अरबी संस्कृति के नवीनीकरण में
في تحديث الثقافة العربية
शैलियों
الفرق بعيد بين اللغة العلمية من جهة، ولغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية من جهة أخرى؛ وأول فرق أشير إليه، لنفرغ منه فروعه المهمة، هو أنه بينما اللغتان الأخيرتان، وأعني لغة الشعر والأدب ولغة الحياة الجارية، تستخدمان اللفظ بجانبيه: الإشاري والتعبيري؛ أي إنهما إذ تراعيان - بالطبع - أن يجيء الكلام مشيرا إلى الجانب المقصود من جوانب الواقع، وذلك حين يكون الحديث حديثا عن واقع معين؛ فهما كذلك يستعملان اللفظ بشحنته الشعورية التي يكون ذلك اللفظ قد اكتسبها بالاستعمال على امتداد الزمن. وإن هاتين اللغتين: لغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية؛ لتتفاوت عند الناس درجات القوة أو الضعف فيهما بمقدار ما يحملانه من تلك الشحنة الشعورية التي أشرنا إليها. وأما اللغة العلمية، ولا سيما في العلوم التي تقدمت من حيث الدقة، كالفيزياء والكيمياء؛ فالمثل الأعلى عندها هو أن يتجرد الرمز العلمي من كل أثر للشحنة الشعورية، حتى ليفضل رجال العلوم أن يصطنعوا رموزا يجعلونها لغة لهم في المجال العلمي؛ لتجيء تلك الرموز خالية من آثار الاستعمال اليومي في حياة الناس الجارية، وإذا هم لم يستطيعوا ذلك - كما هي الحال غالبا في العلوم الإنسانية، كعلوم الاقتصاد، والاجتماع، والنفس - فلا أقل من تعريف الألفاظ الأساسية الواردة في غضون العلم المعين، تعريفا يحدد المراد منه تحديدا دقيقا؛ والغاية من ذلك التحديد هي أن يخلو اللفظ مما علق به من ميراث الوجدان التي بطبيعتها قد تختلف باختلاف الأفراد؛ كي يكون الباحثون جميعا في مجال علمي معين على اتفاق تام بالمعاني المقصودة من مصطلحات مجالهم.
ويتفرع عن ذلك التحديد لمعاني الرموز أو الألفاظ المستخدمة في العلوم؛ فرق آخر بالغ الأهمية في التمييز بين لغة العلم في ناحية، ولغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية معا، في ناحية أخرى؛ وهو أنه بينما الناس في هاتين اللغتين، يأخذون الكلمات بمعانيها الانطباعية، أي إنهم يكتفون بمجمل المعنى كما يبدو في ظاهره؛ ترى العلماء في شتى مجالات العلوم يحللون الأشياء المسماة بتلك الكلمات تحليلا يدعوهم إلى أن يستبدلوا باللفظة المعينة مما يستعمله الناس رموزا أو ألفاظا أخرى تتعدد بتعدد العناصر الجزئية التي انحل إليها الشيء الذي أخضعوه للتحليل، فمثلا: لا بأس في لغة الشعر والأدب، وفي لغة الحياة الجارية على السواء، في أن يسمى الماء باسمه «ماء»، أما في دنيا العلم؛ فإنهم يحللون الماء، فيجدونه مؤلفا في كل ذرة مائية منه، من ذرتين من ذرات الهيدروجين، وذرة واحدة من ذرات الأوكسجين، فيلخصون هذا التركيب ويقولون - بدل كلمة «ماء» - «2 يد أ»، وتكون هذه الصيغة هي ما يستعمله العلماء كلما أرادوا أن يقولوا «ماء».
ولعلك تلحظ أن موضع الاختلاف بين كلمة «ماء» في لغة الشعر والأدب والحياة الجارية، وبين الصيغة: «2 يد أ» في لغة العلم؛ هو أن الاسم في الحالة الأولى يبرز «الكيف»، أي إنه يهتم بوقع الشيء على الحواس، بينما هو في الحالة الثانية يبرز «الكم»؛ أي المقادير المحددة من كل عنصر من عناصر الشيء، وواضح أن من يكفيه أن يقول عن الماء إنه «ماء» لا يهتدي بهذه التسمية إلى الطريقة التي «يصنع» بها ماء، أما الذي يشير إلى الماء يقوله «2 يد أ» فهو في الوقت نفسه يرسم الطريق أمام من يريد صناعة الماء؛ إذ ما عليه إلا أن يحصل على الهيدروجين من مصادره، وعلى الأوكسجين من مصادره وبتجربة علمية يدمج هذا بذاك فإذا بين يديه «ماء» بعد أن لم يكن.
إن لغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية معا، قد درجتا على أن تضيفا إلى التركيب اللغوي إضافات وزوائد، لها معانيها في مجرى الشعور الباطني عند الإنسان المتكلم، ولكن ليس لها ما يقابلها في وقائع الدنيا الخارجية؛ ولذلك يستغني عنها رجال العلم عندما يصوغون علومهم في لغة علمية؛ فمثلا، لا بأس عند الأديب، وعند الإنسان في حياته الجارية، أن يقول: ألا ما كان أسعدها من لحظة عندما التقيت صديقي! فالحالة الواقعة هنا، التي تكتفي بها الصياغة العلمية هي: «التقيت صديقي»: وأما سائر الكلمات الواردة في الجملة الأولى فلها أهميتها ولها معناها، لكنها أهمية ومعنى يتصلان بدخيلة المتكلم في ذات نفسه، لكنها بغير معنى بالنسبة إلى عالم الواقع الذي حدث في خارج الإنسان، والذي هو مجال النظر العلمي.
ومما يترتب على الفرق بين النوعين: لغة الشعر والأدب ولغة الحياة الجارية من جهة، ولغة العلم من جهة أخرى؛ أن الكلام في الحالة الأولى يجيء متداخل الأجزاء متشابك الخيوط، حتى لقد ترى كلاما تظنه جملة واحدة، تقبلها معا، أو ترفضها معا، أما في الحالة الثانية فالأغلب أن يجيء الكلام مفصل الأجزاء؛ حتى يمكن الحكم على كل جزء على حدة بالصواب أو بالخطأ، دون أن يمتد ذلك الحكم ليشمل الأجزاء الأخرى. وأسوق لذلك مثلا هذه العبارة: «مات ملك المدينة الفاضلة أمس»؛ فها هنا يغلب على السامع من عامة الناس أن يأخذ الجملة وكأنها خبر واحد أوردته جملة واحدة، يقبلها معا أو يرفضها معا؛ وأما صاحب النظرة العلمية فيحلل - أولا - هذا المركب اللفظي إلى الجمل التي يشتمل عليها، ففيها: (1) هنالك «مدينة فاضلة»، وقد يكون ذلك وحده زعما باطلا، وقد يكون خبرا صحيحا و(2) لهذه المدينة الفاضلة ملك، وقد يكون ذلك صحيحا وقد لا يكون، فربما كان هناك بالفعل «مدينة فاضلة» لكن الذي يحكمها ليس ملكا؛ و(3) وهذا الملك مات، وربما صدق هذا الخبر أو كذب، و(4) وأن موته حدث أمس، وأيضا هنا نقول إنه ربما صح أن ملكا كهذا كان بالفعل موجودا، وإنه حقا قد مات، لكنه موت وقع في تاريخ غير الأمس.
ذلك نموذج مصغر يبين لك كيف يتلقى الخبر المعين من لم يدرب على تحليل علمي للحقائق، وكيف يتلقاه صاحب النظرة العلمية؛ فالأول متأثر بلغة الحياة الجارية والثاني متأثر بلغة العلم.
والكلام في لغة العلم يطول إذا أردنا إحاطة شاملة لكل خصائصه، وأطول منه كلام يطمع صاحبه في إحاطة شاملة لخصائص اللغة عندما تكون شعرا، أو أدبا من أدب النثر، وإحاطة شاملة لكل خصائص اللغة الجارية في حياة الناس اليومية. ولئن كانت «اللغة» - أيا كانت صورتها - في حد ذاتها ظاهرة تدعو إلى العجب إذا ما تأملناها؛ فلعل أعجب ما فيها هو أنها تستعصي على التحليل الكامل الشامل، لأننا إذا ما حاولنا مثل ذلك التحليل، تحللت أنسجة اللغة بين أصابعنا، وفقدت الصفة التي من أجلها كانت لغة. والأمر في هذا يشبه أن تعبر خندقا على ألواح رقيقة من الخشب، فأنت تعبر سالما إذا خطوت على الألواح الخشبية في خفة، كالتي أرادها أبو العلاء المعري حين خاطب السائر على أديم الأرض بقوله: «خفف الوطء ...» وأما إذا ركبت رأسك، وأصررت على أن تخبر طبيعة الألواح الخشبية الرقيقة على حقيقتها، فأخذت تقفز عليها بجميع ثقلك؛ فلا عبرت أنت الخندق، ولا بقيت الألواح.
وصولا إلى حرية وعدالة
لم تكن هذه أول مرة، ولا كانت المرة العاشرة، التي وقفت فيها عند آيات كريمة في «سورة البلد»، مرهفا كل ما أملك من قوة الإدراك والفهم، وفي كل مرة كنت أجدني أمام صورة كاملة متكاملة الأطراف لمجتمع ارتفعت ثقافته فارتفعت حياته، إلا أن الصورة كما وردت في جملة الآيات الكريمة، مكثفة تشد قارئها نحو العمق، أكثر جدا مما تسير به نحو الطول والعرض، ومتروك للقارئ أن يعمق من عمقها؛ ليعود فيتسع بالمعنى، ليرى كيف يمتد فيشمل حياة الإنسان في مجتمع كبير، تتشابك فيه الصلات والمعاملات بين أفراده، نعم، لطالما تأملت المعنى في هذه الآيات الكريمة من سورة «البلد»: ... ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين * فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة ... .
ولقد كان مما دعاني إلى طول الروية أمام هذه الآيات الكريمة؛ أنني رأيت فيها صورة لم تكن هي التي رآها المفسرون، ورأيت كذلك أن الصورة التي ارتسمت في ذهني من هذه الآيات الكريمة ترسم قواعد البنيان لحياة الإنسان في مجتمع قوي سليم أوضح مما يرسمه تفسيرها الشائع، وأستغفر الله إن كنت على خطأ، وربما كان محور الاختلاف في الفهم والرؤية، هو معنى كلمتي «النجدين» و«العقبة»، على نحو ما سوف أبينه.
अज्ञात पृष्ठ