والمعرقون في النسب أقل نصيبا من حسد الحاسدين عند علوهم، كأنهم فيما يبدو للناس ينالون حق ميلادهم، ولا يبدو للناس مع ذلك أنهم قد أضيف إليهم شيء كثير فوق ما كان لديهم.
والحسد كنور الشمس أحر ما يكون في السفوح الصاعدة، وأقل ما يكون حرارة في البطاح المبسوطة؛ ولهذا يقل حسد الناس لمن يبلغ حظه درجة بعد درجة، ويشتد حسدهم لمن يثب إلى الحظ في سرعة مفاجئة.
والذين يقرنون نجاحهم بالرحلات البعيدة والمغامرات الخطرة، والهموم اللاعجة هم أقل من غيرهم نصيبا من حسد الحاسدين؛ لأن الناس يعلمون أنهم قد جهدوا جهدهم قبل نجاحهم، وقد يشفقون عليهم ويرثون لهم، وما زالت الشفقة دواء شافيا للحسد والغيرة، ومن ثم ترى الدهاة من الساسة على قدر حظهم من الدهاء يبالغون في ذكر متاعبهم والشكاية من أوصابهم؛ لا لأنهم يشعرون بذلك حقا في طوايا قلوبهم، ولكن ليفلوا غرب الحسد ويكبحوا طغيان النقمة والضغينة.
إنما ينبغي أن نذكر هنا أن المشاق التي تفل غرب الحسد هي المشاق التي تفرض على أصحابها فرضا، وليست هي تلك التي ينتزعونها من غيرهم انتزاعا، فما من شيء يضرم الحسد كتضخيم الأعمال وتوسيع المطامع، وما من شيء يطفئ سورته كاستبقاء ذوي المناصب العالية جميع مرءوسيهم في مواضعهم، وتزويدهم بجميع حقوقهم، فيقومون إذن حواجز كثيرة تحول بينهم وبين أعين الحاسدين.
وبعد فإن أكثر الناس تعرضا للحسد كله أولئك الذين يحملون حظوظهم الكبيرة في صلف وعجرفة، ولا يهدأ لهم بال حتى يعرضوا للأنظار مبلغهم من العظمة، إما بالفخفخة الطنانة أو بقمع ما يعترضهم من المناوأة والمنافسة، على حين يتعمد العقلاء أن يقدموا القرابين للحسد بقبول التخطي والإهمال أحيانا، فيما ليس له عندهم كبير طائل.
ومع هذا يحسن أن نذكر أن التجمل بسمت العظمة في غير صلف، ولا عجرفة يعفي صاحبه من الحسد الذي يصيب المتحيلين والمراوغين في إظهار عظمتهم؛ لأن المراوغة معناها هرب الإنسان من الاعتراف بحقه في العظمة، وتسليمه باغتصاب ما هو في حوزته من الحظوظ، فيوحي إلى الآخرين بالقدوة له أن يحسدوه.
ونختم هذا الجزء من المقال بما أشرنا إليه في مستهله، حيث قلنا: إن الحسد ينطوي فيه على شيء من السحر، فعلاجه وعلاج السحر سواء.
أما هذا العلاج فهو نقل الآفة من موضوع إلى موضوع، أو من هدف إلى هدف (كما يصنع السحرة حين يتخذون تعويذة ينقلون إليها فعل المكيدة السحرية).
وكذلك كان عقلاء النابهين حريصين أبدا على أن يبرزوا على المسرح بعض الشخوص؛ لتتلقى عنهم إصابة الحساد، من قبيل الأعوان والخدام تارة، ومن قبيل الزملاء والعشراء تارة أخرى، ولا يعدمون يوما طائفة من أصحاب الطبائع الهحامة يقبلون هذا لقاء ما هم طامحون إليه من السطوة والنفوذ.
ونعود إلى الحسد العام أو الحسد بين جمهرة الأمة، فنقول: إنه لا يخلو من النفع إذا كان الحسد الخاص قد خلا منه بتة، إذ كان حسد الأمم ضربا من الفتوى التي تصدرها الشعوب لعقوبة العظماء، فهو كابح لهم من الغلواء، ومذكر لهم بالتزام الحدود، ويصيب الرجال كلما تجاوزوا في العظمة أقصى الحدود.
अज्ञात पृष्ठ