34

وهذه الصفة في لطفي السيد، إنما تتصل بأخلاقه جملة، فهو رجل قد أخذ نفسه من كل أقطارها بألوان التكلف: يتكلف في مراح الشباب ثقل الشيوخ، ويتكلف في مجلس اللهو هيئة الجد ، ويتكلف عدم الاكتراث لأعظم ما يكرثه من الأمر ، بل إنه ليتكلف الكلام «بالجاف» إذ هو قد نجم في بيئة لم يعد يرتبطها بأهل الريف سبب!

نعم، لقد أخذ نفسه بهذا التكلف كله، حتى أصبح له طبعا وسجية. وأكبر ظني أنه لو شاء يوما أن يرسل نفسه على سجيتها لتكلف في هذا كثيرا.

ولطفي بك أول من رفع راية «الديموقراطية» في مصر في هذا العهد الحديث، وهو الذي نفخها في روح الشباب وأجرى كلمتها على ألسنتهم، وعصارة الحزب الديموقراطي من تلاميذ لطفي ولا جدال، وإنك لتراه مع هذا أرستقراطي الفكر، شديد الأثرة للرأي! ولقد تخالفه إلى غير وجهه فيأبى إلا أن يغلبك، ولقد يغلبك بمحض الجدل يتحرف فيه تحرفا. وهو رجل يملك حجته ويعرف كيف يصول بها عليك في الحوار. فإذا كنت أنت الآخر جدلا متمكنا من حجتك، وأحس منك السطوة برأيه، رأيت في وجهه تغيرا، وآنست من نفسه عنك انقباضا.

ولا أدري، أكان هذا من أثر تمكنه من نفسه وشدة إيمانه بحقه وكراهته أن تنزل من الرأي على باطل، أم أن للمسألة وجها آخر؟! •••

وإذا كنت لم أقع من لطفي على أجل فضائله، فلعلي قد تهديت إلى أجل مكارهه إن كان ما هتفت به يعد في المكاره، وإني لأرجو بهذا أن أصيب رضاه كاملا. ولقد دخل رجل من الناس على بعض الحكماء، فأقبل عليه يمدحه ويعدد محامده. فقال له الحكيم: «هذا أولى لك؟ وإن إكبارك لما ترى في من فضل لدليل على أنك لا تراني كفئا له، فلو قد دللتني على هناتي! فتلك التي ليست بكفء لي.»

أسأل الله تعالى أن يعيننا على خدمة أساتيذنا وأحبابنا، فنحن في حقوقهم من هذه الناحية جد مقصرين!

إسماعيل سري باشا

طويل القامة كبير الهامة، عريض «الوجهة» ناتئ الجبهة، ضخم الأنف، مرسل اللحية والحاجبين، له عينان متحيرتان، دائمتا الحركة والدوران، نفضت الطبيعة على هيكله كل جلال الشيوخ، ويأبى هو إلا أن ينفض على لسانه كل خفة الشباب. فإذا أنت رأيته، كدت تعلق نفسك من روعة وإكبار: جلالة علم في جلالة منصب في جلالة مشيب، حتى إذا سمعته يخوض في بعض من لا يحبهم ويستريح إليهم، لم تكد تملك نفسك من الاستنكار أو ما هو أشد من الاستنكار!

وسري باشا مهندس رائع، كفء، في بابه، لكل عظيمة. وهو شيخ المهندسين المصريين وإمامهم غير مدافع. وإن له فوق هذا لشهرة عالمية، فقد دفعه خطره، وسعة علمه، وصحة تقديره، وقوة ماضيه إلى أن يسلك بحق في زمرة كبار المهندسين في العالم.

وسري باشا ولد في عائلة رقيقة الحال في قرية «ريدة» من أعمال مركز المنيا، ونزح والده إلى قصبة ذلك الإقليم لا يتكئ إلا على بدنه فيما يكون أرد على شمله، فاستخدم في ديوان المديرية في عمل لا يتسق لذكائه ولا لقوة استعداده، فتطلعت نفسه إلى ما هو أولى به وأجدى، ولم يلهه عمله المضني عن أن يتعلم القراءة والكتابة، وما زال دائبا حتى أحسنهما وحتى عين كاتبا في مديرية الفيوم، ولأمر ما نفي عمدة المنيا إلى السودان فعين بدله محفوظ أفندي، وأدخل ولده «إسماعيل» في مدرسة المنيا مع حسن فتحي الذي صار بعد مفتشا للري، وظهرت مخايل النجابة على ولده هذا إسماعيل، وبرع أقرانه، وما برح له السبق عليهم حتى اصطفي فيمن اصطفتهم الحكومة «للإرسالية»، فمضى إلى فرنسا واتصل بكلية «سنترال» حيث درس الهندسة، وخرج منها بأعلى شهاداتها.

अज्ञात पृष्ठ