ولما كان الشيء بالشيء يذكر، أروي لكم أيضا حادثة حصلت لي شخصيا تبين لنا تأثير التجانس بأجلى بيان: كنت يوما مسافرا إلى حلب الشهباء لأول مرة، وكان معنا أحد المسافرين اخترت محادثته دون غيره لما ظهر لي من الائتلاف بيني وبينه مشربا وفكرا، فقضينا الطريق نتحادث في مختلف الأمور حتى وصلنا إلى محطة قرب المدينة، كان وقوف القطار فيها مقررا له بضع دقائق فقط، ولكن بسبب عطل طرأ على الآلة طال الوقوف كثيرا، فقمنا إلى النافذة لنعرف السبب، فوقع نظري على ناظر المحطة يجيء ويذهب ملاحظا عمل إصلاح العطل، فاستلفت نظري جدا وشعرت حال رؤيته بميل شديد إليه لم أتمالك من إخبار رفيقي به، وكدت لولا أن عاود القطار السير حالا أن أنزل لأخاطب هذا الرجل فأعلم علمه ومن أين هو. مضت على هذه الحادثة مدة، رجعت في خلالها من سياحتي والتقيت بعدها بصديق سألني عما إذا كنت لم أجتمع هناك برفيق صبانا فلان؟ فقلت: وأين هو؟ فقال: إنه ناظر محطة كذا، فعلمت إذ ذاك أن ذلك الذي شعرت بالميل إليه لم يكن سوى ذلك الصديق؛ فلهذا لما رأيته في تلك البلاد، وكان أكثر تجانسا معي من جميع الباقين، شعرت بهذا التأثير. وعليه، أفلا نرى أيضا مثلا أن الإسكندري يأتنس بابن الإسكندرية في القاهرة، والمصري بالمصري في الشام، والشرقي بالشرقي في أوروبا، ولو اختلف عنه بلدا وأصلا ولغة؛ لأنهما فيما بينهما أكثر تجانسا منهما مع الغربي، وعلى هذا قال المثل: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.
فقال فريد: وإني أنا أيضا أروي لكم بعض الحوادث مما كنت أستهجنه أولا لعدم معرفتي لأسبابه، أما الآن فقد أصبحت أنظر إليه بغير تلك العين. كان لي قريب فقير يسكن في بيت حقير منزو في إحدى نواحي القرية، فأثرى بعد ذلك هذا القريب وأراد أن يحسن حالة مسكنه، فبدلا من أن يبني بيته الجديد في موقع أطلق هواء وأجمل موقعا؛ هدم بيته القديم وأقام في محله بيته الفخيم الجديد، فضحكت وقتئذ من فعلته هذه، فقال لي: إنه يشعر بحنان إلى موضع بيته القديم وبميل شديد إلى ذلك المكان؛ حيث ولد وعاش صبيا وشابا. وكان في حديقتنا شجرة كانت تأتيها ليلا جميع عصافير الجوار لتبيت فيها دون غيرها، حتى كادت أن تتلف، فعمدت جملة مرار على تحويلها إلى مبيت آخر، ولكن عبثا كنت أفعل، أخيرا اضطرني الأمر لاتخاذ طرق شتى تمكنت فيها نهائيا من إبعاد العصافير عنها إلى غيرها حتى سلمت. وهذا شاهد آخر على أن قريبي ذلك وهذه العصافير كانوا مدفوعين بتأثير العادة والذكرى، ذاك للبقاء في موضعه، وتلك للمبيت على الشجرة. فقال الشيخ: وبدافع التجانس أيضا لما تأثر قريبك به من بيته، والعصافير من شجرتك سلبا وإيجابا، أخذا وعطاء، حتى أصبح البيت والشجرة فيهم ومنهم أكثر من المواقع والأشجار الأخرى. قال هذا وهم بالقيام وإلقاء كلمة الختام، إلا أن فريدة نظرت إليه نظرة رجاء وقالت: بقي أمر آخر عن التأثير والشعور أريد قبل أن ننتقل إلى بحث جديد أن أستوضح الشيخ عنه؛ لأنه كثيرا ما شغل ذهني وبحثت فيه مليا دون أن أتوصل لمعرفة السبب الحقيقي له، ولكن مما فهمت الآن فإنه لا بد أن يكون هناك سبب طبيعي واضح لهذا: لقد كنت عندما آتي بأي عمل يؤذي أو يضايق أحدا؛ أشعر بانزعاج داخلي على قدر تصوري للأذية وللمضايقة، وكنت أيضا أشعر بعض الأحيان بمثل هذا الانزعاج دون أن أفعل شيئا، وقد كنت أيضا عندما أسر أحدا أو أنفعه أشعر بارتياح وسرور، كما أني أيضا كنت أشعر بمثل هذا بدون سبب، ولكني في كلا الحالين كنت عندما أخبر بعض رفيقاتي بالأمر كان هذا الشعور إن بالارتياح أو بالانزعاج يخف وأحيانا كان يزول. فما هو سر هذا يا ترى؟ فأجابها الشيخ وقال: اعلمي يا ابنتي أن التأثير الذي يرسله المصدر إلى المرسل إليه يخف أو يزول إذا تعداه إلى شخص آخر حسب قابلية هذا للقبول والتصدير بأسرع مما لو حصر في المرسل إليه؛ لأنه في إذاعته تقاومه عوامل خارجية رأسا بخلاف ما لو كان بقي محصورا؛ لأن المقاومة في هذه الحالة تبقى محصورة بين القوتين المرسلة والمرسل إليها فقط، والتأثير يكون عليهما حسب ما بينهما من التكافؤ أو التفاوت، وعلى هذا الأساس بنيت حكمة الاعتراف والإقرار، ثم اعلموا يا أولادي أنه كثيرا ما يلتقط الإنسان رسالات فرح أو حزن غير موجهة إليه رأسا؛ فيتأثر بها على قدر قابليته الوقتية، فهو والحالة هذه، مثل آلة اللاسلكي التي تلتقط ما يوجه إليها أو ما يمر في طريقها موجها إلى غيرها، فإذا دخل الواحد منكم مأتما مثلا وكان فرحا مسرورا، تولى عليه الحزن والأسي، كذلك إذا دخلتم عرسا وكنتم حزانى، تبدل حزنكم بسرور وطرب، فاكتفوا الآن بهذه، وسأزيدكم غدا بيانا، فقد أزف وقت الفراق فانعموا مساء، وموعدنا هنا غدا كما كان بالأمس واليوم، فشكروا له إيضاحاته، وتقدم منه فريد ووضع في يده بعض الشيء فشكر وحيا وقام.
الفصل السابع
إن سنن الطبيعة هي واحدة في الممالك الثلاث. ***
تناول الشيخ عصاه وقام متوكئا عليها وولى وجهه هذه الليلة شطر المدينة، ولما ابتعد قليلا قال نجيب لفريدة: عسى أن لا تكوني حاقدة علي وعلى فريد لدخولك مدرستنا، فإذا كان ثمة حقد فيجب أن يكون علي فقط؛ لأن فريدا لم يفعل إلا ما أوحيت به. فنظرت إليه فريدة فرأته باسما، فعلمت أنه إنما أراد المداعبة والمزاح، ولا غرو؛ فإنه كان يعرف عن فريدة رغبتها بالبحث وشغفها بمثل هذه المواضيع وتفضيلها لها على أي شيء آخر. فأجابته قائلة: قبل أن أجيبك قل لي كم الساعة الآن؟ فنظر الاثنان إلى ساعتيهما وكانت الساعة التاسعة، فقالت: هيا بنا؛ ولنسرع لأن وقت العشاء قد حان والجميع في البيت ينتظرون قدومنا، فلنذهب إذا شئتما ولا داع للإلحاح، فنأكل عندنا سويا وهكذا يمكننا تمضية بقية السهرة في متابعة دروسنا، أليس كذلك؟
قالت هذا ونظرت إلى نجيب، ثم قالت: ومن هنا تعلم إذا كنت حاقدة أو مسرورة، أما إذا كنت لا تريد إلا أن تسمع كلمة الشكر مني، فإني أهديكها، لا بل أهديكهما إياها بكل اغتباط وسرور. ضحك الثلاثة لهذا وقبلا صاحبانا الدعوة، فركبوا إحدى العربات تقلهم إلى منزل فريدة، فجلست فريدة في الوسط على يمين فريد، وجلس نجيب بجانبها يرقبها بكل اهتمام ليرى ما يبدو على وجهها ووجه فريد، وهما بقرب بعضهما، من التأثيرات بدون أن ينتبها إليه؛ لأنهما كانا غارقين كل منهما في ما كان يفكر فيه.
سارت العربة مسرعة وهم على هذه الحال حتى وصلت إلى أول الجسر، فتنبه فريد حينئذ ونظر إلى الماء، وكانت الحالة كما كانت يوم النزهة من بضعة أيام، فتذكرها ونظر إلى فريدة ونظر إلى نجيب وتبسم وقال: سبحان من يغير ولا يتغير، فأجابته فريدة لفورها - وكانت كأنها أفاقت من سباتها: صدقت، سبحانه على كل حال، ثم صمتت قليلا واحمرت وجنتاها؛ لأنها ذكرت وجودها مع ذلك الرجل يوم رآها فريد ولم تره، ولكنها لم تلبث حتى عبست وبانت عليها ملامح الجد والعزم، وقالت: قل لي يا فريد أين كنت يوم الخميس في مثل هذه الساعة؟ قالت هذا بلهجة الآمر المستعلم، فحار فريد في أمره لهذا السؤال ونظر إلى نجيب مستفهما مستنجدا وسكت، فلحظت فريدة عليه حيرته وارتباكه، فقالت: لماذا لا تجيب على سؤالي؟ فإن الأمر له علاقة بما سمعنا الآن من الإيضاح، فقل لي ولا تتردد حتى ولو كان هناك ما يدعو إلى الكتمان والمجاملة أو الخجل، فنظر فريد إلى نجيب ثانية وقال: ما رأيك يا نجيب في سؤال فريدة؟ فأجابه نجيب وقال: تكلم يا أخي، فالحقيقة يجب أن تقال ولو جرحت، وفريدة أعقل من أن تجرحها الحقيقة، ونحن الآن هنا نتكلم بالروح، والروح ليس لها جنس، فهي لا ذكر ولا أنثى، فقال فريد: إذن فلنترك المجاملة والخجل: لقد كنا هنا يا فريدة، لا بل كنا في أحد القوارب نتنزه في النيل نروح ونجيء أمام هذا المكان. فاحمر وجه فريدة أولا ولكنها تملكت نفسها وتبسمت وقالت: أنت ومن؟ قال: نحن الاثنان: نجيب وأنا. فقالت: إذن لقد رأيتماني؟ فقال: نعم، لقد رأيناك، لا بل رأيناكما. فقالت: كفى، لقد فهمت الآن سر انزعاجي تلك الليلة وهذا ما كنت أريد معرفته لقد صدق الشيخ فيما قال؛ فإن تلك الليلة قد التقطت جميع ما وجهت إلي من التأثير؛ لأن انزعاجي كان لدرجة قصوى حتى غيرني من حال إلى حال، فثق بأن جميع حبي الماضي لك قد تحول إلى صداقة خالصة لقد خنقت الصداقة الحب فنمت به وتقوت بما تغذت من أشلائه كما يتقوى الإنسان الضعيف بما يأكل من لحم حمامة أو حمل. فقال نجيب: وهذا دليل على تجانسكما مادة وروحا، ولولا ذلك لانقلب الحب إلى بغض شديد قتال؛ لأن الضعيف إذا أكل لحم الأفعى بدل الحمامة والحمل مات بدلا من أن يتقوى.
وصلت العربة إلى منزل فريدة فنزل الثلاثة ودخلوا البيت فوجدوا الجميع على وشك تناول الطعام فسار الكل إلى قاعة الأكل، فتعشوا وتسامروا قليلا، ثم خرجوا إلى الجنينة طلبا للنزهة يتمشون بين زهورها وأشجارها كل مع من طابت له مسامرته من الحاضرين، أما فريدة ونجيب وفريد فقد انفردوا لوحدهم يتابعون حديثهم. وفيما هم كذلك ابتعدت فريدة قليلا وأسرعت إلى مكان مخصوص في الحديقة حيث كانت منذ مدة زرعت زهرة نادرة كان أحد أصدقائها أهداها إليها ثم عادت كئيبة؛ لأن تلك الزهرة كانت قد ذبلت وتلاشت بما نبت حولها من الأعشاب الأخرى، شعرت فريدة بعد ذلك بألم في رأسها فاستأذنت من صاحبيها ودخلت حجرة نومها بعد أن اتفقت معهما على المقابلة لميعاد الغد، كان دخول فريدة حجرتها كمنبه للقوم للذهاب فانفرط عقد الحاضرين وذهب نجيب وفريد مع من ذهب كل منهما إلى منزله، حيث إن الليل كان قد انتصف.
في اليوم التالي اجتمع أصحابنا الثلاثة وساروا للقاء الشيخ فمروا في طريقهم وسط الحديقة الكبيرة، وكان الناس ذرافات يروحون ويجيئون في مماشيها، وقد جلس بعضهم على الخضرة تحت ظل الأشجار وبعضهم نام في الشمس، وكانت الطيور تحوم هنا وهناك فوق الناس، تحط تارة على الأرض وطورا على الأشجار، فتلتقط شيئا ثم ترتفع، وكان بعضها يتنقل من جهة إلى أخرى ومنقاره بالأرض يبحث عن الديدان ليقتات بها، وكان البستانيون منهمكين كل في عمله في خدمة الحديقة؛ فمنهم من كان يقتلع الأعشاب من بين الزهور، ومنهم من كان يروي الأرض، ومنهم من كان يحرثها، وكان البعض يسمد بعض القطع لإعدادها للزرع، وبعضهم يلقي البذور أو ينقل النبت من مكان إلى آخر.
مشى أصحابنا وسط هذا كله وهم صامتون يفكرون فيما يرون، ولكنهم لم يلبثوا حتى استوقف أنظارهم بعض المشاهد، إذ كان أحد البستانيين قد تسلق نخلة شامخة وكان بيده شيء أخذ ينفضه على ما كان عليها من الحمل. فقال فريد لنجيب: انظر يا أخي إلى جشع الإنسان فإنه يريد أن يحصر كل شيء فيه ويحرم غيره حتى من قوته، فها إننا نراه وقد ركب الأخطار وتسلق هذه النخلة العالية يرمي على حملها من المواد ما تعافه بقية الطيور والحيوانات؛ ليحفظه بجملته لنفسه ويجنيه كاملا حين نضجه. فأجابه نجيب وقال: إني وإن كنت أوافقك تمام الموافقة على ما يختص بالجشع الإنساني، إلا أن ما يفعله هذا الرجل الآن فوق النخلة ليس هو ما توهمت، بل إنه إنما يقوم بعملية التلقيح، فإن ما تراه في يده ينفضه عليها ما هو إلا جنبي نخلة ذكر، جاء به هذه النخلة الأنثى؛ ليثبت وينمي وينضج به ما عليها من الحمل. فتعجب فريد من هذا، وقالت فريدة: هل يوجد أيضا بين النبات ذكر وأنثى! سبحان الله، إن هذا لعجيب غريب! فأجابها صوت من ورائها وقال: نعم، ولكن ليس في الطبيعة شيء غريب، بل إن الغرابة تظهر لمن لا ينظر إلا للظواهر فقط، فالتفت الجميع إلى الوراء فرأوا الشيخ واقفا خلفهم وقد كان في الحديقة حينما دخلوها، فرآهم ذاهبين إلى المقعد المعلوم فتبعهم دون أن يروه، ولم يشأ بادئ بدء أن ينبههم إلى وجوده؛ لئلا يعكر عليهم صفوهم ويضايقهم بوجوده معهم فسار وراءهم كظلهم حتى وقفوا تجاه النخلة، وكان من حديثهم ما كان ففرحوا بهذه المباغتة، وحيوه بكل احترام فرد عليهم التحية بأحسن منها، واعتذر لهم عن مقاطعتهم الحديث. ثم تابعوا السير جميعا وتابع هو الكلام قائلا: اعلموا يا أولادي أن سنن الطبيعة هي واحدة في جميع أجزاء الكون، كما هي واحدة في الممالك الثلاث، وهي تسير على نظام أثبت من الثبات، وتنفذ بدقة تامة، ولو اختلف شكل التنفيذ؛ لأن الأصل واحد. فالسلبي والإيجابي هما في كل شيء يتجاذبان بما تفرع عنهما من الوحدات التي لا تعد ولا تحصى فيتأثران بفروعهما دون أن يختلا بالمجموع، وعلى قدر التأثير تتغير الظواهر فيأخذ هذا من ذاك وذاك من هذا، فيتغير الآخذ والمأخوذ منه ويتحول هذا من شكل إلى أشكال أو من وحدة إلى وحدات وذاك من أشكال إلى شكل أو من وحدات إلى وحدة للناظر، ولكن الأصل باق لا يتغير مثل الماء سائلا ومتجمدا وسحابا.
अज्ञात पृष्ठ