अरबी संस्कृति के नवीनीकरण में
في تحديث الثقافة العربية
शैलियों
الكرة الحيرى بين أقدام اللاعبين لم تعد تعرف لنفسها والدا تنتمي إليه؛ فكل يريدها لنفسه، وكأنها قطعة الحلوى تنازعتها جماعة من الصغار اللاعبين، مع أن المسكينة تحمل معها شهادة ميلادها، تبين لمن أراد بيانا، من هي، وإلى أي أسرة تنتمي، فاسمها «علوم»، وهي تنتمي إلى أسرة «العلم». وإنما أعني تلك المجموعة من الدراسات العلمية التي يطلق عليها اسم «العلوم الإنسانية».
لقد حكم عليها بالتشرد فلا تعرف لها نسبا؛ فهي في الجامعات تخصص لها كلية أو كليات، ينعتونها آنا بأنها «آداب» كما هي الحال في مصر وفي سائر الأقطار العربية، وآنا آخر بأنها «فنون حرة» كما هي الحال في كثير من بلدان الغرب، وهكذا، حتى جاءتنا أيامنا هذه بأعجب نعت من نعوتها، وذلك حين تحركت في حياة الأمة العربية موجة تحرص على الخصوصية المتميزة للمسلم العربي، فقال أصحابها عن مجموعة العلوم التي موضوعها «الإنسان»: إننا نريدها علوما إسلامية، قوامها مادة إسلامية، ومنهج البحث فيها هو منهج السلف من المسلمين.
مسكينة هذه المجموعة البائسة من أسرة «العلم»! فحتى رجال الاختصاص في تقسيم العلوم وتبويبها، كثيرا جدا ما أخذتهم الحيرة: أيجعلونها علوما قائمة وحدها ليكون لها منهج خاص في بحثها أم يضعونها حيث ينبغي لها أن توضع مع سائر العلوم الطبيعية ليكون بحثها قائما على المنهج ذاته الذي ينتهجه الباحثون في بقية العلوم الطبيعية التي من شأنها أن تبحث في «الظواهر» أي فيما «يظهر» من الأشياء إذ لا فرق بين ظاهر يظهر لنا من نبات أو ضوء أو هواء وظاهر آخر يظهر لنا في سلوك الإنسان فردا كان أو مجتمعا مع إنسان آخر؟ ولا غرابة أن ترى المسئولين عن العلم وعن الثقافة في مصر، حين أقاموا مجلسا أعلى للآداب والفنون، اختاروا أن توضع العلوم الاجتماعية معهما، فذلك عندهم أصوب من أن توضع تلك العلوم مع بنات عمها - إن لم تكن شقيقاتها - العلوم الطبيعية والرياضية في «أكاديمية العلوم»، بل إن الحيرة إزاء تلك المجموعة البائسة من العلوم لتمتد بنا إلى التردد بين أن نطلق عليها اسم «العلوم الاجتماعية» وأن نطلق عليها اسم «العلوم الإنسانية»؛ فمرة نقول عنها هذه الصفة، ومرة نقول عنها تلك، وكأن الصفتين مترادفتان، وما هما بمترادفتين؛ لأنها وهي «إنسانية» قد تبحث في تركيبة «الفرد» الإنساني الواحد وهو غير مجتمع بغيره، وأذكر أن العلماء الذين عنوا بتقسيم العلوم، يفرقون بين الاسمين، فإذا قيل «علوم إنسانية» (وهم في هذه الحالة يكتفون بكلمة «إنسانيات» دون كلمة «علوم») أدرجوا مع ما يدرجونه تحت هذا الاسم: الدين والفن، وأما إذا قيل «علوم اجتماعية» فالأغلب ألا يضيفوهما.
ولعلك قد صادفت في حياتك الدراسية، حينا بعد حين، أسئلة تثار حول هذه العلوم «اجتماعية» كانت في حسابهم أو «إنسانية»، تسأل عن «التاريخ» - مثلا - أهو علم أم فن أم هو علم وفن معا؟ وعن الجغرافيا: أهي أقرب إلى العلوم أم إلى الآداب؟ وعن الدراسة الأدبية - كالنقد الأدبي - أهو عملية تستند إلى علم أم إلى ذوق؟ وعن «المنطق» ماذا فيه من علم؟ وماذا فيه من فن عملي؟ وعن علم النفس أهو فرع من فروع الفلسفة أم هو فرع من فروع العلم؟ وأما عن دراسة «الفلسفة» فحدث ولا تتحرج في حديثك، عن التخبط في نسبتها التي تحدد انتماءها، حتى لقد انتهى الأمر في ذلك برجل من أئمة الفكر الفلسفي في عصرنا، هو برتراند رسل، أن يقول عنها إنها أرض محايدة بغير مالك.
هكذا انبهمت المعالم، وغمضت الرؤية، حتى كثرت الألسنة، وتعددت الآراء، وأصبح الأمر في فوضى التفاهم، أقرب إلى المحنة التي أصابت أهل بابل، حين تعذر بينهم التفاهم لتعدد اللغات، وعلى ذلك فلم يكن شذوذا يلفت النظر، أن تنهض من علمائنا جماعة تزداد اتساعا وقوة يوما بعد يوم، تدعو إلى أن تكون لنا صورة إسلامية خاصة، من العلوم الإنسانية، ولم لا؟ - هكذا أتصورهم يسألون - أليس موضوع البحث في تلك العلوم هو «الإنسان»؟ وأليس للإنسان تميزه الشخصي الذي يمايز بينه وبين الإنسان الآخر إذا ما جاء كل منهما منتميا إلى ثقافة غير الثقافة التي ينتمي إليها الآخر، وإلى عقائد دينية ومعتقدات اجتماعية غير العقيدة والمعتقدات التي ينتسب إليها الآخر؟ ودع عنك ما يختلف به الإنسان عن الصخر والحديد والماء، والهواء والنبات والحيوان: فإذا كان هذا هكذا في ما يخص الشخصية الإنسانية المتفردة بخصائصها دون من عداها وما عداها؛ فلماذا لا تكون لحياته في خصوصيتها وتفردها علوم إنسانية تختلف عن علوم إنسانية تبحث في حياة أخرى لها بدورها خصائصها ومميزاتها؟
وهذا ظاهره حق، طالما بقيت الفكرة عن العلوم الإنسانية، أو الاجتماعية، على غموضها الذي هي عليه عند الكثرة الغالبة من الناس، وحتى المسئولين منهم، لكن لماذا نترك تلك الفكرة على غموضها؟ أهو قدر محتوم على تلك البائسة المسكينة دون أخواتها أو بنات عمها من سائر «العلوم»؟ وإن تلك الفكرة لتسطع بضوء الوضوح لو أننا بدأناها بالخطوة الأولى الصحيحة، وهي أن العلوم الإنسانية «علوم» تخضع لما يخضع كل قول آخر أراد له صاحبه أن يندرج في زمرة العلم؛ فما علينا إلا أن نحدد - ما وسعنا التحديد - أهم الخصائص وأبرز الملامح التي تجعل العلم علما متميزا عن غيره من ضروب القول الأخرى، فإذا ما فرغنا من ذلك التحديد، سهل علينا بعد ذلك أن نضع العلوم الإنسانية في موضعها الصحيح ما دامت - بحكم اسمها - علوما من العلوم.
إن من أهم ما يميز الفكرة العلمية كائنا ما كان موضوعها، أن تتجرد من الميل والهوى، فحتى صاحبها الذي كشف عنها الغطاء وأعلنها في الناس لا بد له أن ينفصل عنها؛ فلا صلة بينها وبين ذاته الشخصية، ولا علاقة لكرامته ومكانته بصواب فكرته تلك أو خطئها؛ لأنها منذ لحظة إعلانها تصبح بين أيدي المختصين من علماء ميدانها، يفحصونها، ويمحصونها، ويقبلونها أو يعدلونها أو يرفضونها؛ إذ هي ملك عام، ولم تعد مقتصرة على صاحبها، وهذه الجوانب كلها في الفكرة العلمية - وأكرر قولي: كائنا ما كان موضوعها - هي التي نقصد إليها حين نشترط على أي فكرة علمية أن تكون «موضوعية»؛ لأنها «وضعت» بين أيدي المختصين، ولأنها متصلة «بموضوع» خارج حدود الذات بميولها ومشاعرها ورضاها وسخطها، وحبها وكراهيتها.
ومن هنا لم يعد يجوز لها أن تتجنس بجنسية من كشف عنها وأذاعها. نعم، لصاحبها أن يفخر بها ويفاخر، ولأمته أن تزهو بابنها، وأن تجعله جزءا من تاريخها، لكن ذلك الفخر والمفاخرة، والزهو والمباهاة، بالنسبة إلى صاحب الفكرة في حياته، وإلى وطنه وأمته في حياته وبعد مماته، لا يتعارض مع كون تلك الفكرة العلمية قد أصبحت ملكية إنسانية عامة، لا تنتمي إلى وطن خاص، ويدخلها تاريخ العلم أينما كتب في صفحاته ذاكرا مكان ظهورها أو غير ذاكر؛ لأنها قد باتت ملكا للجميع.
وموضوعية الفكرة العلمية واستقلالها بوجود خاص بها منفصل عن وجود صاحبها؛ توجب عليها أن تكون مصوغة في دقة بالغة، حتى تتجنب أي لبس أو غموض؛ لأنها لا تدري من من العلماء سيتناولها بالفحص والتمحيص ومن من الناس بعد ذلك سيتناولها بالتطبيق؛ إذن لا بد أن تجيء من دقة الصياغة ما يضمن لها أن تفهم حتى لو عرضت على من عرضت عليه بعد عدة آلاف من السنين، وما يضمن لها كذلك أن تجد سبيلها إلى التطبيق في حياة الناس العملية، وهل يمكن للإنسان أن ينفذ صيغة مكتوبة ولا يفهم ماذا تعني؟ وهذه الخصائص التي تنقل الفكرة العلمية من الخصوصية الذاتية والإقليمية إلى العمومية الموضوعية والدائمة؛ هي نفسها الخصائص التي تحتم على الفكرة العلمية أن تخلو خلوا تاما مما عسى أن يكون إدراكه مقصورا على صاحبها دون عامة الناس؛ فقد يكون صاحبها ذاك ممن رفعت عنه الحجب وكشفت له الحقائق، على نحو تميز به دون غيره، ثم عبر عما رآه بتلك المواهب النادرة، فعندئذ قد تكون لكتابته قيمة رفيعة باعتبارها شعرا أو ما يدور في فلك الشعر، لكنها بتلك القيمة الذاتية كلها لا تحمل «تأشيرة الدخول» التي تسمح لها بالانضمام إلى دنيا العلوم؛ إذ أقل ما يقال عنها في هذه الحالة أنها بحكم خصوصيتها تلك لا تستسلم لجماعة العلماء إذا ما أرادوا اختبارها بمخابير العلم.
ومن شأن الفكرة العلمية - وأكرر مرة ثالثة قولي: أيا كان موضوعها - ألا تذكر ما تذكره لحلاوة في اللفظ يسر مسامع قرائها، أو أن تجعل غايتها التسرية عن هموم قارئها، بما تورده من نكات وقفشات خفيفة الظل محببة إلى النفوس، لا، بل غايتها دائما هي أن تعطي الناس صيغة تعين على حل مشكلة، أو نوع بأسره من المشكلات، في زراعة، أو صناعة، أو نقل، أو سياسة، أو ما شئت من جوانب الحياة العملية ونظمها.
अज्ञात पृष्ठ