19

أبت الناس إلا أن سعدا ضيق الصدر. وكيف لا يضيق صدره وإن كان رحيبا وهو مدفوع بحكم الزعامة أن يقابل كل من يصبه عليه أفق السياسة من الزائرين والقاصدين. وفيهم ثقيل الظل جامد النسيم، والملح الذي يكاد يستل بإلحاحه خيط النخاع، والمتربح بزيارته، وذلك الذي تخرج من حديثه ركضا إلى طبيب الآذان، وذلك الذي يقتلع الكلام من فمه اقتلاعا حتى لكأن نفسك تطلع منه على حشرجة، لا على استماع حديث. دع الجاهل المتصدر، والأمي الذي يدعي فهم ما غاب عن بسمرك من السياسة، وما خفي على نابليون في تعبئة الجيوش من الكياسة. وإن جلسة واحدة إلى الشيخ «فا ...» لتبغض الحلم إلى الأحنف، ولتزهد الزعيم في كرسي الزعامة. ولو أن أعداءنا فطنوا لذلك، لرموا سعدا في كل يوم بمثل هذا البغيض حتى يفر من الميدان، ونخسر بفراره قضية الأوطان.

دخل عليه ذات يوم في داره بمسجد وصيف شاب من المفتونين، فسلم عليه سلام الأكفاء، وجلس معه على بساط المساواة، ولم يحتشم ذلك المفتون في جلسته، فقد جعل يصفر بفمه ويلاعب الجو بسلسلة ذهبية كانت في يده، ولما قضى شهوته من العبث بحضرة ذلك الشيخ الجليل، التفت إليه وقال: يقولون إنك خشن الملمس، قريب الغضب، ولا أرى فيك إلا حليما. فأجابه سعد وعلى فمه ابتسامة الكاظم لغيظه: وكأنك ما جشمت نفسك السفر وجئت لي إلا لتستثير غضبي! قم فلست هناك.

وزاره في بدء الحركة الوطنية أحد المتطرفين، فتجادل في أمر من الأمور وحمي الجدال، فأغلظ المتطرف القول، فقال له سعد: أتجبهني بمثل هذا وأنت في بيتي ! قال: لم أكن في بيتك! قال: ففي بيت من إذن؟ قال: في بيت الأمة. فسري عن سعد وقال له: صدقت إنه بيت الأمة! ومن ذلك الحين أصبح بيت سعد بيت الأمة.

وإن صدرا يتسع لما يضيق عن بعضه صدر الدهر لخليق أن يسمى حامله حليما.

وهو كثير الذهاب بنفسه، ولم يجئه ذلك من ناحية الزهو كما يزعمون، ولكن جاءه من ناحية التمكن من النفس.

جلس إليه أحد أقرانه، وكانت بينهما وحشة لشيء قد بلغه عنه، فقال له سعد وهو يحاوره: اعلم يا هذا أنني معجب بنفسي، وكيف لا أعجب بنفسي وأنا لا أرى من يعمل غيري.

يسره أن يؤكل طعامه، وأن تغشى داره، ولكن قلما يسره أن يخالف رأيه، اللهم إلا إذا لمح بعين بصيرته أن من وراء تلك المخالفة إجماعا.

يجلس سعد إلى مناظره وفي يد مناظره الحجة قائمة، فلا يزال به يستلها من يده شعرة شعرة، حتى تصير الحجة في يد سعد فيقيمها على مناظره.

يسوءه النقد إلا إذا كان نزيها، وأنى لهذا البلد بالنقد النزيه! إن سعدا يكلف الناقدين شططا، أنسي أن نصيبه من ذلك نصيب كل نابغة مشهور، وكل عظيم مذكور. وقد جاء في الأمثال: إذا قيل عنك إنك نابغة، فودع الراحة.

نشأ سعد وفي ثوبه عظيم، كان في المحاماة رأس المحامين، وكان في القضاء رأس القضاة، وكان في الوزارة رأس الوزراء، ولم يكن في كل أولئك بالرئيس الرسمي، اللهم إلا في وزارته الأخيرة.

अज्ञात पृष्ठ