هلل الجميع لكزار حين مر، وقد كان فرسا في غاية الروعة بكل تأكيد. سارت مجموعة الخيول حول المرج ثم عادت تقترب من نهاية مضمار السباق، وطلب رئيس السيرك من صبيان الإسطبل أن يتركوا الخيول واحدة بعد الأخرى كي تتمكن من العدو بجوار المدرج في طريقها لمكان الانطلاق ويتمكن الجميع من رؤيتها جيدا. لم يكد يمر أي وقت على الإطلاق بعد أن وصلت إلى مكان الانطلاق حتى دق الناقوس وكانت الخيول قد انطلقت من مواقعها، وكان يمكنك أن تراها بعيدا عبر المضمار تبدأ في الجري معا عند الدوران الأول كمجموعة من الخيول الخشبية الصغيرة. كنت أراقبها بالمنظار وكان كزار متأخرا بعض الشيء، بينما كان يتقدم السباق إحدى الخيول ذات اللون البني المحمر. راحت الخيول تندفع وتستدير وعادت وهي تدق الأرض دقا وكان كزار متأخرا للغاية حين مرت الخيول بنا، بينما كان كيركابن هذا في المقدمة يجري بسلاسة. يا إلهي! إنه لأمر مهيب حين تمر بك ثم يكون عليك أن تشاهدها وهي تبتعد وتغدو أصغر فأصغر ثم تتجمع عند المنعطفات ثم تستدير باتجاه آخر جزء مستقيم من المضمار وأنت تشعر أنك تريد أن تسب وتلعن وتزداد رغبتك في ذلك أكثر فأكثر. وأخيرا، عبرت المنعطف الأخير ووصلت إلى الجزء المستقيم وكان كيركابن يسبق بعيدا في المقدمة. بدا الجميع في هيئة غريبة وكانوا جميعا يرددون: «كزار» بشيء من الاستهجان، ثم اقتربت الخيول وهي تدق الأرض بالقرب من الجزء المستقيم الأخير، ثم برز شيء من بين المجموعة في منظاري، جزء من حصان أصفر الرأس وبدأ الجميع يصيحون: «كزار» وكأنهم مجانين. أتى كزار أسرع من أي شيء رأيته في حياتي، واقترب من كيركابن الذي كان يجري بأقصى سرعة قد يجري بها حصان أسود مع ضرب الفارس له بالمنخاس ضربا مبرحا، وقد كادا أن يكونا متحاذيين للحظة ثم بدا كزار وكأنه يجري بضعف السرعة بتلك القفزات الكبيرة وذلك الرأس المرفوع، لكن حين صارا ندين كانا قد عبرا خط النهاية وحين ظهرت الأرقام في أماكنها كان الحصان رقم 2 في المركز الأول مما كان يعني أن كيركابن قد فاز.
راح جسمي كله يرتجف وشعرت بشيء من الإعياء، ثم حشرنا جميعا مع الناس عند نزول الدرج للوقوف أمام اللوحة حيث كانوا سيعرضون ما حققه كيركابن. والحق أنني كنت قد نسيت في أثناء مشاهدة السباق ذلك المال الكثير الذي راهن به أبي على كيركابن. كنت أرغب بشدة في فوز كزار. أما الآن وقد انتهى كل شيء، فقد كان من الرائع أن أعرف أننا قد حظينا بالفائز.
قلت لأبي: «كان سباقا رائعا يا أبي، أليس كذلك؟»
نظر إلي بتعبير طريف بعض الشيء وقبعته المستديرة على ظهر رأسه، وقال: «جورج جاردنر فارس سباق رائع بالتأكيد. من المؤكد أن منع ذلك الحصان كزار من الفوز كان يستلزم فارسا بارعا.»
لقد كنت أعرف أن في الأمر شيئا غريبا طوال الوقت، لكن قول أبي لذلك صراحة بهذا اليقين قد سلب مني كل متعة ولم أشعر بتلك المتعة الحقيقية بعد ذلك قط، حتى حينما عرضوا الأرقام على اللوحة ورن الجرس ورأينا أن أرباح كيركابن كانت 67,50 لكل 10. كان جميع المحيطين يقولون: «مسكين كزار! مسكين كزار!» أما أنا فقد كنت أتمنى لو أنني كنت فارس سباق وسابقت بكزار بدلا من ذلك الحقير. وقد كان من الغريب أن أفكر في جورج جاردنر على أنه حقير؛ إذ إنني كنت أحبه، ثم إنه قد أخبرنا بالفائز، لكنني أعتقد أن تلك هي حقيقته على أية حال.
جنى أبي الكثير من المال من وراء ذلك السباق وصار يزور باريس كثيرا. حين كانوا يتسابقون في ترومبلي، كان يطلب منهم أن يوصلوه إلى باريس في طريق عودتهم إلى ميزون وكنا نجلس أنا وهو في الخارج على مقهى كافيه دي لا بيه ونشاهد الناس وهم يمرون. الجلوس هناك أمر مسل؛ فهناك تمر حشود من الناس ويأتي إليك أنواع شتى من الناس يحاولون أن يبيعوا لك بعض الأغراض، وقد كنت أحب الجلوس هناك مع أبي. كان ذلك هو أكثر وقت نستمتع فيه. كان يمر بنا رجال يبيعون أرانب مضحكة تقفز حين تضغط أنت على زر، وكانوا يأتون إلينا ويمازحهم أبي. كان أبي يتقن الفرنسية إتقانه للإنجليزية وكان جميع هؤلاء الرجال يعرفونه؛ فمن السهل دوما تمييز فارس السباق، ثم إننا كنا نجلس على الطاولة نفسها دوما، وقد اعتادوا على رؤيتنا هناك. كان هناك رجال يبيعون صحف الزواج وفتيات يبعن بيضا مطاطيا، كنت إذا ضغطت على الواحدة منها يخرج منها ديك، وكان هناك رجل هزيل جدا يبيع بطاقات بريدية لباريس ويعرضها على الجميع، ولم يكن أحد يشتري أيا منها بالطبع، ثم كان يعود ويريهم الجانب السفلي من البطاقات فيتضح أنها بطاقات بذيئة، وكان الكثير من الأشخاص يقبلون على شرائها.
يا إلهي! إنني أتذكر الأشخاص المرحين الذين كانوا يمرون بنا. كان هناك فتيات يأتين في وقت العشاء بحثا عن رجل يرافقهن ويدعوهن إلى الطعام، وكن يتحدثن إلى أبي الذي كان يمازحهن بالفرنسية وكن يربتن على رأسي ثم يمضين. وذات مرة، كانت هناك سيدة أمريكية تجلس مع ابنتها على الطاولة المجاورة لنا وتأكلان الآيس كريم، وقد ظللت أنظر إلى الفتاة وقد كانت رائعة الجمال وابتسمت إليها وابتسمت إلي لكن ذلك هو كل ما آل إليه الأمر؛ إذ إنني ظللت أترقبها هي وأمها كل يوم، وخططت لكي أتحدث إليها، ورحت أفكر فيما إذا كانت أمها ستسمح لي باصطحابها إلى أوتوي أو ترومبلي بعد أن أتعرف عليها، لكنني لم أر أيا منهما مجددا. حسنا، أعتقد أن الأمر ما كان ليفلح على أية حال؛ إذ إنني حين أفكر في الأمر الآن أتذكر أن الطريقة التي ظننت أنها الأفضل في الحديث إليها هي أن أقول لها: «اعذريني، لكن هل لي أن أقدم لك رهانا رابحا في أونجن اليوم؟» وبالرغم من كل شيء ربما كانت لتحسبني بائعا لتذاكر الرهان، فليس هناك من أحد يحاول حقا أن يقدم لها رهانا رابحا.
كنا نجلس في كافيه دي لا بيه، أنا وأبي، وكان لنا تأثير كبير على النادل؛ إذ كان أبي يشرب الويسكي الذي كان ثمن الكأس منه خمسة فرنكات مما كان يعني إكرامية جيدة عند حساب عدد الكئوس. كان أبي يشرب أكثر مما رأيته قبل ذلك على الإطلاق، لكنه لم يكن يمتطي خيولا على الإطلاق آنذاك، ثم إنه قال إن الويسكي يساعده على إنقاص وزنه. غير أنني قد لاحظت أن وزنه كان يزداد في حقيقة الأمر. كان قد ابتعد عن أصدقائه القدامى في ميزون، وبدا أنه يستمتع بالجلوس فحسب في الشارع معي. بالرغم من ذلك، فقد كان ينفق الكثير من المال في السباق كل يوم. كان يبدو عليه الحزن بعض الشيء بعد آخر سباق إذ كان قد خسر في ذلك اليوم، إلى أن نصل إلى طاولتنا ثم يتناول أول مشروب له من الويسكي ثم يصبح على ما يرام.
كان يقرأ جريدة «باري سبور» ثم ينظر إلي قائلا: «أين فتاتك يا جو؟» ليمازحني بشأن ما قلته له عن الفتاة التي كانت تجلس في ذلك اليوم على الطاولة المجاورة. وكان ذلك يجعل وجهي يحمر خجلا، لكنني كنت أحب أن يمازحني بشأنها. كان ذلك يمنحني شعورا جيدا. كان يقول: «استمر في البحث عنها يا جو؛ فهي سوف تعود.»
كان يسألني بعض الأسئلة عن بعض الأشياء، وكان يضحك لبعض الأشياء التي أخبره بها. بعد ذلك، كان يبدأ هو في الحديث. كان يتحدث عن ركوب الخيل في مصر أو في سان موريتس على الجليد قبل أن تفارق أمي الحياة، وعن وقت الحرب حين كانوا يعقدون سباقات منتظمة في جنوب فرنسا دون نقود ولا رهان ولا جمهور ولا أي شيء؛ للحفاظ على مستوى الخيول فحسب. وكان يتحدث عن سباقات منتظمة يرهق فيها فرسان السباق خيولهم بشدة. يا إلهي! كان يمكن أن أظل أستمع إلى أبي وهو يتحدث لساعات، لا سيما حين يكون قد تناول كأسين أو نحو ذلك من الويسكي. كان يخبرني عن طفولته في كنتاكي والذهاب لصيد الراكون، وعن الأيام الخوالي في الولايات المتحدة قبل أن يفسد كل شيء هناك. وكان يقول: «حين يصبح معنا مبلغ جيد من المال يا جو، ستعود إلى الولايات المتحدة وتتلقى تعليمك.»
अज्ञात पृष्ठ