अरबी संस्कृति के नवीनीकरण में
في تحديث الثقافة العربية
शैलियों
غابت الفكرة عنا
الواحد من عصور التاريخ هو - في أغلب الحالات - فكرة كبرى واحدة، تكون من الحياة الثقافية الطويلة العريضة العميقة لذلك العصر، ما يكون القطب من الرحى، فقد تطير الأفكار بأصحابها هنا وهنا وهناك، تتعدد موضوعات ويتعدد الرأي وقد تتنوع مبدعات الأدب شعرا ورواية ومسرحية ومقالة، كما تتنوع مبدعات الفن أنغاما في الموسيقى وألوانا في التصوير، وقد تتكاثر الاتجاهات متقاطعة أو متوازية، في ميادين التعليم والسياسة والاقتصاد والحكم، نعم، قد يحدث هذا الثراء كله في العصر الواحد، حتى ليتعذر على العين أن ترى كيف يمكن أن تنعقد ألوف الآلاف بين الخيوط في عقدة واحدة؟ وأما المتعقب الصابر لتلك الخيوط، فهو لا بد منته بها إلى مصدر واحد، هو «الفكرة» الكبرى والواحدة، التي هي من هذه الأشتات الثقافية كلها كبرج المنارة يرسل الأشعة في كل اتجاه، وأبناء العصر - بعدئذ - يتفاوتون درجات في مدى استجابتهم لتلك «الفكرة» المحورية الوضاءة؛ منهم من ينشغلون بأمرها، حتى ليمسون معها ثم يصبحون، ومنهم من يعاودون النظر إليها لحظة ثم يجعلونها وراء ظهورهم، ومنهم من يحيون ويموتون وهم لا يعلمون عنها شيئا، كأنها لم تكن هناك، ويترتب على هذا التفاوت بين أبناء العصر الواحد، تفاوتهم كذلك في غزارة الانتماء إلى عصرهم، وبهذا المقياس أنظر إلى الأمة العربية في عصر الناس هذا، فأراها وكأنما هي فيما يشبه الغيبوبة عن «الفكرة» التي نسج العصر من خيوط ضيائها.
وقبل أن أحدثك حديثا مفصلا عما أراه «فكرة» محورية كبرى لثقافة عصرنا ليتبين من ذلك موضع القصور في حياتنا نحن، منسوبة إلى شواغل عصرها، يحسن أن أضع بين يديك في إيجاز صورة لعلها أن تكون مألوفة عند الكثرة الغالبة من قرائنا، وأعني صورة الحياة الثقافية في «العصر» الإسلامي العربي إبان قرونه الأولى التي هي فترة الإبداع والقوة، وسوف ترى من تلك الصورة، ما كنت أعنيه، حين قلت إن للعصر الواحد «فكرة» كبرى واحدة تكون لعصرها ما يكون القطب من الرحى؛ إذ هي تشع نورها في كل اتجاه، وفي كل اتجاه يتلقاها الأيقاظ من أبناء العصر (لأن النيام في سباتهم العميق لا يشعرون) يتلقاها الأيقاظ، لا ليتساووا أمامها أو يتشابهوا، كلا فبحكم الاختلافات الفارقة بين أفراد الناس، يتحتم أن يختلفوا كذلك في قدراتهم وفي وجهات أنظارهم عندما يتلقون ما يتلقونه.
وكانت رسالة الإسلام نفسها - بالطبع - هي «الفكرة» الكبرى، التي تستطيع أن تقول - في غير إسراف ولا مجاوزة لحدود الحقيقة - إنها (أي تلك الفكرة الكبرى) قد لبثت طوال القرون منذ صدورها، هي الموضوع المحوري الذي دارت حوله العقول كلها، والقلوب كلها، فما من علم واحد، أو فرع من علم، إلا وهو متصل من قريب أو من بعيد بما نزلت به رسالة الإسلام، فدوائر بحث أقيمت لدراسة اللغة العربية من شتى أوجهها وذلك بغية مزيد من الفهم الصحيح للقرآن الكريم، ومدارس أقيمت للفقه الإسلامي اختلفت مناهجها واتجاهاتها من إقليم إلى إقليم، وذلك في محاولات مخلصة لاستخراج الأحكام الصحيحة من آيات الكتاب الكريم، وجماعات متفرقة هي جماعات «المتكلمين» (أي الباحثين في كلام الله) كان شغلها الشاغل دراسة المفاهيم الإسلامية الهامة كالعلاقة بين الذات الإلهية وصفاتها، وكفكرة التوحيد والقضاء والقدر، وإرادة الإنسان من حيث هي مخيرة أو مسيرة مجبرة، وغير ذلك من أمهات المسائل في العقيدة الإسلامية، ثم هناك مجموعة الأفراد الأفذاذ الذين هم «فلاسفة» المسلمين الذين اختلفوا بما اختلفت شخصياتهم الفردية لكنهم اتفقوا جميعا على المهمة التي يؤدونها، وهي أن ينظروا في «الحكمة» وما جاءت به نقلا عن القدماء (والمقصود بها الفلسفة اليونانية) أو الشريعة الإسلامية من جهة أخرى ليروا أين يتلاقى الجانبان وأين يفترقان، ونضيف إلى تلك المدارس والجماعات كلها صنوفا أخرى من الفروع التي تندرج تحت هذا الاسم الواسع الفضفاض وأعني اسم «الثقافة» كالمؤلفات والدواوين التي خلفها لنا «المتصوفة» وكذلك كتابات منوعة كثيرة مما يأتي تحت عنوان «الأدب» وغير ذلك، كله موصول بالفكرة الكبرى التي هي محور العصر وثقافته بجميع أطرافها.
ولو أنك استعرضت الصورة بلمحة تجمع لك عدة قرون في إطار واحد، لكان الذي تراه من ضروب الاختلاف في الرأي أكثر مما تراه في الصورة من ضروب الاتفاق، فالتيارات المذهبية متصارعة في كل ميدان، والاختلافات الفردية بين العلماء ورجال الفكر أكبر من أن تخطئها عين الرائي، ومع ذلك فهم جميعا أبناء «عصر» واحد، لأنهم يفكرون ويشعرون ويكتبون في ضوء فكرة كبرى واحدة هي رسالة الإسلام.
وقبل أن أنتقل بالقارئ بعد الصورة الموجزة التي قدمناها للعصر الإسلامي العربي في مرحلته الأولى مرحلة الإبداع والقوة، والتي امتد بها الزمن نحو تسعة قرون، أقول: قبل أن أنتقل بالقارئ من تلك الصورة إلى صورة عصرنا نحن، أريد أن أوضح فكرة عظيمة الأهمية في هذا السياق من الحديث، توضيحا يجنبنا الوقوع في الخلط والخطأ، وهذه الفكرة هي أنه حين يتحرك تيار الزمن بالناس من عصر إلى عصر يليه، وإلى العصور التالية بعده وحين يتبدل بهذا الانتقال محور التفكير والإبداع ليصبح محورا آخر، فلا يكون معنى ذلك أن العصر الذي انقضى زمنه وانقضى معه المحور الذي كانت تدور حوله حركة العقل والشعور، قد تبخر من الوجود وانطوى في هوة العدم، بل يكون معناه هو أن حصيلته الثقافية بقضها وقضيضها قد تحولت إلى عادات رسخت جذورها في حياة الناس العملية والنظرية معا، وما جاءت به العصور التالية من قضايا جديدة إنما أتى ليضاف إلى مقومات الإنسان، ولو لم تكن هذه هي حقيقة الأمر في العصور المتوالية لكان الإنسان في كل عصر جديد يبدأ من الصفر، ولم تكن الحياة البشرية لتنمو قيد شعرة حتى ولو دامت ملايين السنين، وربما كانت الصورة المصغرة التي توضح هذا الذي قدمناه، هي صورة الحياة في الفرد الإنساني الواحد؛ إذ ينتقل به العمر في مدارجه! فما قد عرفه وشعر به الطفل إبان طفولته يظل معه ليضيف إليه ثم ليكون هذا وذاك معا عدته في حياته، عملية كانت أم نظرية. ولقد أشار «ألفرد نورث هوايتهد» إلى هذه الفكرة في كتابه «مغامرات أفكار» لكنه أشار إليها في صورة أخشى أن يضل بها القارئ في الموضوع الذي نحن الآن بصدد الحديث فيه، وذلك أن «هوايتهد» يقول إن الحصيلة الثقافية لعصر ما، تنتقل عند الإنسان في عصوره التالية من الشعور إلى اللاشعور، يريد بذلك أن يقول إن الفكرة المعينة التي تتكون في بؤرة التفكير الواعي من حياة الناس وهم يحيون خلال عصر معين، لا تنعدم فيما يلي بعد ذلك من عصور، بل هي إلى الأبد قائمة هناك في صلب الكيان البشري، ومن ثم يتقدم الإنسان ويرتقي عبر حضاراته وثقافاته المتتابعة، لكن هذا القول من «هوايتهد» - برغم صدقه - إلا أن صدقه منقوص بمعنى أنه يصلح لحالات من ماضي الإنسان ولا يصلح لحالات أخرى. ولقد كان المثل الذي ضربناه للقارئ فيما أسلفناه، هو صورة الحركة الثقافية في العصر الأول من تاريخ العرب المسلمين، ولسنا نريد بذلك أن نقول ولا هو صحيح إذا قلناه بأن حصيلة ذلك العصر الأول قد انتقلت في كياننا من منطقة «الوعي» إلى منطقة «اللاوعي» حتى ولو كان ذلك اللاوعي موجها لحياتنا ومؤثرا فيها، بل الذي نريد أن نقوله والذي هو صحيح وواقع، هو أن ما قد كان محورا للنشاط الفكري في ذلك العصر الأول فيه من القضايا ما يمكن طرحه اليوم، كما أن فيه من القضايا ما أشبعه الباحثون بحثا ولم يعد فيه زيادة لمستزيد، والنوعان من القضايا ضروريان لنا اليوم في حياتنا الواعية، إلا أنه قد جاءت الحياة الجديدة في العصر الجديد بمحور آخر، ولم يعد موضوع تلك القضايا - على ضرورتها - هو المحور الذي يجب أن نعطيه من عنايتنا بقدر ما نريد أن نحيا في زماننا، وإذا أصررنا على ألا نفعل كان الخسار علينا، وكان الكسب للأعداء؛ فأولئك الذين ما ينفكون ينسبون مواضع التقصير في حياتنا من جهل وفقر وضعف إلى الاستعمار، كان ينبغي بأن يطالبوا بأنفسهم، بالرجوع خطوة أخرى في عملية التعليل ليسألوا أنفسهم هذا السؤال: ولماذا استطاع المستعمرون أن يحققوا غاياتهم بمثل تلك السهولة التي حققوها بها حتى أصبحنا جميعا على ما نحن فيه؟ ولو أنهم سألوا أنفسهم هذا السؤال لوجدوا الجواب بارزا يكاد يفقأ العين، وهو أننا أدخلنا أنفسنا في سبات حضاري ثقافي عميق، حتى غابت عنا فكرة العصر، فغاب عنا الوعي بالحياة وحقائقها.
فما هي فكرة عصرنا الكبرى التي ترشد السالكين وكأنها في سماء عصرنا هي النجم القطبي يهتدي به المسافرون في مجاهل البيد أو في ظلمات المحيط؟ إنها فكرة الطامحين إلى استعانتهم بالعلم على تسخير الكون، ليزداد الإنسان الحر حرية تضاف إلى حريته، فالإنسان القوي موجود دائما، حتى في العصر الحجري كان هناك الإنسان القوي بالقياس إلى سواه، لكنه على مر الدهور دهرا وراء دهر من قرون هذا الزمان استبدل في ممارسته لقوته مجالا بمجال. وينفعنا في سياق حديثنا هذا أن نحصر انتباهنا في جانب واحد هو جانب التسلط والسيطرة، وفي هذا المجال كانت الصورة الأولى لتسلط الأقوياء هي أن يتحكم القوي في رقاب الضعفاء من قومه، ولبثت تلك الصورة على بشاعتها حتى أراد الله لمن أراد لهم أن ينعموا بالحرية، ألا يصبوا سلطانهم على ذويهم لينعم أفراد الشعب جميعا بقدر من الحرية، وأن ينصرف صاحب القوة بتسلطه نحو الشعوب الأخرى إذا وجد فيها ما يلزمه ضعفه بأن يخضع لمن هو أقوى، ثم دارت الأعوام بالناس حتى جاء عصرنا القريب، الذي لم يزد طوله على نصف قرن مضى بالنسبة إلى الموضوع الذي نتكلم الآن فيه، وهو موضوع حرية الشعوب قويها وضعيفها على السواء، فاتجه القوي بقوته ليسيطر بها ليس على قومه هو كما كانت الحال في المرحلة الأولى، وليس على غير قومه من ضعاف الشعوب كما كانت الحال في المرحلة الثانية بل على ظواهر الكون من حوله، وإن في هذا الميدان الفسيح لمتسعا للجميع.
وبالطبع لم تكن هذه أول مرة في تاريخ الإنسان، يستثمر فيها هذا الإنسان معرفته لطبائع الأشياء في تسخيرها لمنافعه، بل إنه استطاع ذلك منذ شهدته الدنيا إنسانا، فقد استخدم منذ أقدم عصوره تربة الأرض وحرارة الشمس وقوة الريح وغير ذلك في شئون حياته العملية، لكن التاريخ لم يشهد في أي عصر من عصوره ما يمكن أن يقارن بجزء من ألف ألف جزء من قدرة الإنسان في عصرنا القائم على تسخير القوى الكامنة في كائنات هذا الكون، فالأمر في هذه القدرة يتناسب طردا مع اتساع علم الإنسان بطبائع تلك الكائنات، وأن علمه بهذا في يومنا هذا لهو السمة الأولى بين السمات التي تميز عصرنا من كل ما سبقه من عصور، وتلك حقيقة لم تعد في حاجة إلى أن تذكر، لكننا نشير إليها هذه الإشارة السريعة، لنذكر النتيجة الهامة التي تترتب عليها بالنسبة للإنسان وهي نتيجة قلما ينتبه إليها بالقوة الكافية، ألا وهي أن كل مثقال ذرة في زيادة السيطرة على ظواهر الطبيعة زيادة مؤسسة على زيادة علمه تقابلها حتما زيادة في حرية الإنسان، فالحرية بمعناها الصحيح إنما هي قدرة الإنسان على التصرف في المجال الذي هو حر فيه. وإننا لنخلط خلطا خطيرا بين «التحرر» من القيود والحرية في العمل، نخلط بين هاتين الحالتين حتى لنظن أنهما اسمان على مسمى واحد، مع وضوح الفرق بين الحالتين، فإذا حطمت الأغلال عمن هو مقيد بها، تحرر ذلك المقيد من قيده لكننا لا نعلم عنه شيئا بعد: أيكون «حرا» في حياته العملية أم لا يكون؟ إذ الأمر هنا مرهون بأن يمارس عملا يحسنه لعلمه بدقائقه فيكون بذلك ذا حرية تتناسب قدرا مع مقدار مرانه ومهارته. كان العبد في أيام الرق يطلق سراحه بإذن من مالكه فيتحرر من عبوديته، وأما أنه يصبح بعد ذلك حرا أو لا يصبح، فذلك متروك لظروفه فيما يستطيع فعله أو لا يستطيع، فمن الجائز - مثلا - أن تحول بعض التقاليد دون أن يؤدي العمل الذي يريد أن يؤديه لمهارته في أدائه، وفي هذه الحالة يكون مفقود «الحرية» مع أنه قد «تحرر» من عبوديته؟
ولهذه التفرقة أهميتها البالغة بالنسبة لنا ولأمثالنا ممن «تحرروا» من المستعمر الأجنبي، ومع هذا التحرر يلبث مفقود الحرية في علاقاته مع ذلك المستعمر نفسه أو من يماثله، وذلك لأننا لا نكسب «العلم» الذي يمكننا من تسخير الظواهر الكونية كما يملكها هؤلاء، فنظل في حاجة إليهم على نحو ما يعتمد الطفل العاجز على ولي أمره، فهؤلاء السادة بعلمهم وسلطانهم على عالم الأشياء، صنعوا وسائل الانتقال السريع، وصنعوا أسلحة القتال وصنعوا أجهزة الطب والجراحة وصنعوا وصنعوا، وكان ذلك كله على أساس من «علم» بالعالم وما فيه من سر مكنون، وبقينا نحن وأمثالنا متحررين ولكن بغير «علم»، وبالتالي فنحن لا نشارك في شيء من ذلك الذي صنعه هؤلاء، ولو كنا في غنى عنه لاكتفينا وحمدنا الله على التحرر من ربقة المستعمرين، لكننا في حاجة إلى كثير مما صنعوه بعلومهم ومهاراتهم ولا سبيل أمامنا - إذن - إلا أن نشتري منهم ما يسمحون لنا بشرائه من تلك الأجهزة التي لم تعد الحياة ممكنة إلا بها، ومعنى ذلك في عبارة بسيطة وصحيحة أنهم هم وحدهم الأحرار وأننا ما زلنا في قبضات أيديهم، تحررنا أو لم نتحرر على حد سواء.
فالعلم الذي يمكن الإنسان من تسخير الطبيعة لصالحه ليس ترفا يتظاهر به صاحبه أمام الناس، وإنما هو آخر الأمر كفيل بحرية الإنسان إزاء الطبيعة وظواهرها وكائناتها. لو ترك الإنسان محكوما كسائر الأشياء بقانون الجاذبية لظل مسمرا على سطح الأرض، اللهم إلا أن يقفز مرتفعا مترا أو ما يقرب من المتر، فقوة جذب الأرض لجسده قيد يغله، وأما من استطاع بعلمه أن يطير عن سطح الأرض آلاف الكيلومترات؛ فهو حر بمقدار ما طار، وهكذا قل في كل الحوائل التي تحد من قدرة الإنسان ثم يكسب الإنسان علما فيزيلها، هل كان ليستطيع أن ينفذ ببصره وراء الحجب ليرى قلب المريض بقلبه، أو أمعاء العليل بأمعائه، لكنه اليوم قد «علم» فاستطاع وأصبح حرا في هذا المجال بمقدار ما استطاع، وقل هذا في ألوف الحالات التي كان الإنسان حيالها قبل علمه عاجزا، ثم علم فاستطاع، وعكس ذلك صحيح كذلك؛ وهو أن من لا يعلم لا يستطيع ، فيفقد من الحرية بمقدار ما عجز.
अज्ञात पृष्ठ