فقه القران تأليف قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي المتوفى سنة 573 ه
पृष्ठ 1
بسم الله الرحمن الرحيم (رب زدني علما) الحمد لله الذي خلق الخلق كما أراد، ولم يرد الا الحكمة والسداد، ابتدعهم بقدرته ابتداعا، واخترعهم على مشيته اختراعا، فأغنى بفضله كل صغير، وأقنى بمنه كل كبير، ومن أجل مواهبه وأجمل صنائعه هذا العقل الذي يدرك به سعادة الأبد، وينقذ من الشقاوة كل أحد. فطوبى لمن عز باعماله، وبؤسي لمن ذل باهماله ثم لم يرض سبحانه بذلك لرأفته بالمكلفين حتى أمد عقولهم بارسال الرسل وانزال الكتب، واكد بالألطاف الحجة، وأوضح بالشرائع المحجة. فله الحمد دائبا، وله الشكر واصبا، بكل ما حمده به أكرم خلائقه عليه، وأرضى حامديه لديه.
فقد أكمل لنا دينه، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الاسلام دينا.
وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله الأطهار، الأئمة الأخيار، الهداة الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
أما بعد:
فان الذي حملني على الشروع في جمع هذا الكتاب أنى لم أجد من علماء الاسلام قديما وحديثا من ألف كتابا مفردا يشتمل على الفقه الذي ينطق به كتاب الله،
पृष्ठ 3
ولم يتعرض أحد منهم لاستيعاب ما نصه عليه لفظه أو معناه وظاهره أو فحواه، في مجموع كان على الانفراد صائب هدف المراد، وان صنفوا في الفقه وتفسير القرآن ما لا يحاط به الا على امتداد الزمان.
والعذر لنا خاصة واضح، لان حجة هذه الطائفة في صواب جميع ما انفردت به من الأحاديث الشرعية والتكاليف السمعية أو شاركت فيه غيرها من الفقهاء هي اجماعها، لان اجماعها حجة قاطعة ودلالة موجبة للعلم بكون المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ فيه، فان انضاف إلى ذلك كتاب الله أو طريقة أخرى توجب العلم وتثمر اليقين فهي فضيلة ودلالة تنضاف إلى أخرى، والا ففي اجماعهم كفاية.
فرأيت أن أولف كتابا في (فقه القرآن)، يغنى عن غيره بحسن مبانيه، ولا يقصر فهم القارئ عن معانيه، متجنبا فيه الإطالة والتكثير، ومتحريا الايجاز والتيسير ليكون الناظر فيه أنيسا يصادقه، وللفقيه ردءا يصدقه. فجمعت منه بعون الله تعالى جملة مشروحة أخرجها الاستقراء، وان نسأ الله في الاجل ذكرت بعد ذلك ما يقتضيه الاستقصاء.
والله الموفق لما يشاء.
पृष्ठ 4
كتاب الطهارة اعلم أن الله سبحانه وتعالى بين أحكام الطهارة في القرآن على سبيل التفصيل في موضعين، ونبه عليها جملة في مواضع شتى منه خصوصا أو عموما تصريحا أو تلويحا.
وأنا انشاء الله أورد جميع ذلك أو أكثر ما فيه على غاية ما يمكن تلخيصه، وأستو فيه وأومى إلى تعليله وجهة دليله، واذكر أقوال العلماء والمفسرين في ذلك والصحيح منها والأقوى. وان شبهت شيئا بشئ فعلى جهة المثال لا على وجه حمل أحدهما على الاخر.
وأقتصر في جميع ما يحتاج إليه على مجرد ما روى السلف رحمهم الله من المعاني الا القليل النادر والشاذ الشارد، وأقنع أيضا بألفاظهم المنقولة حتى لا يستوحش من ذلك. وهذا شرطي إلى آخر الكتاب.
ولا أجمع الا ما فرقه أصحابنا في مصنفاتهم، وذلك لان القياس بالدليل الواضح غير صحيح في الشريعة، وهو حمل الشئ على غيره في الحكم لأجل ما
पृष्ठ 5
بينهما من الشبه، فيسمى المقيس فرعا والمقيس عليه أصلا. وكذلك الاجتهاد غير جائز في الشرع (1)، وهو (استفراغ الجهد في استخراج احكام الشرع)، وقيل (هو بذل الوسع في تعرف الأحكام الشرعية).
فأما إذا صح باجماع الفرقة المحقة حكم من الأحكام الشرعية بنص من الرسول صلى الله عليه وآله مقطوع على صحته على سبيل التفصيل رواه المعصومون من أهل بيته عليه وعليهم السلام ثم طلب الفقيه بعد ذلك دلالة عليه من الكتاب جملة أو تفصيلا ليضيفها إلى السنة حسما للشنعة، فلا يكون ذلك قياسا ولا اجتهادا، لان القايس والمجتهد لو كان معهما نص على وجه من الوجوه لم يكن ذلك منهما قياسا ولا اجتهادا. وهذا واضح بحمد الله.
على أن أكثر الآيات التي نتكلم عليها في هذا المعنى، فهو ما نبهنا عليه (2) الأئمة من آل محمد عليه وعليهم السلام، وهم معدن التأويل ومنزل التنزيل.
(فصل) اعلم أن الأدلة كلها أربعة: حجة العقل، والكتاب، والسنة والاجماع.
أما الكتاب - وهو غرضنا ههنا - فهو القرآن في دلالته على الأحكام الشرعية.
والمستدل بالكتاب على ذكرناه يحتاج إلى أن يعرف (3) من علومه خمسة أصناف:
पृष्ठ 6
العام والخاص، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمفسر، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ.
اما العموم والخصوص قليلا يتعلق بعموم قد دخله التخصيص، كقوله تعالى ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن﴾ (١) وهذا عام في كل مشركة حرة كانت أو أمة.
وقوله ﴿والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم﴾ (٢) خاص في الحرائر فقط، فلو تمسك بالعموم غلط. وكذلك قوله ﴿اقتلوا المشركين﴾ (٣) عام، وقوله ﴿من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية﴾ (٤) خاص في أهل الكتاب.
واما المحكم والمتشابه فليقضى بالمحكم ويفتى به دون المتشابه (٥).
واما المجمل والمفسر فليعمل بالمفسر كقوله تعالى ﴿أقيموا الصلاة﴾ (٦) وهذا غير مفسر، وقوله ﴿فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون﴾ (٧) مفسر باجماع المفسرين لأنه فسر الصلوات الخمس، لان قوله (حين تمسون) يعني المغرب والعشاء الآخرة، و (حين تصبحون) يعنى الصبح، و (عشيا) يعنى العصر، و (حين تظهرون) الظهر.
وأما المطلق والمقيد فليبنى المطلق على المقيد إذا كانا في حكم واحد، كقوله تعالى ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم﴾ (٨) فهذا مطلق في العدل والفاسق، وقوله ﴿وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾ (9) مقيد بالعدالة، فيبنى المطلق عليه.
पृष्ठ 7
واما الناسخ والمنسوخ فليقضى بالناسخ دون المنسوخ، كآية العدة بالحول والآية التي تضمنت العدة بالأشهر.
ويأتي بيان جميع ذلك انشاء الله تعالى.
(باب) (وجوب الطهارة وكيفيتها وما به تكون وما ينقضها) الدليل على هذه الأشياء الأربعة - التي هي مدار الطهارتين وما يقوم مقامهما عند الضرورة - اثنان من المائدة والنساء، وهما:
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم﴾ (١).
وقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى﴾ (٢).
وظاهر هذا الخطاب متوجه إلى من كان على ظاهر الايمان، فأما الكافر فلا يعلم بهذا الظاهر أنه مخاطب به ويعلم بآية أخرى ودلالة عليه به احرى.
وإنما أمر المؤمنون به - وهو واجب على الكل - لأنه بعد الدخول في الملة، ومن أتى الاسلام يؤمر به ثم يؤمر بفروعه.
على أنه يمكن أن يقال: أن التخصيص ههنا ورد للتغليب والتشريف وإن كان الكل مرادا، كقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا﴾ (٣).
ألا ترى أن أسباب التكليف التي حسن الخطاب لأجلها حاصلة للمؤمن والكافر، يوضح ذلك ويبينه قوله تعالى ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ (4) ولا خلاف
पृष्ठ 8
أنه ينبغي ان يحمل على عمومه في كل ما هو عبادة الله وإن كان خاصا في المكلفين منهم الذين أوجب الله ذلك عليهم أو ندبهم إليه. والآية متوجهة إلى جميع الناس ممن يصح مخاطبته مؤمنهم وكافرهم، لحصول العموم فيها، الا من ليس بشرائط التكليف على ما ذكرناه.
فالكافر إذا لابد أن يكون مخاطبا بالصلاة وبجميع أركان الشريعة لكونها واجبة عليه، لأنه مذموم بتركها متمكن من أن يعلم وجوبها، ويعاقب غدا عليه أيضا. ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عن الكفار ﴿قالوا لم نك من المصلين﴾ (1).
ولا يقدح في وجوب ذلك بأنه إذا أسلم لا يجب عليه قضاء ما فاته، لان القضاء هو الفرض الثاني.
فان قيل: كيف يجوز ان يكون [من] مخاطبين بذلك ولم يكن [من] (2) موجودين في ذلك الوقت، ومن المحال أن يخاطب المعدوم.
قلنا: الأوامر على ضربين: أحدهما على الاطلاق، فالمأمور يجب أن يكون قادرا مزاح العلة فضلا على وجوده. والاخر يكون أمرا بشرط، فالمأمور لا يجب أن يكون كذلك في الحال ولكن بشرط أن يوجد ويصير قادرا مزاح العلة متمكنا.
وإذا ثبت هذا فأوامر الله تعالى وأوامر الرسول عليه السلام كانت أوامر للمكلفين الموجودين في ذلك الزمان على تلك الصفات، وكانت أوامر لمن بعدهم، بشرط أن يوجدوا ويصيروا قادرين مترددي الدواعي على ما ذكرناه، والامر على هذا الوجه يكون حسنا. [فإنه يحسن من الواحد منا أن يأمر النجار بانجار باب غدا بشرط أن يمكنه مما يحتاج إليه من الآلات وغيرها وان لم يمكنه في الحالة] (3).
وانما أوردت هذه الجملة استيناسا للناظر فيه، وهو التنبيه للفقيه.
पृष्ठ 9
(باب الوضوء) أما قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين﴾ (١).
فإنه يدل بظاهره على وجوب أربعة أفعال مقارنة للوضوء، ويدل من فحواه على وجوب النية فيه، لأنه عمل والأعمال بالنيات.
ثم اعلم أن القيام إلى الصلاة ضربان: أحدهما ان يقوم للدخول فيها، والاخر أن يتأهب باستعمال الطهارة للشروع فيها. فالأول لا يصح من دون الثاني، والثاني انما يجب بشرط تقدم الأول. فبهذا الخطاب أمرهم الله انهم إذا أرادوا القيام إلى الصلاة وهم على غير طهر أن يغسلوا وجوههم ويفعلوا ما أمرهم الله به فيها.
وحذف الإرادة لان في الكلام دلالة عليه، ومثله قوله تعالى ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله﴾ (٢)، معناه إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، وقوله ﴿وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة﴾ (3)، معناه فأردت أن تقيم لهم الصلاة.
والذي يدل عليه هو أن الله أمر بغسل الأعضاء إذا قام إلى الصلاة بقوله (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا). ومعلوم أنه إذا قام إلى الصلاة لا يغسل أعضاءه، لأنه لا يقوم إليها ليصلي الا وقد غسل الأعضاء أو فعل ما قام مقامه، فعلم أنه أراد إذا أردت القيام إلى الصلاة فاغسل أعضاءك، فأمر بغسل الأعضاء، فثبت أن الغسلين والمسحين كليهما واجب في هذه الطهارة.
ويدل قوله تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (4) على
पृष्ठ 10
وجوب عشر كيفيات مقارنة للوضوء، وعلى وجوب أربعة أشياء قبل الوضوء، وهي تركان وفعلان (1).
(فصل) وإذا ثبت وجوب الطهارة - لان الله أمر بها والامر في الشرع على الوجوب لا يحمل على الندب الا لقرينة - فاعلم أنهم اختلفوا هل يجب ذلك كلما أراد القيام إلى الصلاة أو في بعضها أو في أي حال هي؟
فقال قوم: المراد به إذا أراد القيام إليها وهو على غير طهر، وهو المروي عن ابن عباس وجابر.
وقيل: معناه إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة. وروي أن الباقر عليه السلام سئل ما المراد بالقيام إليها؟ فقال: المراد به القيام من النوم (2).
وقيل: المراد به جميع حال قيام الانسان إلى الصلاة، فعليه أن يجدد طهر الصلاة، عن عكرمة وقال: كان علي عليه السلام يتوضأ لكل صلاة ويقرأ هذه الآية، وهذا محمول على الندب. وعن ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضأون لكل صلاة.
وعن ابن عمر: كان الفرض أن يتوضأ لكل صلاة ثم نسخ ذلك بالتخفيف، فقد حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر الغسيل حدثها ان النبي صلى الله عليه وآله أمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء الا من حدث (3)، فكان عبد الله يرى ذلك فرضا.
पृष्ठ 11
وروى سليمان بن بريدة عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وآله كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال عمر: يا رسول الله صنعت شيئا ما كنت تصنعه. فقال: عمدا فعلته (1).
(فصل) والآية تدل على جميع ما ذكرناه من الواجب والندب لغة، وأقوى الأقوال ما حكيناه أولا من أن الفرض بالوضوء يتوجه إلى من أراد الصلاة وهو على غير طهر، فأما من كان متطهرا فعليه ذلك استحبابا.
وقال الحسين بن علي المغربي: معنى (إذا قمتم) إذا عزمتم عليها وهممتم بها، قال الراجز للرشيد:
ما قاسم دون الفتى ابن أمه * وقد رضيناه فقم فسمه (2) فقال: يا أعرابي ما رضيت أن تدعونا إلى عقدة الامر له قعودا حتى أمرتنا بالقيام فقال: قيام عزم لا قيام جسم.
وقال خزيم الهمداني:
فحدثت نفسي أنها أو خيالها * أتانا عشاءا حين قمنا لنهجعا أي حين عزمنا للهجوع (3).
وقال قوم: ان الله تعالى أنزل هذه الآية اعلاما للنبي صلى الله عليه وآله انه لا وضوء عليه واجبا الا إذا قام إلى الصلاة وما يجري مجراها من العبادات، لأنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى نزلت هذه الآية، فأباح الله له بها أن يفعل ما بدا له من الأعمال بعد الحدث، توضأ أو لم يتوضأ، الا عمل الصلاة فإنه
पृष्ठ 12
يجب عليه أن يتوضأ له.
وفي الآية نيف وعشرون حكما سوى التفريعات الداخلة تحتها، والامتحان يستخرجها، فالحوادث غير متناهية، وعموم النصوص أيضا غير متناهية وان كانت النصوص متناهية، فلا حاجة إلى القياس شرعا.
(فصل) وقوله (فاغسلوا وجوهكم) أمر منه تعالى بغسل الوجه، والامر شرعا يقتضي الوجوب وانما يحمل على الندب لقرينة. وغير ممتنع أن يراد باللفظ الواحد في الحالين لأنه لا تنافي بينهما.
و (الغسل) جريان الماء أو كالجريان، فقد رخص عند عوز الماء مثل الدهن واختلفوا في حد الوجه الذي يجب غسله:
فحده عندنا من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولا، وما دخل بين الابهام والوسطى عرضا. وما خرج عن ذلك فلا يجب غسله، وما نزل من المحادر لا يجب غسله.
والدليل عليه من القرآن جملة قوله (وما آتاكم الرسول فخذوه) وقد بينها عليه السلام.
وأما ما غطاه الشعر - كالذقن والصدغين - فان امرار الماء على ما علا عليه من الشعر، يجزي من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه (1).
والذي يدل عليه أن ما ذكرناه مجمع على أنه من الوجه، ومن ادعى الزيادة فعليه الدلالة، ولا دليل شرعا لمن خالفنا فيه.
وقال عبد الجبار: لو خلينا والظاهر لكان بعد نبات اللحية يجب ايصال الماء
पृष्ठ 13
إلى البشرة التي هي تحتها، كما يلزم ذلك من لا لحية له، الا أن الدلالة قامت على زوال وجوب ذلك بستر اللحية. ولاية تدل عليه، لان إفاضة الماء على ما يقابل هذه البشرة وما سقط من اللحية عن الوجه، فلا يلزم فيه على وجه.
وان نبت للمرأة لحية فكمثل الرجل.
وكل مسألة شرعية لها شعب ووجوه، فإذا سألك عنها سائل فتثبت في الجواب، فلا تجبه بلا أو بنعم على العجلة، وتصفح حال المستفتي، فإن كان عاميا يطلب الجواب ليعمل به ويعول عليه فاستفسره عن الذي يقصده ويريد الجواب عنه، فإذا عرفت ما يريده بعينه أجبته عنه ولا تتجاوز إلى غيره من الوجوه، فليس مقصود هذا السائل الا الوجه الذي يريد بيان حكمه ليعمل به. وإذا كان السائل معاندا يريد الاعنات تستفسره أيضا عن الوجه الذي يريد من المسألة، فإذا ذكره أفتيته عنه بعينه ولا تتجاوزه إلى غيره أيضا، فليس مقصوده طلب الفائدة وانما هو يطلب المعاندة فضيق عليه سبيل العناد. وإن كان السائل مستفيدا يطلب بيان وجوه المسألة والجواب عن كل وجه ليعلمه ويستفيده فأوضح له الوجوه كلها واجعل الكلام منقسما لئلا يذهب شئ من بابه. وهذا لعمري استظهار للعالم في جميع العلوم انشاء الله تعالى.
(فصل) وقوله (وأيديكم إلى المرافق) عطف على (وجوهكم)، فالواجب غسلهما.
ويجب عندنا غسل الأيدي من المرافق، وغسل المرافق معهما إلى رؤوس الأصابع، ولا يجوز غسلها من الأصابع إلى المرافق الا عند الضرورة، فقد قال الله تعالى ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ (١).
و (إلى) في الآية بمعنى مع، كقوله ﴿ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم﴾ (2).
पृष्ठ 14
وانما قلنا ذلك لان إلى قد تكون بمعنى الغاية وقد تكون بمعنى مع حقيقة فيهما، ولا خلاف بين أهل اللسان أن كل لفظة مشتركة بين معنيين أو معان كثيرة انما يتميز بعضها دون بعض بما يقترن إليها من القرائن، فإذا صح اشتراك لفظة (إلى) في معنى الغاية ومعنى مع حقيقة - لا استعارة ومجازا - وانضاف إلى واحد منهما وهو ما ذكرناه اجماع الطائفة ثبت ما أردناه من وجوب ابتداء غسل الأيدي من المرافق وغسلها معها إلى رؤوس الأصابع.
وقد قال جماعة من الخاصة والعامة ان حمل (إلى) في هذا الموضع على معنى مع أولى من حمله على معنى الغاية، لأنه أعم وفيه زيادة في فائدة الخطاب واحتياط في الطهارة واستظهار بدخول المرافق في الوضوء، وفي معنى الغاية اسقاط الفائدة وترك الاحتياط وابطال سائر ما ذكرناه، ويؤكد ذلك قراءة أهل البيت عليهم السلام (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق) (1).
على أن المرتضى رضي الله عنه قال: ان الابتداء في غسل اليدين للوضوء من المرافق والانتهاء إلى أطراف الأصابع، الأولى أن يكون مسنونا ومندوبا إليه لا أن يكون فرضا حتما. والفقهاء يقولون: لعل هو مخير بين الابتداء بالأصابع وبين الابتداء بالمرافق (2).
وقال الزجاج: لو كان المراد بإلى (مع) لوجب غسل اليد إلى الكتف لتناول الاسم له. قال: وانما المراد بإلى الغاية والانتهاء، لكن المرافق يجب غسلها مع اليدين (3).
وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لأنا لو خلينا وذلك لقلنا بما قاله، لكن
पृष्ठ 15
أخرجناه بدليل، وهو اجماع الأمة على أن من بدأ من المرافق كان وضوؤه صحيحا، وإذا جعلت غاية ففيه الخلاف.
واختلف أهل التأويل في ذلك:
فقال مالك بن انس: يجب غسل اليدين إلى المرفقين ولا يجب غسل المرفق، وهو قول زفر.
وقال الشافعي: لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها.
وقال الطبري: غسل المرفقين وما فوقهما مندوب إليه غير واجب. وقد اعتذر له بأن معنى كلامه أن وجوب ذلك يعلم من السنة لا من الآية.
وانما اعتبرنا غسل المرافق لاجماع الأمة على أن من غسلهما صحت صلاته ومن لم يغسلهما ففيه الخلاف (1).
وقيل: الآية مجملة فالواجب الرجوع إلى البيان، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله غسلهما فيما حكاه كبار الصحابة في صفة وضوئه، فصار فعله بيانا للآية، كما أن قوله كذلك.
وليس لاحد أن يقول: ان ظاهر قوله (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) يوجب ان يكون المرفق غاية في الوضوء لا ان يكون مبدوءا به أو يغسل المرفق معها.
لأنا قد بينا بأن (إلى) بمعنى مع والغاية على سبيل الحقيقة، وقرينة اجماع الأمة أن غسل المرافق واجب، فلو كان إلى للغاية هنا لم يلزم غسل المرفق على مقتضى وضع اللغة، لان ما بعد إلى إذا كانت للغاية لا يدخل فيما قبلها والا فلا تكون غاية.
पृष्ठ 16
(فصل) قول (وامسحوا برؤوسكم) جملة فعلية معطوفة على الجملة المتقدمة، وهي تقتضي الايجاب حيث تقتضيه الأولى وتتناول الندب حيث تتناوله الأولى، ولا فرق بين المقتضيين في الجملتين على حال لمكان الواو العاطفة.
وكذلك يجب أن يكون حكم (أرجلكم) حكم (رؤوسكم) لمكان واو العاطفة أيضا، سواء كان عطفا على اللفظ أو على المحل، لان جميع ذلك اسم لشئ واحد، وهو الوضوء، فان اقتصر على بعضها اختيارا فلا وضوء.
فإذا ثبت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في صفة المسح:
فقال قوم: يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح، وهو مذهبنا، وبه قال عبد الله ابن عمر والقاسم بن محمد والشافعي.
وقال مالك: يجب مسح جميع الرأس.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز مسح الرأس بأقل من ثلاثة أصابع، وهذا عندنا على الاستحباب.
ولا يجوز المسح عندنا الا على مقدم الرأس، وهو المروي عن ابن عمر والقاسم بن محمد والطبري، ولم يعتبره أحد من الفقهاء وقالوا: أي موضع مسح أجزأه.
وانما اعتبرنا المسح ببعض [الرأس] (1) - فضلا على النص من آل محمد عليه وعليهم السلام - (2) لدخول الباء الموجبة للتبعيض، لان دخولها في الاثبات في الموضع الذي يتعدى الفعل فيه بنفسه لا وجه له غير التبعيض، والا لكان لغوا. وحملها على الزيادة لا يجوز مع امكانها على فائدة مجددة.
पृष्ठ 17
فان قيل: يلزم على ذلك المسح ببعض الوجه في التيمم في قوله (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه).
قلنا: كذلك نقول، فان في التيمم يمسح الوجه بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف ، على ما نصوا عليه عليهم السلام.
ومن غسل الرأس فإنه لا يجزيه عن المسح عندنا، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا بجزيه لأنه يشتمل عليه.
وهذا غير صحيح، لان حد المسح شرعا هو امرار العضو الذي فيه نداوة على العضو الممسوح من غير أن يجري عليه الماء، والغسل لا يكون الا بجريان الماء عليه بعلاج وغير علاج، فمعناهما مختلف. ولو كانا واحدا لما ورد الامر بهما واقتصر بقوله (فاغسلوا) ولم يقل بعده (وامسحوا). وليس إذا دخل المسح في الغسل يسمى الغسل مسحا، كما أن العمامة لا تسمى خرقة وان كانت تشتمل على خرق كثيرة.
وقال الشافعي: الأذنان ليستا من الوجه [ولا من الرأس] (1).
(فصل) وقوله (وأرجلكم) من قرأها بالجر عطفها على اللفظ وذهب إلى أنه يجب مسح الرجلين كما وجب مسح الرأس، ومن نصب فكمثل، لأنه ذهب إلى أنه معطوف على موضع الرؤوس، فان موضعهما نصب لوقوع المسح عليهما، فالقراءتان جميعا تفيدان المسح على ما نذهب إليه.
وممن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري والجبائي والطبري وغيرهم.
وعندنا ان المسح على ظاهرهما من رؤوس الأصابع إلى الكعبين.
قال ابن عباس وأنس: الوضوء غسلتان ومسحتان.
पृष्ठ 18
وقال عكرمة: ليس على الرجلين غسل انما فيهما المسح، وبه قال الشعبي وقال: ألا ترى أن في التيمم يمسح ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا.
وقال قتادة: افترض الله مسحين وغسلين.
وروى أوس بن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله توضأ ومسح على نعليه ثم قام وصلى. وكذلك روى حذيفة (1).
وروى حبة العرني: رأيت عليا عليه السلام شرب في الرحبة قائما ثم توضأ ومسح على نعليه (2).
ووصف ابن عباس وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه مسح على رجليه وقال: ان كتاب الله المسح ويأبى الناس الا الغسل (3).
و (الغسل) في اللغة اجراء الماء على الشئ على وجه التنظيف والتحسين وإزالة الوسخ عنه ونحوها. ومسحه بالماء ايصال رطوبته إليه فقط كما ذكرناه.
وقال علي عليه السلام: ما نزل القرآن الا بالمسح (4).
وأما (الكعبان) فهما عندنا الناتئان في وسط القدم، وبه قال محمد بن الحسن الشيباني، وان أوجب الغسل.
وقال أكثر الفقهاء: هما عظما الساقين.
يدل على ما قلناه أنه لو أراد ما قالوا لقال سبحانه (إلى الكعاب) لان في الرجلين منها أربعة.
فان ادعوا تقديرا بعد قوله (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) أي كل واحدة إلى الكعبين، كما في قولهم (اكسنا حلة) أي اكس كل واحد منا حلة. فذلك مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن أولى، وهو قولنا.
पृष्ठ 19
فان قيل: كيف قال (إلى الكعبين)، وعلى مذهبكم ليس في كل رجل الا كعب واحد.
قلنا: انه تعالى أراد رجلي كل متطهر، وفي الرجلين كعبان، ولو بنى الكلام على ظاهره لقال (وأرجلكم إلى الكعاب)، والعدول بلفظ (أرجلكم) إلى أن المراد بها رجلا كل متطهر أولى من حملها على كل رجل.
(فصل) ان قيل: القراءة بالجر في (أرجلكم) ليست بالعطف على الرؤوس في المعنى، وانما عطف عليها على طريق المجاورة، كما قالوا (جحر ضب خرب) وخرب من صفات الجحر لا الضب.
قلنا: أولا ان العرب لم تتكلم به الا ساكنا فقالوا (خرب) فإنهم لا يقفون الا على الساكن، فلا يستشهد به. وبعد التسليم فإنه لا يجوز في الآية من وجوه:
أحدها - ما قال الزجاج ان الاعراب بالمجاورة لا يكون مع حرف العطف، وفي الآية حرف العطف الذي يوجب أن يكون حكم المعطوف حكم المعطوف عليه، وما ذكروه ليس فيه حرف العطف، فأما قول الشاعر:
فهل أنت ان ماتت أتانك راحل * إلى آل بسطام بن قيس فخاطب 1 قالوا: جر مع حرف العطف الذي هو الفاء، فإنه يمكن أن يكون أراد الرفع وانما جر الراوي وهما، ويكون عطفا على راحل، فيكون قد أقوى (2) لان القصيدة مجرورة. وقال قوم: أراد بذلك الامر وانما جر لاطلاق الشعر.
والثاني - ان الاعراب بالمجاورة انما يجوز مع ارتفاع اللبس، فأما مع
पृष्ठ 20
حصول اللبس فلا يجوز، ولا يلتبس على أحد أن (خرب) صفة جحر لا ضب، وليس كذلك في الآية، لان الأرجل يمكن أن تكون ممسوحة ومغسولة، فالاشتباه حاصل هنا ومرتفع هناك.
وأما قوله ﴿وحور عين﴾ (١) - في قراءة من جرهما - فليس بمجرور على المجاورة، بل يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون عطفا على قوله ﴿يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق * وكأس من معين﴾ (٢) إلى قوله (وحور عين)، فهو عطف على أكواب.
وقولهم انه لا يطاف الا بالكأس، غير مسلم، بل لا يمتنع أن يطاف بالحور العين كما يطاف بالكأس، وقد ذكر في جملة ما يطاف به الفاكهة واللحم.
والثاني: انه لما قال ﴿أولئك المقربون * في جنات نعيم﴾ (3) عطف بقوله (وحور عين) على (جنات النعيم)، فكأنه قال هم في جنات النعيم وفى مقاربة أو معاشرة حور عين - ذكره أبو علي الفارسي (4).
ومن قال القراءة بالجر يقتضي المسح على الخفين. فقوله باطل، لان الخف لا يسمى رجلا في لغة ولا شرع، والله أمر بايقاع الفرض على ما يسمى رجلا على الحقيقة.
(فصل) وان قيل في القراءة بالنصب في (أرجلكم): هي معطوفة على قوله (وأيديكم) في الجملة الأولة.
पृष्ठ 21