فهو إذن لم يجر عن القصد حين أعطى من الغنيمة جماعة من هؤلاء الذين أذن الله له في أن يتألف قلوبهم؛ وليس أدل على أن النبي مضى في رعاية العدل إلى أبعد حد ممكن، من هذه السنة التي استنها في نفسه فأحب الخلفاء أن يسنوها بعده في الناس فلم يبلغوا من ذلك ما أرادوا؛ فقد أقص النبي من نفسه، وزعم عمر أثناء خلافته أن أي عامل آذى بعض رعيته بغير الحق فهو عرضة لهذا القصاص، ويقال إن بعض الرعية شكا إلى عمر في الموسم أن عامله قد ضربه بغير الحق، فلما استبان ظلم العامل لعمر قضى بأن يقتص منه شاكيه، وفزع العمال إلى عمر يطلبون إليه أن يقيل هذا العامل من هذا القصاص؛ لأنه يغض من هيبة السلطان، ويطمع الرعية في أمرائها، فلم يقبل منهم عمر على كثرة ما ألحوا، ثم رضي آخر الأمر أن يعفي العامل من هذا القصاص إذا أرضى شاكيه، وقد استطاع هذا العامل أن يرضي شاكيه فلم يتعرض لهذا القصاص؛ وكانت حجة عمر أن النبي قد أقص من نفسه وهو خير أمته، فلا على غيره من الخلفاء والولاة أن يقصوا من أنفسهم عن رضا أو أن يقص منهم السلطان وهم كارهون. وقد احتج خصوم عثمان عليه بإقصاص النبي من نفسه، وبما أراد عمر من إقصاص الرعية من ولاتها، وطلبوا إليه أن يقص من نفسه، فلم يجبهم إلى ما أرادوا. والذين قرءوا سيرة النبي وسنته يعلمون أنه لم يكن يؤثر نفسه بخير دون أصحابه، إلا أن يؤثره الله بهذا الخير في أمر يوحيه إليه في القرآن؛ فهو كان يشاورهم وينزل عند مشورتهم، وهو كان يحارب معهم إذا حاربوا ويسالم معهم إذا سالموا، وهو كان يبني معهم المسجد ويحفر معهم الخندق ويتغنى معهم وهم يتغنون، يستعينون بالغناء على مشقة الحفر والبناء، وهو كان يحمل معهم الأحجار والتراب، يرى نفسه واحدا منهم قد آثره الله بالوحي والنبوة، فلم يؤثر نفسه بأكثر مما آثره الله به، والسيرة والسنن تروي أنه حين مرض مرضه الذي خرج به من الدنيا سأل عن شيء من ذهب كان قد بقي عنده من مال المسلمين، فلما جيء به أخرجه إلى الناس ولم يبق منه شيئا، وتوفي وهو لا يملك من الدنيا بيضاء ولا صفراء. وقد اشتد على نفسه في ذلك، واشتد الله عليه فيه أيضا، إذ كان لا ينطق عن الهوى، فلم يكتف بالارتفاع عن أن يؤثر نفسه بشيء من دون أصحابه، وإنما أبى إلا أن يسير في أهله سيرته في نفسه، فقال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة.» وقد جاءت فاطمة رحمها الله تطلب إلى أبي بكر ميراث أبيها: فدك، فلم يجبها إلى ما طلبت وروى لها هذا الحديث.
فقد قامت سيرة النبي إذن على العدل بين الناس فيما يكون بينهم وبين أنفسهم، وعلى العدل بين الناس وبين نفسه، وعلى العدل بين الناس وبين أهله أيضا. واجتهد صاحباه من بعده أن يذهبا مذهبه ويسيرا سيرته ما استطاعا إلى ذلك سبيلا؛ بل هم أبو بكر أن يكلف نفسه فوق ما تطيق، فأراد أن يكون إماما للمسلمين ينظر في أمرهم ويقف عليهم وقته وجهده، وأن يسعى مع ذلك ليكسب قوته وقوت أهله، ورآه المسلمون ذات يوم يحمل بعض العروض يسعى بها إلى السوق ليبيع ويشتري كما كان يفعل قبل أن يستخلف، وكما كان المسلمون يفعلون من حوله؛ ولكن المسلمين أشفقوا عليه من ذلك، أو أحس هو العجز عن أن يكون كاسبا وخليفة في وقت واحد، على اختلاف في الروايات؛ فرزقه المسلمون من بيت المال؛ ولم ييسروا عليه في الرزق، وإنما أعطوه ما يقيم أوده وأود أهله.
وقد سار أبو بكر سيرة النبي نفسه، فتحرج أن يموت وعنده من أموال المسلمين شيء، وأوصى آل أبي بكر أن يردوا على عمر هنات كانت عنده من أموال المسلمين، وقد ردت هذه الهنات على عمر فبكى وهم أن يقبلها، فأنكر عليه عبد الرحمن بن عوف ذلك، ولكن عمر أبى إلا أن يتحرج في ذات صاحبه كما تحرج هو في ذات نفسه، وكره أن يلقى أبو بكر ربه فيسأله عما بقي عنده من هذه الهنات، وكره أن يقول أبو بكر لربه: ردها أهلي، وأبى عمر أن يقبلها.
وكذلك بلغ حرص النبي وأبي بكر على العدل أن يتأثما مما لا إثم فيه، وأن يتحرجا مما لا تتحرج منه ضمائر الأتقياء. ولو قد طالت خلافة أبي بكر لرأينا منه في ذلك الأعاجيب، ولكن خلافة عمر جاوزت عشر سنين، فأرانا من ذلك ما لا تكاد تصدقه النفوس. ومن الناس من يزعم أن الرواة قد تكثروا على عمر، وأضافوا إليه من الشدة أكثر مما كان فيه، ولكن الذين يقرءون سيرة عمر في كتب السنن والطبقات والتاريخ يفرقون في غير مشقة بين ما يمكن أن يكون الرواة قد تكلفوه وبين ما يلائم سيرة عمر وطبعه ومزاجه من الأحداث والواقعات؛ فقد كان عمر شديدا على الناس إلى أقصى حدود الشدة في ذات الله، ولكنه كان على نفسه أشد منه على الناس. وما أعرف أن التاريخ الإنساني كله يستطيع أن يجد لعمر نظيرا في هذا الضمير الحي الحساس المتحرج المتأثم الذي يخاف على نفسه ما لا يخاف، وينكر من نفسه ما لا ينكر، ويأخذ نفسه من ضروب الشدة والعنف بما لا يأخذ الرجل به نفسه إلا أن يكون من أولي العزم. والناس يعلمون أن عمر رأى الشدة التي نزلت بالمسلمين في عام الرمادة، فأبى إلا أن يشارك الناس في شدتهم، وأبى إلا أن يشارك من الناس في هذه الشدة أعظمهم حظا من الفقر والضيق.
عرف أن عامة الناس من حوله لا يجدون السمن، فحرم السمن على نفسه وصبرها على الخبز الجاف والزيت؛ ثم شق عليه الزيت، فخيل إليه أنه لو طبخ لانكسرت حدته ولكان أيسر إساغة وهضما، فتقدم إلى مولاه في أن يطبخ له الزيت، فلما طعمه مطبوخا كان أوجع له وأشد عليه، وقد أثر ذلك في صحته فتغير له لونه، وعرف المسلمون ذلك فلم يستطيعوا أن يردوه عنه؛ لأنه أبى أن يخصب حتى يخصب عامة المسلمين.
ولم يؤمن عمر قط فيما بينه وبين نفسه بأنه مدبر هذه الدولة الضخمة ذات الآفاق الواسعة والفتح البعيد، وإنما كان فيما بينه وبين نفسه يرى ولايته عجبا من العجب وغريبة من الغرائب، ويقول لنفسه إذا خلا إليها: بخ بخ يابن الخطاب؛ أصبحت أمير المؤمنين! وما يزال يذكر أنه كان قبل الإسلام ترعية يرعى على أبيه الخطاب غنيمة، يحدث الناس بذلك ويحدثهم بالمكان الذي كان يرعى فيه، ويحدثهم بما كان يلقى من الخطاب في عمله ذاك من الشدة والجهد. ولم يكن عمر يبخل بنفسه على عمل من أعمال المسلمين مهما يكن عسيرا شاقا، وقد رئي ذات يوم في حظيرة إبل الصدقة يحصي هذه الإبل ويصفها وصفا دقيقا مستقصى، يقول ذلك لعلي ويؤدي علي عنه ذلك إلى عثمان، فيكتبه عثمان في الصحف، حتى أعجب علي منه بذلك فتلا ما جاء في القرآن على لسان ابنة شعيب في موسى:
يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ، ثم قال: هذا هو القوي الأمين. ورأى الناس عمر يطلي إبل الصدقة بالقطران يهنأ منها مواضع النقب، كما يفعل الرعاة والمستضعفون من الناس، لا يجد في ذلك مشقة ولا يرى منه بأسا؛ وكان بعد شدته هذه العنيفة على نفسه يشتد على أهله حتى يرهقهم من أمرهم عسرا، وكان إذا نهى الناس عن شيء وحذرهم العقوبة إن فعلوه، جمع إليه أهله وقال لهم: إني قد نهيت المسلمين عن كذا وحذرتهم العقوبة إن أتوه، وإن الناس ينظرون إليكم لمكانكم مني؛ فلا أعرفن أن أحدكم قد أتى ما نهيت عنه الناس إلا أضعفت له العقوبة.
وكان في عام الرمادة يتتبع طعام أهله تتبعا دقيقا؛ فإن رأى عند أحدهم يسرا أو سعة رده عن ذلك ردا عنيفا، ثم كان بعد أن يعنف بنفسه وبأهله هذا العنف لا يتحرج في أن يأخذ الناس بسياسته تلك التي وصفها حين قال: «شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف.»
روي أنه كان يقسم مالا بين المسلمين ذات يوم وقد ازدحم الناس عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص رحمه الله، ومكانه من النبي مكانه، وبلاؤه في فتح فارس بلاؤه، فزاحم الناس حتى زحمهم وخلص إلى عمر؛ فلم يكن من عمر إلا أن علاه بالدرة، وقال: لم تهب سلطان الله في الأرض، فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك!
كذلك كان حرص عمر على أن يسوي بين الناس وبين أنفسهم، وعلى أن يسوي بين الناس وبين نفسه وأهله. كل هذا بالقياس إلى سيرته الخاصة التي كان يسيرها في كل يوم.
अज्ञात पृष्ठ