फित्ना कुबरा अली वा बनुहु
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
शैलियों
ومات المغيرة بن شعبة سنة خمسين، فعمل زياد حتى ولي الكوفة مكان المغيرة، وسار في أهل الكوفة سيرته في البصرة، فملأ قلوبهم رعبا ورهبا، وأغرب من هذا كله أنه ظن أنه يسوس الناس سياسة عمر، لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، مع أن أهل العراق لم يروا منه بعد انتسابه في بني أمية لينا أو شدة، وإنما عرفوا منه عنفا لا حد له، وإسرافا في الدماء والحقوق لا صلة بينه وبين الإسلام.
ولم يحتمل زياد تبعة أعماله وحدها، وإنما سن لغيره من أمراء بني أمية في العراق، وللحجاج منهم خاصة أشنع السنن وأشدها نكرا، واقرأ خطبته هذه التي أشرت إليها غير مرة، والتي رواها المؤرخون روايات مختلفة، واقتصر أكثرهم على أطراف منها، ورواها الجاحظ على نحو من الترتيب والتأليف لا يخلو من أثر الصنعة، ولكنه يصور أدق تصويره سيرة زياد، شأن الجاحظ في ذلك شأن غيره من رواة العراق في أكثر ما رووا من خطب هذا العصر الذي نحن بصدده، قال زياد: «أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي الموفي بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية؟! ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله وهذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل، ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة من دلج الليل وغارة النهار؟! قربتم القرابة وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر وتغضون على المختلس، كل امرئ منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون، من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب، حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا، إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد. أو تستقيم لي قناتكم، إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في، واعلموا أن عندي أمثالها، من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه، فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم، وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا آخذ أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوما غرقناه، ومن أحرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم يدي ولساني، ولا تظهر من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين أقوام إحن، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا، واعلموا أني مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبانه، ولا مجمرا لكم بعثا. فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم، ولا تدركوا له حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم، أسأل الله أن يعين كلا على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على إذلاله، وايم الله، إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي.»
فهذه الخطبة الرائعة، مهما يكن فيها من أثر الصنعة وتأليف المتأخرين، تصور شيئين متناقضين أشد التناقض: أحدهما هذا الجمال الفني الذي يأتي من رصانة اللفظ وقربه وإصابته لما أراد زياد من المعاني، وإثارته لما أراد أن يثير من عواطف الفزع والطمع والخوف والأمل، والثاني هذه السياسة المنكرة التي أعلن أنه سيسوس بها الناس، والتي لا يعرفها الإسلام ولا يرضاها، ولم يعرفها المسلمون ولم يألفوها، والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن صاحبها طاغية يريد أن يحكم الناس بالبغي، الذي يملأ القلوب رعبا ورهبا، ويغتصب منها الطاعة والخضوع للسلطان اغتصابا.
فالإسلام لا ينقب عن قلب السارق، وإن نقب عن أهل البيوت، والإسلام لا يدفن الناس في القبور أحياء وإن نبشوا عن الموتى في قبورهم، والإسلام لا يقيم الحدود بالشبهة وإنما يدرؤها، ولا يقتل الناس على الريبة، ولا يبيح للسلطان أن يعاقبهم بما كسبت قلوبهم وما دبرت نفوسهم وما أدارت رءوسهم، وإنما يبيح له أن يعاقبهم بما كسبت أيديهم، ويترك حساب الضمائر لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والإسلام لا يبيح لوال ولا لخليفة أن يقول إنه يسوس الناس بسلطان الله الذي أعطاهم، وفيء الله الذي خولهم، وإنما يفرض عليه أن يقول إنه يسوس الناس بسلطان الله الذي رفعه الشعب إليه ومنحه له عن رضى منه، لا عن عنف ولا عن استكراه، يفرض عليه كذلك أن يقول: إن الفيء ملك للشعب يأتمن عليه خلفاءه وولاتهم ليضعوه مواضعه، وينفقوه بحقه فيما يجب أن ينفق من الوجوه.
والإسلام لا يبيح لوال ولا لخليفة أن يقسم على أن له في المسلمين صرعى؛ لأنه لا يعلم من ذلك شيئا حتى يقترف الناس من الجرائم والآثام ما يوجب عليه أن يصرعهم بما كسبوا.
وقد وقعت هذه الخطبة من نفوس الذين سمعوها مواقع مختلفة، تصور ما صارت إليه حالهم، فأما عبد الله بن الأهتم، فقال لزياد: «أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب.» أتراه فتن بجمال الخطبة وروعتها، فلم يلتفت إلى ما أفرغ فيها من المعاني وما ابتكرت للناس من سياسة لا عهد لهم بها؟! أم تراه أراد إلى أن يتملق السلطان ويرضى منه بما أحب وما كره؟ أم تراه أراد إلى الأمرين جميعا؟ وقد رد عليه زياد ردا لاذعا، فقال: كذبت، ذاك نبي الله داود.
وأما الأحنف بن قيس فقد صور حيدة المحايدين الذين لا يريدون أن يبادوا السلطان بما يكره، ولا أن يردوا عليه مقالته، ولا أن ينزلوا عن مروءتهم في غير طائل، فقال لزياد: «إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلي.» كلمة مسالم يريد العافية، فقال له زياد: صدقت.
وأما أبو بلال مرداس بن أدية، فقال له كلام المحتفظ بدينه الحريص عليه المستعد للجهاد في سبيله، الذي لا يكره أن يموت دونه، والذي مات دونه بالفعل بعد ذلك، وقد كان زعيما من زعماء الخوارج في البصرة: «أنبأنا الله بغير ما قلت، قال الله:
وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
अज्ञात पृष्ठ