अरबी संस्कृति के नवीनीकरण में
في تحديث الثقافة العربية
शैलियों
وكاتب هذه السطور - بكل التواضع الواجب أمام رواد الحركات الفكرية في العالم - يرى نفسه على شك في أن تكون تلك الوسيلة المقترحة مؤدية إلى الهدف المنشود، والهدف المنشود هو تعميق الإنسية في من درسوا العلوم الطبيعية والرياضية في مرحلة الجامعة؛ لأن تلك العلوم منصبة على غير الإنسان من حيث هو إنسان؛ إذ هي حتى في الحالات التي يكون الإنسان موضوعها، كما هي الحال في علم وظائف الأعضاء، والتشريح وغيرهما؛ لا ينظر إلى الإنسان إلا كما ينظر إلى أي مادة أخرى من المواد التي يتناولها العلماء بالبحث، ويكمل هذا الهدف بالنسبة إلى دارسي العلوم هدف مشابه بالنسبة لدارسي العلوم الإنسانية؛ إذ يقترح في هذه الحالة أن نعمل على إثارة اهتمام الإنسان العادي بدنيا الأشياء، وتزويده بنظرة علمية تمكنه من الرؤية الموضوعية للمشكلات التي تعرض له في طريق حياته اليومية كما تقع له، أقول إن مثل هذا الهدف المزدوج لا يتحقق بإضافة مادة من الدراسات الإنسانية إلى دارسي العلوم، ومادة من الدراسات الطبيعية والرياضية إلى دارسي الإنسانيات؛ لأن تلك الإضافة المقحمة ستبقى - في أرجح الظن - رقعة منعزلة دخيلة لا تندمج مع غيرها في تكوين الشخص ووجهة نظره.
وإنه ليبدو لي أن هنالك موضوعا قد غفل عنه رجال الفكر في معالجتهم للمشكلة التربوية المطروحة، مع أنه يكاد يفرض نفسه فرضا على العقل، ألا وهو «اللغة»؛ فالفارق الحاسم بين الإنسان وغيره من الكائنات، هو أنه ذو «لغة»، لا بمعنى الإشارات المبهمة التي قد نراها في بعض أنواع الحيوان حين يصيح فرد ليتنبه بقية أفراد نوعه على خطر داهم - أو ما هو من هذا القبيل - ولكن قصدت «اللغة» بالمعنى الذي نعرفه في لغات البشر؛ فلغة الإنسان هي «فكره»، وأرجو أن تلحظ أني لم أقل إنها أداة تنقل «فكره»، بل إنها هي هي «فكره»، وهي هي «وجدانه»، وهي هي كل حياته اللاحيوانية، ولك أن تقول إن ما يكتبه الكاتب أو يقوله المتكلم إنما هو «عقله» وقد ظهر من مكمنه إلى العلانية، وذلك إذا كان الموضوع من موضوعات العقل، وكذلك هو «وجدانه» وقد تجسد في موجات الصوت أو في الكتابة المرقومة على ورق. واختصارا فلغة الإنسان هي نفسه، هي شخصه هي حقيقته، فإذا بقيت بقية غير منطوقة طواها في أحشائه؛ فذلك ما لا يدخل في الحساب عندما ننظر إليه باعتباره عضوا في مجتمع.
فإذا أضفت إلى هذا كله، حقيقة أخرى، هي أن اللغة التي كتب بها أسلافنا ما كتبوه وخلفوه لنا هي أقوى صلة تربطنا بهم في استمرارية تاريخية؛ استطعت القول بأن من قرأ صفحة من تراث الآباء، فقد طالع عقله وأحس مشاعره، وبالتالي فقد عاش معه بمقدار ما قرأ، على أن كتابات السلف ليست كلها سواء في إظهار لفتات عقولهم ونبضات قلوبهم، وإنما هي درجات تتفاوت بتفاوت كاتبيها، فإذا أحسنا اختيار ما يقرؤه طلاب العلوم، وما يقرؤه طلاب الإنسانيات؛ زرعنا بذلك في أفئدتهم ليس فقط إحساسا بانتمائهم إلى خط تاريخي واحد مع هؤلاء السلف، بل إننا لنزرع كذلك في تلك الأفئدة تعاطفا إنسانيا يجاوز حدود الوطنية والقومية؛ ليشمل صلة الإنسان بالإنسان أينما كان.
على أن «اللغة» في عصرنا الحاضر قد ظفرت بكثير جدا من اهتمام العلماء، فأخضعوا هذه الظاهرة البشرية العجيبة للدراسات العلمية البالغة في دقتها حد العلم الرياضي، فكشفوا لنا كثيرا من سر اللغة الذي يجعلها هي وصاحبها مدمجين في هوية واحدة، ولذلك فيمكن عرض هذا الجانب التحليلي العلمي بين مقررات الكليات العلمية، ليتحقق للدارس هدفان في مقرر واحد: منهج علمي أدق ما يكون المنهج، ثم كشف للغطاء عن ظاهرة هي ما هي في حياة الإنسان! على أنني لا أملك إلا أن أصرح هنا بأننا ما دمنا قد اقترحنا «اللغة» وسيلة تقرب الدارسين جميعا بعضهم من بعض، وتصل عصرنا بماضيه وتبث روحا إنسانيا في الإنسان، فلا بد أن يتذوق تلك اللغة في حسوة يحتسيها من رحيقها، وهو «الشعر»؛ لأنه من شجرة اللغة زهرها وعطرها.
الفكر العربي وتحديات العصر
إنما يكون العصر عصرا بأفكاره المحورية، التي حولها تدور الرحى، وتظل تلك الرحى في دورانها تطحن ما تطحنه، وتهمل ما تهمله؛ فيبقى حبيس قشرته كما كان، حتى إذا ما فرغ الوعاء من المادة المراد طحنها، قيل عن ذلك العصر إنه يجر أذياله ليختفي، وتكون عندئذ قد ظهرت في الأفق بشائر عصر جديد. على أن العصر الواحد إذا امتد أجله انقسم في داخله إلى مراحل متمايزة بخصائصها تمايزا يكاد يجعل كل مرحلة منها بمثابة عصر جديد، يختلف عن سابقه، كما يختلف عن لاحقه، بأفكار محورية تميزه.
فالعصر عصر بفكرته، أو بفكراته الكبرى، التي تكون بدورها كالينابيع تنبثق فروعها من أصولها. ولنضرب مثلا لذلك: تاريخ الفكر الإسلامي في قرونه الأولى؛ فبعد أن جاء نصر الله لدين الإسلام، كان الكتاب الكريم هو نفسه الموضوع الأساسي الكبير، الذي انكبت عليه عقول العلماء، وقلوب الشعراء، وجهود الفقهاء، وتأملات المفكرين، وإذن فقد دخل الناس عصرا فكريا جديدا، وقد انقسم من داخله إلى مراحل متمايزة؛ فالقرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) محور دراسات تستهدف آخر الأمر فهم القرآن الكريم حق الفهم، فكان أن شغل باللغة العربية علماؤها، وشغل باستخراج الأحكام الشرعية فقهاؤها، ثم انتقل التاريخ بالناس إلى مرحلة أخرى داخل بنية العصر العظيم، وهي مرحلة الأخذ عن الثقافات والحضارات الأسبق ظهورا، حتى إذا ما امتلأت الأوعية بما أريد لها أن تمتلئ به انتقل التاريخ بالناس نقلة جديدة إلى مرحلة جزئية أخرى من مراحل العصر العظيم، وكان الوقت عندئذ هو القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وهنا كانت الفكرة المحورية التي دارت حولها الرحى، هي الوصول بمرحلة الازدهار إلى تخليق الزهرة، فكانت مبدعات الفكر والشعور كلها تتجه نحو ناتج فكري أو أدبي، يسري في أوصاله كل ما قد عرفته الإنسانية من قبل، مكثفا في زهرة واحدة أو مجموعة من زهور، وهكذا أخذت عصور صغرى داخل العصر الكبير تنتقل بالناس من مناخ ثقافي خاص إلى مناخ ثقافي آخر مختلف بخصوصيته.
ونسوق مثلا آخر، يبين كيف تتمايز العصور بأفكارها المحورية، والمثل هذه المرة سيكون بمثابة التمهيد الذي يأخذ بأيدينا مباشرة إلى موضوع هذا الحديث؛ إذ هو مثل منصب على فكر الغرب في تاريخه الحديث، ونحن هنا - في استخدامنا لكلمة «الحديث» - نفرق بين ما هو «حديث» في تاريخ الغرب، وما هو «معاصر»؛ فالحديث هو على وجه التقريب ما امتد من عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر إلى نحو منتصف القرن الماضي (التاسع عشر)، ففي الغرب الحديث اختلفت الأفكار المحورية مع تعاقب القرون، فبينما كانت في السادس عشر وثبة رومانسية تتطلع إلى مغامرات الكشف عن غوامض الكون، من رحلات في بحار الظلمات، إلى جولات في اليابس المجهول، وصعود إلى قمم الجبال التي لم تكن قبل ذاك إلا وسائل رعب وخوف، إلى دوران بالبصر في كواكب السماء ونجومها؛ جاء القرن السابع عشر بعقلانية محكمة الشكائم، لا تريد لأوهام الخيال أن تطيش برزانة العقل، ثم جاء القرن الثامن عشر ومحوره شعلة الإنارة والتنوير، لعل الناس، بمزيد من معرفة لحقائق الحاضر وحقائق الماضي؛ ينهضون بحياتهم الاجتماعية إلى مزيد من حرية وإخاء ومساواة، فلما أن توسط القرن التاسع عشر، مع امتداد يشمل القرن العشرين، دخل الناس في عصر جديد، هو الذي سنورد بعض خصائصه في شيء من التفصيل بعد حين.
لقد أردنا بهذا الذي قدمناه، أن نرسخ في الأذهان فكرة مبدئية، هي أن العصر إنما يكون عصرا بأفكاره المحورية التي ينسج منها المناخ الثقافي العام لذلك العصر، حتى إذا ما رسخ هذا المبدأ، اتجهنا بالأذهان نحو السؤال الذي طرحناه بين أيدينا، الذي يسأل عن العلاقة بين الفكر العربي من جهة، وتحديات العصر الراهن من جهة أخرى، فما نكاد نتجه بالنظر إلى السؤال حتى تملي علينا البداهة أن طريق السير نحو الجواب لا بد أن يبدأ بخطوتين: أولاهما أن نبين في إيجاز ما نعنيه بعبارة «الفكر العربي»، وثانيتهما هي أن نبين في إيجاز كذلك ما نعنيه بعبارة «تحديات العصر»؛ إذ يبدو لنا واضحا أن مجرد النظر إلى هذين المدلولين سيجيء ناطقا بالجواب عن ماهية الجوانب من أفكار عصرنا، التي تثير القلق في أصحاب الفكر العربي.
فما الذي نعنيه بقولنا «الفكر العربي»؟ واضح أننا ما دمنا نذكر الفكر العربي في موقفه من تحديات هذا العصر؛ فالمقصود هو الفكر العربي في عصرنا الراهن؛ أي في الفترة التي تمتد نحو مائة عام، من ثمانينيات القرن الماضي، إلى ثمانينيات هذا القرن، وهي فترة امتزجت فيها، منذ بدايتها بل وما قبل بدايتها، سياسة الغرب مع ثقافته وأصول حضارته، فنتج عن هذا المزيج في نفوسنا مزيج آخر، لعله هو المفتاح الذي يبسط أمام أبصارنا صورة واضحة لحياتنا الفكرية كما هي قائمة الآن، وأعني بذلك المزيج الذي يملأ صدورنا، ذلك المزيج بين كراهية تنفر من الغرب لسياساته الطامعة المغتصبة، مع إدراكنا بضرورة الأخذ عن أصول حضارته وشيء من عناصر ثقافته، ومن هنا ترانا نأخذ ما نأخذه أخذ الكاره المكره، حتى لنود أن يتم ذلك الأخذ والأعين منا مغمضة، فنتج عن ذلك ضرب من الازدواجية في الفكر العربي المعاصر، فمن جهة ترانا نعلن في صراخ استمساكنا بموروثنا عن القديم الأصيل، ولكننا من جهة أخرى نعبئ معاهدنا وجامعاتنا بعلوم الغرب، كما نعبئ أسواقنا بمنتجات الغرب، من أجهزة وآلات، وغيرها من مصنوعات العصر ومبدعاته.
अज्ञात पृष्ठ