अरबी संस्कृति के नवीनीकरण में
في تحديث الثقافة العربية
शैलियों
وماذا يكون المعيار الذي نعلم به أن ثقافة ما قد دب فيها خلل في موضع من نسيجها أو في أكثر من موضع؟ إن هذا المعيار المنشود بسيط وواضح، أشد ما تكون معايير الظواهر بساطة ووضوحا، ألا وهو مدى لياقته لظروف الحياة القائمة! ومعنى «اللياقة» هنا هو القدرة على تسخير الأشياء والمواقف والأحداث، تسخيرا يجعلها مطية لنا، نبلغ بها منازل العلم، والقوة، والثراء والكرامة، والحرية ... إلى آخر تلك الغايات التي ينشدها كل إنسان معافى، ولا يغفل عن طلبها إلا إنسان مريض؛ فثقافة الفرد من الناس، أو الشعب من الشعوب، أو العصر من العصور، إنما يراد لها أن تكون أداة لبلوغ ما كان في المستطاع بلوغه من درجات الصعود، فإذا وجدت إنسانا تتعثر خطاه، ويأخذه اضطراب وربكة، إذ هو في موقف معين؛ فاعلم أن «ثقافته» التي تراكمت فيه قطراتها قطرة قطرة من حيث يدري ولا يدري لم تكن هي الثقافة التي تعد صاحبها لمثل ذلك الموقف؛ فثقافة الفرد من الناس، أو الشعب من الشعوب. هي كالدفة من السفينة، إذا غابت فقد تسبح السفينة على سطح الماء كما يشاء لها تيار الماء واتجاه الريح، وليس كما يشاء لها صاحبها وراكبها، وإنها لصورة مألوفة لنا، نتفكه بها في أحاديثنا، ونمثلها على مسارحنا، وهي أن نضع إنسانا في غير مألوفه لنرى ربكته، كأن نضع ريفيا في مدينة، بل نتخير له من المدينة أسرة مرهفة التحضر في مسالكها، وعندئذ نرى كيف يتخبط الريفي في معالجته للأشياء من حوله، وفي ردود أفعاله للمواقف التي تنشأ له وهو لم يألف أشباها لها، فنراه عندئذ لا يتحرك حركة، ولا ينطق بكلمة، إلا وجد الحركة في غير سبيلها، والكلمة في غير سياقها؛ وإذا هو بهذا كله قد أصبح هدفا للنكات الساخرة، وباعثا على الضحك.
وليس الفارق بعيدا بين ذلك الريفي البريء وهو في محيط لم يعد بثقافة تهيئه للعيش فيه عيش صاحب الدار في داره، يعرف كيف يتحرك في غرفها وأبهائها، وكيف يستخدم كل ما فيها من الأدوات وقطع الأثاث، أقول إن الفارق ليس بعيدا بين ذلك الريفي وهو في غير محيطه، وبين شعب أهمل نفسه حتى تخلف عن ركب الحياة، فإذا اضطرته ظروف حياته أن يوضع في المواضع التي تقدمت من ركب الحضارة، أدرك كم هو أعزل من «ثقافة» تمكنه من مواجهة محيطه مواجهة القوى القادر، وإن المسافة الحضارية بينه وبين طليعة الركب؛ لتتبين له ليعرف كم هي بعيدة، كلما نشأ بينهما موقف للتصادم، كحرب تشتعل فلا تكاد تقوم أول شرارة منها حتى يظفر بالنصر ذلك الذي وجه دراسته نحو العلم الصحيح ، الذي يخرج به أسلحة الحرب جنبا إلى جنب مع ما يخرجه من آلات المصانع، أو أن ينشأ بينهما تنافس اقتصادي في أي صورة من صوره فإذا بذلك الذي أهمل نفسه حتى تخلف عن الركب؛ يرى بعينيه كم يجهل هو وكم يعلم منافسوه!
واضح لنا - إذن - أن علامة «الثقافة» الصحيحة هي قدرتها على أن تكون أداة لحياة قوية مزدهرة قادرة على أن تكون لها الهيمنة في الظروف المحيطة بها. وبهذه الدرجة نفسها من الوضوح نقول عن «الثقافة» المعافاة، إنها هي التي لا تتجمد عروقها حتى يشل حاملها أو يموت بتصلب الشرايين؛ ففي الثقافة الصحيحة مرونة تتكيف بها كلما تغيرت من حولها ظروف الحياة، ولو كانت تلك الظروف المستحدثة هي مما ينحدر بالإنسان إلى مهاوي الضعف والجهل والفقر؛ لقلنا عن الثقافة الصحيحة إنها هي التي تقاوم تلك الظروف المستحدثة، ولكن ماذا لو كان المستحدث عاملا على زيادة في العلم وفي القدرة وفي الارتفاع بمنزلة الإنسان ارتفاعا يقربه مما أراده له خالقه سبحانه وتعالى من كرامة وتكريم؟ من هنا وجب على الثقافة الصحيحة أن تجيء وفي أصلابها دوافع تدفع حامليها على تقبل التغيير، كلما ضاقت أثوابهم الحضارية عن أبدانهم؛ فليس يراد لصاحب ثقافة ما أن يكون عبدا لثقافته تلك، يحرسها لتدوم على حالها حتى إن دب فيها الضعف والمرض، بل يراد للمثقف ثقافة معينة أن يكون منها ما يكون الإنسان من أدوات عيشه، يبدلها بما هو أصلح، إذا تغيرت الظروف وظهر فيها ذلك الأصلح.
وما التغيير الذي نطلبه؟ ما البوصلة التي تبين لنا الاتجاه الصحيح حتى لا نضل الطريق ونحن في محيط الماء أو في فلاة من الصحراء؟ إننا إذا تأملنا حياة الإنسان الثقافية بصفة عامة، وعلى امتداد تاريخها وعريناها عن تفصيلاتها الكثيرة لنخلص إلى هيكلها المجرد؛ وجدنا ذلك الهيكل وكأنه مؤلف أساسا من سماء وأرض وبينهما إنسان، والسماء هنا رمز نرمز به للدين، والأرض رمز نرمز به للكون الطبيعي الذي في رحابه يقضي الإنسان حياته منذ يولد إلى أن يموت، وأما الإنسان ففي فطرته ما يتجانس به مع مادة هذا الكون؛ لأن له جسدا خلق من طينة الأرض! وكذلك في فطرته ما يسمو به إلى شفافية الملائكة؛ لأن له روحا إذا آمنت بالله حق الإيمان كانت كمن نفض عن نفسه ثقل المادة وكثافتها وظلامها، وعلى هذا الهيكل جاءت العصور الثقافية؛ فعصرا يكون المثل الأعلى للإنسان في حياته هو أن يزدري الأرض ويعف عنها؛ أملا في حياة آخرة فيها نعيم الخلد مرضيا عنه عند ربه، لكنه إذا ازدرى الأرض فقد ضاعت من يديه العلوم ومعها معرفته بأسرار الكون، وضاعت الدوافع الحضارية كلها؛ إذ لا يكون ارتقاء الإنسان عندئذ مرهونا بارتقاء حضارته، بل يكون الارتقاء معتمدا على العبادة والزهد في الحياة الدنيا بكل ما فيها، لكن عصرا آخر قد يجيء وإذا بالمثل الأعلى يتغير محوره؛ فبعد أن كان تطلعا من الإنسان إلى السماء عابدا وزاهدا، يصبح وعيناه مع قدميه على هذه الأرض، يحرثها ويزرعها، ويستخرج معادنها من بطنها، ويقيم المدن وتعج به الحياة حركة وصناعة وحروبا وسعيا إلى القوة بشتى صورها.
ولقد خيل للإنسان أن المناخ الثقافي الذي يسود هذا العصر أو ذاك لا يخلو أن يكون على إحدى الصورتين: فإما هو مناخ صلح بالتقوى وبالتجرد من شواغل الدنيا، وإما هو مناخ تشغله الدنيا عن الآخرة. واصطلح الناس على أن يصفوا الصورة الأولى ب «الروحانية»، وأن يصفوا الصورة الثانية ب «المادية»، والسعيد من الناس هو من وفقه الله إلى رؤية أخرى تكاد تفرض نفسها فرضا لبداهتها، وهي أن يجمع الإنسان بين دين ودنيا، وليس هذا الجمع - بالنسبة للمسلم على الأقل - جمعا بين ضدين لا يلتقيان بحكم طبعهما، إلا كما يتجاوز ضد مع ضده دون أن يندمج فيه، بل هو جمع يجعل أحد الجانبين سبيلا للوصول إلى الجانب الآخر، وصولا يحقق الصورة الأفضل والأمثل، فعن طريق هذه الدنيا، والعلم بكائناتها وظواهرها؛ يزداد الإيمان بالله جل وعلا، غزارة وعمقا، فإحساسك بعظمة الله إذا رأيت الضوء، أو نظام الأجرام السماوية، أو أدركت قوة الكهرباء؛ يزداد إذا عرفت من هذه المخلوقات كلها تفصيلات وجودها ، وقوانين سلوكها حين يتفاعل بعضها مع بعض، إن إيمان المؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى وأحديته؛ يقوى ويبصر إذا عرف الدارس عن طريق «العلوم» كيف تتألف كائنات هذا الكون، فيكمل بعضها بعضا، حتى لكأن الكون على سعته الواسعة وكثرة كائناته وتعدد قواه؛ كائن واحد موحد الأعضاء متكامل الوظائف، وحتى لكأنه كذلك بمنزلة مخلوق عاقل، جسده هو مادته التي نراها، وعقله هو نظامه في كل جزئية منه، ثم في مجموعه نظام مكننا عن طريق «العلوم» أن نستخرج «القوانين» العلمية التي على سننها تسلك العناصر وتتفاعل. وماذا يكون هذا الموقف الثقافي من الدنيا والدين الذي يجعل العلم بالدنيا سبيلا إلى عمق الإيمان الديني؟ إذا لم يكن هو الموقف الذي ينبغي لنا بأن نجعل منه مثلنا الأعلى في حياتنا الثقافية حين ننشط فيها أفرادا وشعبا، وحين نخطط لها، وحين نبثها بثا في نفوس الناشئة ونحن نتولاهم بالتربية وبالتعليم في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا!
وقريب جدا من الهيكل الذي صورنا به أنماط الحياة الثقافية، في مختلف الشعوب ومختلف العصور، تصوير آخر ربما ازددنا به فهما للمعنى المقصود؛ فمن ينظر إلى التاريخ الثقافي بمختلف مراحله نظرة يغوص بها تحت السطح وصولا إلى أعمق الجذور؛ وجد ثلاثة محاور قوامها أفكار كبرى ثلاث، هي التي كانت في جميع الثقافات، بمنزلة الأنوال التي تنسج عليها حياة الناس الثقافية بكل تفصيلاتها، لم يختلف في ذلك شعب عن شعب، أو عصر عن عصر، وتلك المحاور الثلاثة، هي: الله، والكون، والإنسان، وفيها ينشأ الدين والعلم ونوازع الإنسان التي تدفعه هنا تارة وهناك طورا، فإذا كنا نتعقب ثقافات الشعوب وثقافات العصور، فنلحظ بينها اختلافات تميز بعضها من بعض؛ فإنما ذلك يرجع إلى اختلاف الترتيب الذي تجيء به تلك المحاور في فعلها وتأثيرها، فقد يكون الدين تارة هو نقطة البدء، وعليه يترتب النشاط العلمي، وما يتصل به من اهتمامات عملية، وكان هذا الترتيب هو الذي يخلع على حياة الإنسان صورتها العامة، فإذا كان الترتيب على عكس ذلك، بأن تكون الأولوية في اهتمامات الناس إلى العلم بالكون وظواهره وإلى شئون الحياة العملية بناء على ذلك العلم؛ جاء الدين وقد ازداد في نفوس الناس نورا على نور، ففرق بين من يأخذ عقيدته الدينية إيمانا لا يصحبه فهم لحقيقة ما آمن به، وبين أن يستعين المؤمن بعلمه بسر الكون وعظمته، في إدراكه لعظمة الخالق جلت قدرته، وربما كان ذلك جانبا من جوانب المعنى في قول الله سبحانه وتعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء ، فمن يعلم عظمة الكون، عن طريق دراساته العلمية لظواهر هذا الكون وقوانينها، هو أعرف بجلال الله وعلمه وقدرته، ممن لا يعلم.
فالشعوب تختلف في مناخها الثقافي، والعصور تختلف في ذلك المناخ، باختلافها في تحديدها للفكرة التي توضع موضع الأساس من البناء، بحيث تجيء الأفكار الأخرى فروعا تستمد منها القوة والثراء، وذلك رغم اتفاق الجميع على المحاور الأساسية التي عليها يقام البناء، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الذي توجبه ثقافة عصرنا في هذا الصدد؛ هو أن نجعل الدراسة الدينية تبنى، في بعض وجوهها، على العلوم الكاشفة عن قوانين الكون ونظامه، وذلك لا ينفي أن تبدأ مع الطفل بتلقينه العقيدة وأركان العبادة، إيمانا لا يشترط فيه السؤال: لماذا؟ وكيف؟ حتى إذا ما شب ذلك الطفل، مراهقا، فشابا، وحصل ما حصله من علوم؛ عدنا به إلى إيمانه بما كان قد آمن به، ليعيد فيه النظر مستعينا بما قد حصله من علوم.
وانظر في ضوء ما ذكرناه، إلى الواقع الفعلي في حياتنا الثقافية، تلحظ ثلاثة أنماط أساسية، يختلف بعضها عن بعض، ثم تجيء بينها درجات متدرجة، تأخذ من هذا النمط شيئا، فهناك جماعة حصلت علوم الدين من كتب الدين، ولا شيء أكثر من ذلك؛ فألمت بمحتوى تلك الكتب إلماما لا يترك كبيرة ولا صغيرة مما ذكر فيها، بل إنها لتسوي بين الكبيرة والصغيرة؛ فيختلط عندها ما هو أهم بما هو مهم وبما هو قليل الأهمية، وهنالك جماعة أخرى تقع من الجماعة الأولى موقع الضد من ضده، وهي جماعة درست العلوم الدارسة لظواهر الكون، ولم تقرأ شيئا، ولم تسمع شيئا عما ورد في كتب الدين، فإذا كانت الجماعة الأولى قد حفظت الدين نصوصا وردت في كتب، ولم تتزود بعلوم العالم لتضيف إلى تلك النصوص المحفوظة أبعادا وأعماقا؛ فإن الجماعة الثانية قد اقتصرت على علوم العالم، لتطبقها على هذا العالم في ظواهره، دون أن تنقل ضوءها إلى نصوص الدين، وبين الجماعتين جماعة ثالثة، قليلة العدد، استطاعت أن تقف الوقفة الصحيحة؛ فنظرت إلى نصوص الدين من مناظير العلوم، ففتح الله عليها برؤية مضيئة بعيدة الآماد، واسعة الآفاق، فلو أن رؤيتها تلك، قد أتيح لها أن تتسع لتكون هي طابعنا الثقافي العام؛ لجاءت حياتنا اليوم على خير ما نتمنى، لكن الله لم يرد لنا مثل هذا التوفيق.
وإن هذا لينقلنا إلى ما كان ينبغي لنا أن نستهدفه بجدية وعزيمة مصممة على بلوغ الهدف المنشود، منذ بزغت شمس نهضتنا الحديثة في أوائل القرن الماضي، وإلى يومنا هذا، وهو أن نعمل على نسج حياة ثقافية جديدة، فيها من هويتنا القومية التاريخية معالمها الجوهرية، التي هي روح التدين أولا، والتكافل الأسري على نطاق الأسرة الصغيرة، وعلى نطاق الأسرة الكبيرة، التي هي الأمة بأسرها، في آن واحد، ثم حرارة الانتماء إلى الوطن، أرضا وشعبا وثقافة، ومع تلك المعالم الرئيسية تندمج صفات أخرى نستمدها من عصرنا، وأهمها علوم هذا العالم، وهي العلوم التي أشرنا إليها، وقلنا باكتسابها، يمكن النظر إلى نصوص الدين، فإذا هذه النصوص تضاء بضوء جديد، ويظهر من مضامينها ما لم يكن قد ظهر، وتلك هي الدعوة إلى الأصالة والمعاصرة معا، وهي دعوة ما فتئت تتردد إلى أقلام الرواد، منذ الطهطاوي وحتى يومنا الراهن، لكننا نظلم أنفسنا لو زعمنا بأن الدعوة إلى الأصالة والمعاصرة لبثت ما يزيد على مائة وخمسين عاما محدودة بالحدود التي بدأت بها؛ لأنها - كأي فكرة أخرى تسري في تيار الحياة الثقافية - تنمو مع الزمن، فكل جيل يعاود عرضها بصورة جديدة، فيها مزيد من تفصيل، ومزيد من وسائل التطبيق، وأقول ذلك تعليقا على ما قرأته منذ قريب، لبعض أئمة حياتنا الفكرية، متعجبين كيف نظل ندعو مثل هذه الدعوة وقد سبقتنا إليها أقلام في الجيل الماضي وما قبله، بل إنها دعوة - كما قالوا - ورد ذكرها في بعض آيات الكتاب الكريم، وإننا لنسأل هؤلاء الأفاضل: وهل أفلحنا في تحقيق ما قاله السابقون علينا ولذلك يكون قد وجب علينا السكوت؟ أترون أن المسألة مجرد تأدية واجب، وأن ذلك الواجب هو «فرض كفاية»، بمعنى أنه ما دام قد اضطلع به فرد، سقط عن بقية الأفراد؟ والحق أنه لا هذا ولا ذاك، وما يزال مجال القول واسعا أمام القادرين.
अज्ञात पृष्ठ