تشاهدون بين الحيوان أن هذا الصنف الذي يعيش في تلك البقعة أو في تلك القارة هو أقوى أو أضعف من ذاك الذي يعيش في غيرها، كما أنكم ترون هذا أيضا بعينه بين النبات وبين الجماد، فكم نسمع البائع يقول: بسوسي يا شمام، بلدي يا برتقال؛ حتى يظهر أفضيلة ما معه على غيره، وكم نلاحظ أن سكان الجبال هم أقوى بنية من سكان السهول مثلا، وسكان الأرياف هم أقوى وأصح جسما من سكان المدن، وأن هذا الصنف من الحديد أو الفولاذ أو الفضة أو الذهب أو أي معدن آخر يختلف باختلاف البقعة التي استخرج منها، أفليس هذا كله منشأه سنة التأثير التي تعم الممالك الثلاث؟
فقال نجيب: لقد حل لي الشيخ بما أبانه الآن عقدة طالما حاولت حلها، فلم أتوفق لما كان يعترضني من المتناقضات، إذ كنت عندما أتعب من البحث فيها بلا جدوى مقنعة أنسبها إلى عمل سماوي لغاية مجهولة.
لقد قال الكتاب الكريم: إن الإسرائيليين عند خروجهم من مصر وعلى رأسهم موسى الكليم ، ذاك الرجل العظيم الذي أخذ العلم والحكمة على كهنة مصر، ففاقهم جميعا، وأتى بمعجرات أذرت بجميع ما عملوا قد تاهوا في برية سيناء أربعين سنة، وفي موضع آخر يقول الكتاب: «إن موسى هرب بعد قتله المصري إلى تلك البقعة نفسها، فعاش فيها العشرين سنة، ومنها تزوج فعرفها طبعا وعرف كل مجاهلها.» فهل يعقل يا ترى، أن رجلا مثل هذا، وقد تصدى لخلاص قومه من رق العبودية، وقاد ذلك الشعب بأكمله رجالا ونساء شيوخا وأطفالا؛ يأتي إلى ذلك المكان فيتيه فيه ولا يعود يعرف منه له مخرجا طول هذه السنين؟ أمام هذا كنت أقف حائرا لا أجد لهذه العقدة حلا موفقا معقولا، فكان فكري أمامها يصبح تيها يتيه فيه عقلي، أما الآن فأرى أن موسى وقد كان توفق لتنفيذ الشطر الأول من خطته وعرف كيف يجتاز بقومه في ساعة جزر في بحر القلزم في مكان يعرفه حق المعرفة، ثم يغري عدوه باللحاق به فيدركه المد فيسد عليه السبل فيغرق بخيله ورجله، عرف أيضا أن ذلك الشعب الذي خرج به من مصر، حيث كان مستعبدا قرونا طويلة؛ سيم فيها الذل والمسكنة فأفقده الاضطهاد والاحتقار مناعته وذاته المعنوية، وكل مزية طيبة؛ فتأثرت قواه بذلك تأثيرا توارثه أبا عن جد فتأصل في جسمه ونفسه، وضاعت معه كل همة وعزة نفس، وإقدام لا يصلح في حالته الراهنة لمصادمة وقتال شعوب قوية، شديدة المراس، منيعة الجانب، ربيت في الحرية؛ فاضطر إلى تأخير تنفيذ الشطر الثاني من تلك الخطة المدبرة بأحكام عظيم يليق بذلك العقل الذي أبرز أمتن وأحق شريعة عرفت؛ حتى قال عن ناموسه السيد المسيح: «إن السماء والأرض تزولان، وحرف من الناموس لا يزول»، فعمد إلى حيلته هذه؛ فأضاعهم حيث قادهم وأبقاهم تلك السنين؛ ليعوض عليهم في حياة البرية الحرة ما أضاعوه في عيشة الذل والهوان والاستعباد؛ ليقوم مقام هذا الجيل الخامل الضعيف جيل جديد همام قوي يصلح للقتال والمقاومة والغزو، يستولى به على ما كان يطلب من البلاد، فيخضع به شعوبها ويطردها منها؛ فيحل محلها فيها كما حدث وتحقق، فنظر إليه الشيخ وقال: صدقت يا بني باستنتاجك هذا؛ لأن ذلك الشعب كان في حالته مثل تلك الأرض المجهرة التي لا تصلح للزرع قبل أن تستعيض ما فقدته من الخواص، ومثل ذلك الضعيف الذي أناخه التعب فلم يعد قادرا على متابعة السير قبل استرجاع قواه. ولا غرو، إذا كان موسى عرف ذلك؛ لأن بعض الحقيقة كان معروفا لديه ولدى أساطين ذلك العصر.
فمما تقدم يظهر لكم أن السنتين الأصليتين الجامعتين الخاضع لهما جميع ما في الكون؛ هما سنة التبادل أو التوازن، وسنة التأثير، ومنهما تفرعت جميع بقية السنن وعليهما بنيت جميع الشرائع والتحليلات والتحريمات، ولا غرو فهما في الأصل مظهر الينبوع العظيم الأصيل الفرد، فهما السلبي والإيجابي يبدوان بفروعهما التي لا عد لها ولا حصر بأشكال ومظاهر مختلفة، حتى يتعذر على الناظر إليها معرفة حقيقتها، فيظنها أنها متعددة الأصول كما هي متعددة المظاهر والفروع، ولكن المتعمق في البحث تقل لديه الأصول على قدر ما يقترب من الحقيقة، ويزداد التجانس على قدر التقارب حتى ينحصر في اثنين فقط فيما يختص بالمادة.
أفليس مظهر الذكر والأنثى، الكبير والصغير، الحلو والمر، الرخص والصلب، السائل والجامد، البرد والحر، الظلام والنور، الأسود والأبيض؛ يمثل السلبي والإيجابي؟
انظروا إلى تنوع النبات واختلاف أجناس الحيوان، وتنوع أصناف الجماد وكثرة معادنه، وكيف أن كل نوع أو جنس يقاوم الآخر أو يتحد معه أو ينفصل عنه على قدر كثرة أو قلة التجانس بين الاثنين، فإن الفضة تتحد مع الذهب حتى كأن الاثنين جسم واحد، ولكنها لا يمكنها الاتحاد بهذه الصورة مع الخشب مثلا، وإذا صب الرصاص مع النحاس لا يتحد معه كما لو صب الرصاص مع الفضة، وهكذا، أيضا في النبات، فإذا تطعم النخيل بالبرتقال مثلا لا يعيش ويثمر، أما إذا تطعم البرتقال بشجر آخر أكثر تجانسا معه اتحد وعاش وأثمر. وما نراه في الجماد والنبات نراه أيضا في الحيوان، فإن الحمار إذا جامع البقرة فهذه لا تحمل ولا تلد، أما إذا جامع الحصان الأتان حملت وولدت، وإذا جامع الإنسان ناقة أو شاة لا تحبل، ولكن القرد إذا جامع امرأة لربما حملت وولدت، وإذا جامع الحيوان الطير فإن هذه لا تبيض فتفرخ أما إذا جامع ذكر الحمام أنثى طير من فصيلته باضت وفرخت.
لقد قلت لكم فيما سبق إن العوامل المكونة أو المساعدة على التكوين هي نفسها المحولة أو المساعدة على التحويل، يتساوى أمام ذلك الحيوان والنبات والجماد فيسير الكل سيره حسب سنتي التأثير والتبادل. يولد الحيوان من بطن أمه صغيرا ضعيفا فيقوى بالغذاء والهواء والنور والحرارة والماء حتى يصل إلى درجة معلومة من القوى، ثم يرجع القهقري حتى يضعف ويشيخ ويحل به العجز، فيموت، هذا إذا لم يصادمه طارئ لم يقو على مكافحته والتغلب عليه، فيموت ويتحلل قبل أوانه، وينبت النبات فيسير على الطريقة نفسها فيزهو وينمو ويثمر ثم يضعف فيذبل وييبس ويضمحل، ويتكون الجماد بجميع معادنه ويسير خاضعا لذلك الناموس، فيتغير ويتبدل ويتحول حسب ما ينضم إليه أو ينفصل عنه من المواد والعناصر الأخرى، وهكذا دواليك في جميع الكائنات؛ لأن العناصر الأربعة المتولدة من العنصر الأصيل الفرد المكونة هي نفسها المحولة حسب تأثيراتها بعضها على بعض؛ إن رأسا أو بما تفرع عنها. ألا ترون أنه إذا زادت الحرارة في جسم حيوان عن المعتاد أو قلت عنه مات ذلك الحيوان أو مرض، وإذا عرض جسم آخر لأي من العناصر أكثر مما يلزم أضر به هذا التعريض، وأثر به إن قليلا أو كثيرا على نسبة مناعته؛ لأن الأشكال جميعها في مظاهر الممالك الثلاث تكونت على نسبة معلومة من كميات معلومة فيما بينها، فإذا زادت كمية عن نسبتها أو نقصت ابتدأ التحول والتغير بالشكل.
فأي فرق في الحقيقة بين الصدأ الذي يغشى الحديد إذا لحقت هذا الرطوبة، وبين الزكام الذي تسببه الرطوبة لكم؟ فإن الأول لا يزول إلا إذا جلي الحديد والثاني لا يزول إلا إذا قاومتموه بالمسخنات. أفلا ترون أيضا أن النبات إذا روي بكثرة عما يلزمه، أو إذا عطش أضر به ذلك الري وذلك الظمأ؟ وأن الحيوان إذا شرب أكثر مما يلزمه، أو إذا ظمئ ظمأ شديدا أضر به ذلك الشرب وذلك الظمأ، كل على قدر نسبته؟
قال هذا وهم بالقيام، غير أن فريدا استوقفه بقوله له: ليسمح لنا شيخنا بسؤال عن أمر يشغل بال بعض علماء هذا العصر ويثير اهتمام الناس؛ وهو إمكان وجود الحياة في بعض العوالم الأخرى مثل المريخ مثلا؟ وهل في الإمكان إذا وجدت التوصل للتخابر معها، أو التوصل إلى الوصول منا إليها أو منها إلينا؟ فأجابه الشيخ قائلا: إني الآن تعب، تلزمني بعض الراحة، وأرى أن الوقت قد حان؛ فموعد الإجابة على سؤالك هذا غدا إن كان في العمر بقية، فأنعموا إذن مساء يا أولادي.
قال هذا وقام وصافحهم، فتقدمت منه فريدة وبيدها صندوق صغير به بعض المآكل، وشيء من الحلوى وصرة بها قليل من الدراهم وقدمته له راجية قبوله، فتناول تقدمتها شاكرا ممتنا، وصافحها ثانية وابتعد.
अज्ञात पृष्ठ