الفصل الأول
كان في مدينة نابولي فتى اسمه بيبو، وفتاة تدعى جرجونة، وهما أخوان أمهما امرأة رقاصة، توفيت حين كان عمر بيبو عشرة أعوام وعمر شقيقته خمسة، فأدخل الغلامان مدرسة الأيتام الفقراء، ثم خرجا منها إلى أزقة المدينة يتجولان فيها، فزاول الفتى كل الحرف ولم يفلح في واحدة منها، وإنما بقيت له مزية واحدة هي حسن الخط، ولا يدري أحد كيف حذق الخط وأتقنه!
أما الفتاة فكانت تبيع الأزهار، ولا بد من أن نقول إنها بهية الطلعة لطيفة الشكل. ثم كبر الغلامان، فلما بلغت جرجونة الخامسة عشرة عمدت إلى حرفة أمها - الرقص - تزاولها في أحد الملاهي، لكنها ما لبثت أن تركت حرفة الرقص خيفة السقوط، لا لعفاف؛ ولكنها أبت أن تزل بها القدم دون نفع كبير يذكر أو غنيمة جسيمة تدخر. فاضطر أخوها بيبو إلى الجد والكد؛ لتحصيل رزقه ورزقها معا.
وقد ذكر أنه كان حسن الحظ؛ فاتفق أن كان في المجلس البلدي منصب خال في قلم التسجيل، وقدر الوظيفة - الماهية - أربعون فرنكا في الشهر، فرفع بيبو عريضة بطلب المنصب الخالي، كتبها بخطه الجميل، فحازت القبول.
ولم يلتفت رؤساؤه إلى كسله، وإنما أعجبوا بمحكم تصويره واستواء سطوره، فارتقى إلى منصب رئيس القلم، وصارت وظيفته ستين فرنكا في الشهر.
وكان بيبو كسلان قاعد الهمة يطمئن إلى الخمول، ولا ينهض من فراشه إلا إذا نبهته أخته، وفضلا عن ذلك فقد كان عمله في المجلس البلدي قليلا فزاده كسلا وقعودا، وفي ذات يوم أيقظته شقيقته من نومه وقالت له بغضب: قم فقد أزف الظهر وأنت نائم!
فنهض مستمهلا يتثاءب ويتمطى، ويقول: لماذا أيقظتني؟ وماذا جرى؟ فهل احترق البيت؟! قالت: ليته يحترق وأنت فيه إلى يوم القيامة، ألا تخجل من قعودك وتخلفك عن مكتبك حتى الساعة؟
قال: ما كنت لأبالي بمكتب أكسب من عملي فيه ستين فرنكا، ولئن تخلفت عنه فالمكتب البلدي لا يصاب بالإفلاس. قالت: ليست الستون فرنكا قدرا كبيرا ولكنه كاف لنا، وإلا فماذا يحل بنا إذا طردوك؟ قال: الأمر يسير، تعودين إلى الرقص، فجوقة «سان كارلو» لا تمتنع عن قبولك. قالت: ولكنني أنا أمتنع.
ولبس بيبو ثيابه غير ملتفت إلى شقيقته، إلى أن قال لها: هل عزمت عزما حقيقا على ترك الملاعب؟ أجابت: نعم. قال: إن فتاة حسناء مثلك لا ينبغي أن تتشبث بالفضيلة هذا التشبث.
قالت: ليس امتناعي عن الرقص في الملاعب فضيلة، وما أرى المتاجرة بجمالي عيبا؛ ولكني لا أجد في الملاعب من يصلح لشرائه، فأنا أوثر ما نحن فيه من الفاقة على ذاك الارتزاق القليل، ولما نزل بيبو من البيت التقى بشيخ فقير ضعيف طاعن في السن اسمه الدوق دي لوقا، فحياه وقال له: ادخل لعلك تجد بقية طعام عند جرجونة.
अज्ञात पृष्ठ