل القادر؛ كالهدم والنشر والقبض، أسماء لما صدر من فعل الهادم والناشر والقابض، والقضاء -في هذا-: معناه الخلق؛ كقوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ (فصلت: ١٢) أي خلقهن.
وبناء على هذا القول يكون القضاء من الله تعالى أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقديرين؛ فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع.
ويدل لصحة هذا القول نصوص كثيرة من كتاب الله، قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ (مريم: ٢١) وقال: ﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ (مريم: ٧١)، وقال: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (البقرة: ١١٧) فالقضاء والقدر -بناء على هذا القول- أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس -وهو القدر-، والآخر بمنزلة البناء -وهو القضاء- فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء.
معنى الإيمان بالقدر:
ويجب على كل مسلم أن يؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره، ويقصد بالإيمان بالقدر: الإيمان بعلم الله القديم، والإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وفي
1 / 14
بيان ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: الإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون، بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق؛ فـ «أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة»؛ فما أصاب الإنسان لم يكن يخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف؛ كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (الحج: ٧٠) وقال: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (الحد: ٢٢).
وأما الدرجة الثانية: فهي الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة: وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه -سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه-، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته.
وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد.
1 / 15
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن، والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم.
هذا؛ وإن تقسيم القدر الذي يجب الإيمان به إلى خير وشر إنما هو بإضافته إلى الناس والمخلوقات؛ أما بالنسبة لله ﷿ فالقدر خير كله والشر لا ينسب إلى الله؛ فعلم الله ومشيئته وكتابته وخلقه للأشياء والحوادث، هذا كله حكمة وعدل ورحمة وخير؛ فإن الشر لا يدخل في شيء من صفات الله تعالى ولا أفعاله، ولا يلحق ذاتَه ﵎ نقصٌ ولا شرٌّ؛ فله الكمال المطلق والجلال التام؛ ولذلك لا يجوز إضافة الشر إلى الله مفردًا؛ وإنما يجوز أن يدخل الشر في العموم كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الرعد: ١٦) ويجوز أن يضاف إلى السبب كقوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ (الفلق: ١، ٢) ويجوز أن يذكر بحذف فاعله، كقوله تعالى -فيما حكاه عن الجن-: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ (الجن: ١٠).
والحق أن الله تعالى لم يخلق شرًّا محضًا من جميع الوجوه؛ فإن حكمته سبحانه تأبى ذلك؛ فلا يمكن في جانبه تعالى أن يريد شيئًا يكون فسادًا من كل وجه ولا مصلحة في خلقه بوجه ما؛ فإنه تعالى بيده الخير كله والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم النسبة إليه؛ فلو نسب إليه لم يكن شرًّا، وهو من حيث نسبته إلى الله تعالى خلقًا ومشيئة، وليس بشر.
المرض مثلًا شر ومصيبة بالنسبة للإنسان عاجلًا؛ ولكنه خير في الآجل، وخير بالنسبة لله ﷿ لما يعلم ما يعقبه من مغفرة الذنوب وتطهير النفوس، وكذلك سجن أعداء الله للمؤمنين شرٌّ في ظاهره لما فيه من الآلام والمحن؛ ولكنه تمحيص
1 / 16
للنفوس وتطهير للصفوف وتربية للأرواح فضلًا عن الثواب الجزيل والخير العميم، وخلق إبليس فيه حكم كثيرة ظاهرة؛ كتوبة البشر بعد الزلل، واستخراج عبودية المؤمنين لله تعالى بجهاد إبليس وحزبه والصبر على إغرائه وإغوائه، والالتجاء إلى حمى الله واللياذ بركنه الركين.
أدلة وجوب الإيمان بالقضاء والقدر
الأدلة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر:
قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: ٤٩) قال الشوكاني: إن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبسًا بقدر قدره، وقضاء قضاه سبق في علمه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، وقال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ (الأحزاب: ٣٨) قال الحافظ ابن كثير: أي وكان أمره الذي يقدره كائنًا لا محالة، وواقعًا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وقال صديق حسن خان: أي قضاء مقضيًّا وحكمًا مبتوتًا، وهو كظل ظليل وليل أليل وروض أريض في قصد التأكيد، ومن السنة حديث جبريل المشهور، وفيه أنه سأل النبي ﷺ عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره»، وعن جابر بن عبد الله ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه».
قال الحافظ ابن حجر: الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ (الحجر: ٢١).
1 / 17
النصوص الدالة على تقدير الله أفعال العباد:
١ - أعمال العباد جفت بها الأقلام وجرت بها المقادير: عن سراقة بن مالك ﵁ قال: «يا رسول الله، بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن؛ فيم العمل اليوم؟ أفيم جفت به الأقلام وجرت به المقادير؛ أم فيم يستقبل؟ قال: لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر» وفي رواية: «فكل ميسر لما خُلق له».
٢ - علم الله بأهل الجنة وأهل النار: عن علي ﵁ قال: «كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي ﷺ فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس؛ فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا كتب شقية أو سعيدة، فقال رجل: يا رسول؛ أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؛ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة؛ وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟! قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ...﴾ (الليل: ٥، ٦»).
٣ - استخراج ذرية آدم من ظهره بعد خلقه وقسمهم إلى فريقين: أهل الجنة، وأهل النار: عن ابن عباس ﵄ عن النبي ﷺ أنه قال: «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم ﵇ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلًا، قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف: ١٧٢، ١٧٣»).
1 / 18
وعن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال: «خلق الله آدم حين خلقه؛ فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذريته بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي».
٤ - كتابة أجل الإنسان وعمله ورزقه، وشقي أو سعيد، وهو جنين في رحم أمه: عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق قال: «إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح؛ فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل عمل أهل النار فيدخل النار».
وجوب الإيمان بالقضاء والقدر:
يجب على كل مسلم أن يؤمن بعقيدة القضاء والقدر إيمانًا راسخًا لا يقبل الشك؛ بل إنه لا يصح إسلام امرئ ولا يقبل إيمانه إلا بيقينه الجازم بالقضاء والقدر؛ لأن عقيدة القضاء والقدر ركيزة من ركائز الإيمان الست؛ وذلك لأن عقيدة القضاء والقدر قد دل عليها القرآن الكريم -كما ذكرنا-.
وفي السنة يقول ﷺ: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك
1 / 19
شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن "لو" تفتح عمل الشيطان».
- وعن ابن عباس ﵄ قال: قال النبي ﷺ: «واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك».
- وقال ﷺ: «إن أول ما خلق الله تعالى القلم، ثم قال: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة».
- وقال ﷺ: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها ولتنكح؛ فإن لها ما قدر لها».
- وقال ﷺ: «الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره».
فالإيمان بالقدر جزء من عقيدة المؤمن وركن من أركان الإيمان، وإنكاره أو التشكيك فيه كفر بالله ورسوله -عياذًا بك اللهم.
وقال صاحب "العقيدة الطحاوية": خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقدارًا وضرب لهم آجالًا، ولم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، وكل شيء يجري بتقديره ومشيئتِه، ومشيئتُه تنفذ؛ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم؛ فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلًا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلًا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره؛ آمنا بذلك كله وأيقنَّا أن كلًّا من عنده، وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من
1 / 20
يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة؛ فلا يزداد في ذلك العدد ولا يُنقص منه.
وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقي بقضاء الله، وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه ولم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسُلَّم الحرمان ودرجة الطغيان؛ فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن آنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال تعالى في كتابه: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الأنبياء: ٢٣) فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب؛ فمن رد حكم الكتاب كان من الكافرين؛ فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود؛ فإنكار العلم الموجود كفر، وإنكار العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود.
وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرًا محكمًا مبرمًا ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ (الفرقان: ٢) وقال تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ (الأحزاب: ٣٨) فويلٌ لمن صار لله تعالى في القدر خصيمًا وأحضر للنظر فيه قلبًا سقيمًا، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرًّا كتيمًا، وعاد بما قال فيه أفَّاكًا أثيمًا.
1 / 21
وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق وخلق لهما أهلًا؛ فمن شاء منهم إلى الجنة فضلًا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلًا منه، وكل يعمل لما قد فرغ له وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصفَ المخلوق به؛ فهي مع الفعل؛ وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات فهي قبل الفعل إليها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: ٢٨٦).
وأفعال العباد خلق الله وكسب العباد، ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، نقول: لا حيلة لأحد ولا حركة ولا تحوّل لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله، وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره، غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدًا، تقدس عن كل سوء وحَيْن، وتنزه عن كل عيب وشيْن، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
غضب النبي ﷺ من الذين يجادلون في كتاب الله ويتنازعون في القدر:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «خرج رسول الله ﷺ على أصحابه وهم يختصمون في القدر؛ فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب؛ فقال: بهذا أمرتم؟! أو: لهذا خلقتم؟! تضربون القرآن بعضه ببعض؟! بهذا هلكت الأمم قبلكم، قال: فقال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله ﷺ ما غبطت نفسي بذلك المسجد وتخلفي عنه».
1 / 22
وفي رواية للإمام أحمد ﵀ بالإسناد السابق نفسه: «أن نفرًا كانوا جلوسًا بباب النبي ﷺ فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟! وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟! فسمع ذلك رسول الله ﷺ فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: بهذا أمرتم؟! أو بهذا بعثتم؟! أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟! إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا إنكم لستم ممن هاهنا في شيء؛ انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا».
وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة ﵁ قال: «خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نتنازع في القدر؛ فغضب حتى احمر وجهه؛ حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان؛ فقال: أبهذا أمرتم؟! أم بهذا أرسلت إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه».
قال المباركفوري -رحمه الله تعالى-: في (التحفة) في شرحه للحديث السابق: «فغضب حتى احمر وجهه» أي: نهاية الاحمرار؛ حتى صار من شدة حمرته، «كأنما فُقِئ» بصيغة المجهول أي: شق أو عصر «في وجنتيه» أي: خديه «الرمان» أي حبه، فهو كناية عن مزيد حمرة وجهه المنبئة عن مزيد غضبه؛ وإنما غضب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى، وطلب سره منهي، ولأن من يبحث فيه لا يأمن من أن يصير قدريًّا أو جبريًّا، والعباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرع من غير أن يطلبوا سر ما لا يجوز طلب سره.
هذا؛ وبالله التوفيق.
1 / 23
الدرس: ٢ تابع الإيمان بالقضاء والقدر
1 / 25
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(تابع الإيمان بالقضاء والقدر)
أقسام القدر، وحكم التكذيب به
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن استن بسنته وصار على نهجه إلى يوم الدين وبعد:
حكم من أنكر القدر:
من أنكر القدر فقد جحد أصلًا من أصول الشريعة وقد كفر بذلك؛ قال بعض السلف ﵀: انظروا إلى القدرية بالعلم؛ فإن جحدوه كفروا؛ وإن أقروا به خصموا، فإنكار القدر كفر بالله -جل وعلا- ينافي أصل التوحيد، كما قال ابن عباس ﵄: القدر نظام التوحيد؛ فمن كذّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده، يعني الإيمان بالقدر هو النظام، يعني: السلك الذي تجتمع فيه مسائل التوحيد حتى يقوم عقدها في القلب؛ فإذا كذّب بالقدر، معنى ذلك: انقطع السلك؛ فنقض ذلك التكذيب أمور التوحيد.
وهذا ظاهر؛ فإن أصل الإيمان أن يؤمن بالأركان الستة التي منها الإيمان بالقدر، قال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر". لأن الله -جل وعلا- لا يقبل إلا من مسلم.
الإسلام شرط في صحة قبول الأعمال، ومن أنكر القدر ولم يؤمن بالقدر فإنه لا يقبل منه، ولو أنفق مثل أحد ذهبًا.
ثم استدل بقول النبي ﷺ: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»، هنا في قوله: «تؤمن بالقدر خيره وشره» القدر منه ما هو خير ومنه ما هو شر: خير بالنسبة لابن آدم وشر بالنسبة لابن آدم؛ فالمكلف قد يكون عليه قدر هو بالإضافة إليه خير، وقد يكون عليه القدر
1 / 27
بالإضافة إليه شر، وأما بالنسبة لفعل الله -جل وعلا- فالله ﷾ أفعاله كلها خير؛ لأنها موافقة لحكمته العظيمة؛ ولهذا جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال في ثنائه على ربه: «والشر ليس إليك».
فالله -جل وعلا- ليس في فعله شر؛ فالشر بما يضاف للعبد أصيب العبد بمصيبة فهو شر بالنسبة إليه؛ أما بالنسبة لفعل الله فهو خير؛ لأنها موافقة لحكمة الله -جل وعلا- البالغة، والله ﷾ له الأمر كله.
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: "يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك". وهذا لأن القضاء والقدر قد فرغ منه، يعني: تقدير الأمور قد فرغ منه، والله -جل وعلا- قد قدر الأشياء وقدر أسبابها؛ فالسبب الذي سيفعله المختار من عباد الله مقدر؛ كما أن نتيجته مقدرة.
ومن الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله -جل وعلا- جعلك مختارًا، وأنك لست مجبورًا؛ فالقول بالجبر منافٍ للقول بالقدر، يعني القول بالجبر لا يستقيم مع الإيمان بالقدر؛ لأن الإيمان بالقدر إيمان معه الإيمان؛ لأن العبد مختار وليس بمجبر؛ لأن التكليف وقع بذلك.
والجبرية طائفتان: طائفة غلاة وهم: الجهمية وغلاة الصوفية الذين يقولون: إن العبد كالريشة في مهب الريح وحركاته حركات اضطرارية، ومنهم طائفة ليست بالغلاة وهم الأشاعرة ونحوهم الذين يقولون بالجبر في الباطن وبالاختيار في الظاهر، ويقولون: إن العبد له كسب: وهذا الكسب هو أن يكون العبد في الفعل الذي فعله محلًّا لفعل الله؛ فيفعل به فيكون هو محلًّا للفعل، ويضاف الفعل إليه على وجه الكسب -على ما هو معروف في موضعه من التفاصيل في كتب العقيدة المطولة.
1 / 28
ذكر مرتبة الكتابة:
سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة»، هذا فيه دليل على مرتبة الكتابة، وقوله: «إن أول ما خلق الله القلم» معناه -على الصحيح عند المحققين-: أنه حين خلق الله القلم؛ فأول هنا ظرف بمعنى: حين، وإن اسمها ضمير الشأن محذوف، إنه أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، يعني: حين خلق الله القلم قال له: اكتب، فيكون قول: «اكتب» هذا من جهة الظرفية.
وأما أول المخلوقات؛ فالعرش سابق في الخلق على القلم؛ كما قال ﵊ في الحديث الذي في الصحيح: «قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» فقوله: «إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب»، أنه حين خلق قال له: اكتب، والعرش كان قبل ذلك؛ فإذن الكتابة كانت بعد الخلق مباشرة، بعد خلق القلم؛ وأما العرش فكان سابقًا، والماء كان سابقًا أيضًا؛ ولهذا نقول: الصحيح أن العرش مخلوق قبل القلم، كما قال ابن القيم ﵀ في النونية:
والناس مختلفون في القلم الذي ... كُتِب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أم هو بعده ... قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه ... عند الكتابة كان ذا أركان
كيفية الإيمان بالقدر:
أقسام التقدير:
أ- التقدير العام لجميع الكائنات: وهو الذي كتب في اللوح المحفوظ قبل خلق السَّمَوَات والأرض بخمسين ألف سنة.
1 / 29