«إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن، فليس معه منه شيء ...».
فخرج النحو بذلك عن الجادَّة، ولم يعد واسطة لفهم كلام العرب واتباع سبيلهم في القول، بل غدا علمًا مستقلًا معقدًا مضطربًا لا تكاد تثبت فيه مسألة. ورضي النحاة عن هذا التعقيد ووجدوا فيه تجارة وكسبًا، حتى إن السيرافي (١) لما ألف كتابه الإقناع (الذي أتمه ولده يوسف) وعرض فيه النحو على أوضح شكل وأجمل ترتيب، فأصبح مفهومًا سهلًا، لا يحتاج إلى مفسر ولا يقصر عن إدراكه أحد، حتى قالوا فيه: وضع أبو سعيد النحو على المزابل بكتابه الإقناع. ولما ألَّفه قاومه النُحَاة، وما زالوا به حتى قضوا عليه، فلم يعرف له ذكر، ولم نعرف أنه بقي منه بقية!
وزاد النحو فسادًا على هذا الفساد هذا الخلاف بين المذهبين (أو الدرستين على التعبير الجديد) المذهب الكوفي، والمذهب البصري، وما جرَّه هذا الخلاف من الهجوم على الحق، والتدليل على الباطل، والبناء على الشاذ، قصد الغلبة وابتغاء الظفر، كما وقع في المناظرة المشهورة بين الكسائي وسيبويه، حين ورد هذا بغداد على يحيى البرمكي فجمع بينه وبين الكسائي للمناظرة، فقال له الكسائي:
- كيف تقول: قد كنت أظن أن الزنبور أشد لسعة من العقرب، فإذا هو هي، أو هو إياها.
- فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب.
- فقال الكسائي: أخطأت، العرب ترفع ذلك وتنصبه، وجعل يورد عليه أمثلة، منها: خرجت فإذا زيد قائم أو قائمًا.
وسيبويه يمنع النصب.
_________
(١) الحسن بن عبد الله المرزباني، أبو سعيد السيرافي، كان أبوه مجوسيًا اسمه بهزاد فسماه أبو سعيد عبد الله. كان يدرس ببغداد علوم القرآن والنحو واللغة والفرائض، قال التوحيدي: وكان إمام الأئمة فيها جميعًا مع الصلاح والأمانة. قضى ببغداد ولم يأخذ على الحكم أجرًا. مات سنة ٣٦٨ وكان معاصرًا للرماني وأبي علي الفارسي.
1 / 17