وأبى البلاط أن يحميه؛ لأن التهم والشبهات استفاضت في البلاد، فتهيب حماته أن يستروه ويتعرضوا لسير التحقيق والمحاكمة؛ مخافة الاتهام بالتواطؤ والمشاركة أو الاعتراف بالافتيات على حقوق الأمة، وبذل الحماية لمن يسخرونهم في تلك السياسة.
فجرى التحقيق مجراه، وأسفرت المحاكمة عن ثلاث وعشرين تهمة اعترف بها باكون، غير التهم التي كان يعوزها الدليل القاطع والشهود المقبولون.
فلم يسع قضاته النبلاء إلا أن يحكموا عليه بأقسى ما في وسعهم من الأحكام، وضاعف في قسوة حكمهم أنهم كانوا على يقين من الإعفاء والمسامحة من جانب البلاط، فقضوا بتغريمه أربعين ألف جنيه وسجنه في البرج بإذن الملك، حتى يأمر بالإفراج عنه، وحرمانه الجلوس في دار النيابة وولاية الوظائف العامة في الدولة الإنجليزية، فأعفاه الملك من هذه الأحكام جميعا إلا العزل وتحريم النيابة والولاية، وظل هذا الحكم نافذا حتى قضى نحبه في سنة 1626 بعد خمس سنوات.
قال باكون في الدفاع عن نفسه: «لقد كنت أعدل قاض في الديار الإنجليزية منذ خمسين سنة، ولكنها رقابة البرلمان التي كانت أعدل رقابة عرفت قط في مدى مائتي سنة.»
وليس هذا القول في الواقع بغريب، فإن قضاة باكون أثبتوا عليه الرشوة، ولم يثبتوا عليه قط أنه حكم في قضية واحدة بما يخالف العدل والحقيقة، ومن أظرف الفكاهات أن يعتذر المعتذرون للقاضي الفيلسوف بأنه كان يحكم بالعدل؛ لأنه كان يقبل الهدايا من الطرفين، وكان قبول الهدايا سنة شائعة بين جميع القضاة في أيامه! ولكنه اعتذار يستحق أن يقال لفكاهته وطرافته، إن لم يكن للحق الذي فيه! •••
ذلك موجز من سيرة باكون في نشأته المدنية، كما كان يسميها، أو نشأة المطامع والمناصب والألقاب، وتلحق بها نشأته البيتية بعد الزواج؛ لأنها لم تكن في الواقع إلا خطوة من خطوات هذا الطريق، ومظهرا عنده من مظاهر البذخ والوجاهة الاجتماعية.
وتشاء المصادفات أن تتم المطابقة بين النشأتين: نشأة البيت ونشأة المجتمع، كما تتم المطابقة بين النموذج الصغير والصورة الكبيرة.
فكما خطب المنصب النافع كذلك خطب الفتاة النافعة، التي يرجو من البناء بها تيسير حاله ولو بعض التيسير، وكما توسط له اللورد إسكس في المنصب كذلك توسط له خطبة تلك الفتاة، وكتب إلى أهلها يقول: إنه لم يكن يشير على نفسه بغير ما أشار عليهم من قبول باكون لفتاتهم، لو كانت الخطيبة أخته أو قريبته أو كان ذا ولاية عليها ... وكما أخفق إسكس في خطبة المنصب أخفق كذلك في خطبة الفتاة ... وكما سبقه منافسه إدوارد كوك إلى منصب النائب العام، كذلك سبقه إلى قلب هذه الخطيبة، أو إلى عقلها فتركت باكون وآثرته عليه.
وينتهي هنا الوفاق بين النموذج والصورة، ويبدأ الاختلاف بينهما، فإن إدوارد كوك قد أسدى لمنافسه أجل مأثرة، وأراحه من أفدح مصاب كما قال اللورد ماكولي في رسالته القيمة عن الفيلسوف؛ لأنه حمل عنه البلاء الذي شقي به طول حياته، وكانت الجائزة التي استبق إليها الندان المتنافسان ربة جحيم في مسلاخ ربة بيت، وهي تلك اللادي هاتون التي خاب معها باكون خيبته السعيدة.
ثم تم بناؤه (في سنة 1606) بأليس برنهام
अज्ञात पृष्ठ