अरबी संस्कृति के नवीनीकरण में
في تحديث الثقافة العربية
शैलियों
والقرآن الكريم كتاب الله لمن أسلم وآمن، أنزل للناس «ليغيروا» برسالته ما ينبغي أن يتغير من حياة الإنسان، وكيف يجيء ذلك التغيير إذا لم تكن العلاقة وثيقة بين آياته الكريمة من جهة، وعالم النفس وعالم الأشياء من جهة أخرى، ثم كيف تتم العلاقة بين الطرفين إذا لم أكن على بعض العلم بكل من الطرفين، فأفهم آيات الله ما وسعني الفهم، ثم أعرف الأشياء من حولي ما وسعتني المعرفة كذلك، فإذا تطابق الطرفان كان خيرا وإذا لم يتطابقا عدت إلى عالم الأشياء أغير فيه ما أغيره حتى يتم التطابق، يقول الله - عز من قائل:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ...
فما هي «كلمات ربي» التي إذا أردنا ذكرها كتابة، وكان البحر مدادا، وكان شجر الأرض أقلاما، لنفد هذا قبل أن نفرغ من تلك الكلمات ... إنها هي حقائق هذا الكون العظيم وكائناته، ولكي تعرف كم هي كلمات ربي في آياته الكونية، خذ أبسط كائن تقع عليه يداك، خذ ورقة واحدة من أوراق الشجر، وحاول أن تكتب وصفا دقيقا لكل ما فيها، لعروقها المخطوطة عليها، لعناصرها الداخلة في تكوينها، لطريقتها في الاغتذاء والارتواء والتنفس، إلى آخر ما هو متعلق بها من حياة وموت، وانظر كم تكتب لتستكمل ذلك كله عن ورقة واحدة من أوراق الشجر، فماذا أنت صانع بملايين الملايين من سائر الكائنات وملايين الملايين من السدم ومن النجوم ومن الكواكب؟ وما معنى ذلك؟ معناه أنك لن تكون على فهم بآيات الكتاب الكريم، إلا بمقدار ما أنت على علم به من حقائق الأشياء، فكلما ازددت علما بخلق الله ازددت بالله إيمانا، إذن، فلم يكن الفتى المراهق على حق فيما جادل به صديقه، حين زعم له أن قراءة القرآن الكريم تغني عن كل قراءة أخرى، كلا ولا كان الشيخ الخطيب عند باب المسجد على حق، حين نادى في الناس بأن كتاب الله وحده يغني عن كل مكتوب آخر، فالعلم بحقائق الأشياء التي تحيط بنا؛ العلم بالحجر، والشجر، والماء، والهواء، والضوء، والكهرباء، وكل ما خطر لك وما لم يخطر، أقول إن العلم بهذا كله هو بدوره وسيلة علم أوفى بمعاني آيات الكتاب الكريم ...
وسألت صاحبي لما أخذته لحظة صمت: أكانت هذه نهاية رحلتك؟
فأجاب بقوله: لا ... إنها لم تكن، فلقد استطرد بي قطار الخواطر، لأتبين بعد ذلك لماذا حدث لي أن اخترت لنفسي تحليل الأفكار طريقا في منهج التفكير، فربما جاء ذلك حين أدركت في وضوح أن «الفلسفة» في حقيقة أمرها، إنما هي منهج لتحليل الأفكار بغية توضيحها، إنها لا تحتكر لنفسها موضوعا معينا خاصا بها كما يفعل كل علم من مجموعة العلوم، إذ هي بمثابة عدسة مكبرة توضح لك من الدقائق الخافية ما أردت له وضوحا، ولا شرط لها بعد ذلك أن يكون الموضوع الموضح منتميا إلى هذا الميدان أو ذاك، ولعلك قد رأيت طائفة من أدوات التحليل العقلي التي أنتهجها، وذلك حين عرضت عليك سلسلة الخواطر التي وردت إلى ذهني منبثقة من تذكري للمفكر العربي الإسلامي إبان القرن الثالث الهجري، وفي مدينة البصرة، وهو «النظام» العظيم ... تلك - يا صديقي - كانت رحلتي التي ارتحلتها في دخيلة نفسي، ذات يوم من أيام الصيف، وكانت رحلاتي في الأحيان الماضية حركة في أرجاء المكان، وأما رحلتي هذه فكانت جولة في آناء الزمان بينما كنت جالسا على مقعدي هذا، في غرفة أقفلت نوافذها وسادها سكون، إلا من حفيف مروحة كهربائية تساعدني على حر الصيف، وهي رحلة كما رأيت؛ بدأت بمراهق يؤمن إيمان السذج، وانتقلت إلى شاب عرف قدر العلم ومنهاجه، ثم انتهت بشيخ ينعم بشيء من علم يضيئه إيمان ...
تحولات
لو أني سئلت: ما الذي تراه أبرز صفة تميز اتجاه الفكر في عصرنا؟ لأجبت في غير تردد قائلا: إنها إحلال «التغير» محل «الثبات» في فهمنا للأشياء، فبعد أن كان الظن بالشيء المعين - كل شيء وأي شيء - هو أنه ذو حقيقة ثابتة، يجب البحث عنها إذا أردنا معرفته للانتفاع به في حياتنا، وأن تلك الحقيقة الثابتة تطرأ عليها تحولات عارضة، لكنها لا تغير من حقيقته شيئا، أصبح الرأي هو أن تلك التحولات هي هي نفسها حقيقة ذلك الشيء، إلا أن الإنسان يربطها من عنده برباط يوحدها في كيان واحد، وذلك لقيامها معا - على تعددها وتفرقها - بوظيفة واحدة. خذ مثلا لذلك مدينة القاهرة وسنعود إلى أمثلة أخرى كثيرة؛ فمدينة القاهرة كيان له تاريخ ويحرص الخيال البشري على أن يبقى لذلك الكيان حقيقته دون أن يأخذ في حسبانه أن ينقص سكان القاهرة أو يزيدون، أن تقام بها المشيدات الجديدة أو لا تقام، فقد كانت هي القاهرة منذ نشأت، وستظل هي القاهرة ما شاء لها الله أن تبقى، لكن اقترب بعينيك نحو هذا الكائن الواحد، وانظر كم هو في الحق كالبحر يموج بالناس وبالأحداث وبالأشياء وبالحركة الحية، فأينما وجهت البصر وجدت مفردات وأفرادا، يطرأ عليها التغيير كل يوم، بل كل ساعة، وما هو أدنى من الساعة! فليس هنالك إلا عناصر تقترب وتبتعد وتتلاقى وتفترق، ولولا خيال الإنسان الذي يمسك بتلك الكثرة في وحدة واحدة، لما كانت إلا سيرورة دائمة، وكان الفكر قديما ينزع إلى أن يجعل وراء تلك الكثرة المتحولة محورا ثابتا يكون هو المعنى الحقيقي «للقاهرة»، ويريد الفكر في اتجاهه الراهن، أن يرى الشيء على كثرته البادية وتحولاته يوما بعد يوم، على أن هذه التفرقة لا تعني أن الفكر في الحالة الأولى ينكر على التفصيلات وجودها، أو أن الفكر في الحالة الثانية ينكر الإطار الوظيفي الواحد الذي يضم تلك التفصيلات فيما يشبه الوحدة الواحدة.
ويقيني هو أن القارئ قد يأخذه الضيق عند هذه التفرقة هامسا لنفسه: وماذا يعود إلينا من أمثال هذه اللجاجة العقلية التي لا تغير من الأمر شيئا: فالقاهرة هي القاهرة في كلتا الحالتين على حد سواء؟ وردا على مثل ذلك الهامس لنفسه بقول كهذا، أقول: كلا فقد أخطأ معك الحساب يا سيدي، والفرق بين الحالتين واسع، وأثره في النتائج العملية بعيد عميق، ولكي أوضح ذلك أسوق لك مثلا آخر؛ طفلا يربيه أولو أمره على أساس التصور الأول، أو يربونه على أساس التصور الثاني، وفي وسعنا أن نوسع المجال في هذا المثل، ليشمل عملية التربية والتعليم كلها في بلد معين مثل مصر؛ إذ يتولى جيل الكبار جيل الصغار - من الطفولة إلى الشباب - بالتربية والتعليم، فماذا يكون الفرق بين تربيتهم وتعليمهم على التصور الأول، ثم على التصور الثاني؟ ولعلك تذكر ما قد أسلفناه من أن التصور الأول يجعل للطفل أو للناشئ أو الشاب «حقيقة» محددة ومعينة، على أساسها تكون التربية ويكون التعليم، وأما ما تتعرض له تلك الحقيقة الثابتة من تغيرات وتحولات، فأمر يجب أن يغض عنه النظر، في حين أن حقيقة الطفل أو الناشئ أو الشاب بناء على التصور الثاني؛ إنما هي تلك التغيرات والتحولات نفسها، فإذا نحن غضضنا عنها النظر فقد غضضنا النظر عن الإنسان الحي الذي بين أيدينا بكل ما فيه؛ وإذا تمت عملية التعليم على أساس التصور الأول، أخرجت إنسانا «مصنوعا» كما يخرط الخراطون قطع الحديد أو الخشب، وأما إذا تمت عملية التعليم على التصور الثاني، كان علينا أن نقابل تحولات الفطرة البشرية في كل فرد حي لتقابل كل حالة بما هي في حاجة إليه؛ نعم إن ملايين التلاميذ والطلاب ينخرطون في قوالب المخرطة، فيقتلون في أنفسهم ما يقتلونه من أجل المخرطة التعليمية ومقتضياتها، لولا أننا نشاهد آنا بعد آن، صاحب موهبة في اتجاه معين، تكون موهبته أقوى من مخرطة التعليم، فتشق عليها عصا الطاعة وتخرج إلى حيث تتنفس وتنمو وتزدهر.
أرأيت يا سيدي كم هو بعيد ذلك الفرق بين أن تنظر إلى الإنسان بمنظار الرؤية الأولى - رؤية الثبات - وأن تنظر إليه بمنظار الرؤية الثانية - رؤية التحول -؟ فليس الناشئ الذي يرسله أبوه إليك لتتولاه تربية وتعليما، قطعة من الخشب تقاس أبعادها بالمسطرة طولا وعرضا وارتفاعا؛ وإنما هو قطعة من حياة فوارة متغيرة متحولة، لا تسكن على حالة واحدة لحظتين متتاليتين، إنه ينمو ويحس ويدرك ويعقل ويثور ويهدأ، وهو في هذه التحولات المتصلة لا يحيا حياته كلها على وتيرة واحدة. ولما كان يتعذر علينا أن نسايره في تحولاته تلك لحظة لحظة، اختصرنا على أنفسنا الطريق، فقسمنا حياته الدراسية ثلاث مراحل أساسية؛ مرحلة للتعليم الابتدائي، ومرحلة للتعليم الثانوي، ومرحلة للتعليم العالي في الجامعات والمعاهد وما إليها، فماذا نحن صانعون إزاء هذا التتابع؟ أيكون التعليم كله على نهج واحد، لا يختلف باختلاف مراحله، اللهم إلا في طول المادة المدروسة وقصرها، أو في غزارتها وضحالتها؟ أما أصحاب الرؤية الأولى فالجواب عندهم بالإيجاب حتى لو أنكروا ذلك، لأن أفعالهم القائمة تفضحهم، وإلا فما هو الفرق الأساسي بين طالب يدرس الجيولوجيا أو علم النبات أو الكيمياء أو التاريخ أو الجغرافيا في المدرسة الثانوية وبينه وهو طالب يدرس تلك المواد في الجامعة؟ أم نقول إنها هناك «دروس» وهنا «محاضرات»؟ أما أصحاب النظرة الثانية فهم يرون الطالب وقد تحول إنسانا آخر مرحلة بعد مرحلة، ولذلك فهم يرون أن يتبدل النهج في كل مرحلة بما يناسبها، فإذا كان الطفل في المرحلة الابتدائية يناسبه أن تقدم له المعلومات المختلفة بغير قوانينها، فالتلميذ في المدرسة الثانوية يكون مهيأ لأن يتلقى المادة العلمية مصوغة في قوانينها، أو مبادئها، أو أحكامها العامة، دون أن يطالب بشيء أكثر من ذلك، ثم يأتي طالب الجامعة إنسانا آخر ذا طبيعة أخرى، وهنا تجيء صورة ثالثة، لا هي مجرد عرض لطائفة من المعلومات، ولا هي مجرد ذكر لقوانين العلوم في ميادينها المختلفة بل هي أن يكون طالب الجامعة «باحثا» صغيرا يرشد إلى الطريق التي يضيف فيها إلى العلم شيئا جديدا. وربما دهش القارئ أن يراني بهذا الطموح كله لطالب الجامعة، لكن المدقق في تحولات الطبيعة البشرية يلحظ فيها هذا التتابع في المراحل، فانظر - مثلا - كيف يتدرج الإنسان في استخدامه للغة - بصورة طبيعية خالصة - ففي المرحلة الأولى يلتقط مجموعة من أجزاء لغوية يستخدمها مفردة ومركبة مع من يتبادل معهم الكلام والتعامل، ثم ينتقل بعد ذلك حين يدرس اللغة، إلى معرفة «قواعد» التركيب اللغوي، ويظل يعلو في تلك القواعد ما ارتفعت به درجات التعلم، وأما مرحلته الثالثة فهي أن «يبدع» مركبا لغويا معينا: شعرا إذا كان شاعرا، أو أدبا نثريا في أية صورة من صوره إذا كان موهوبا لها؛ وهكذا ترى مراحل التحول الأساسية: جمع للمعلومات بغير قواعدها وقوانينها، ثم إلمام بتلك القواعد أو القوانين، وأخيرا تجيء مرحلة المبدع المبتكر في الميدان نفسه الذي كان قد جمع عنه المعلومات أولا، وقواعدها وقوانينها ثانيا.
كل شيء في هذا الوجود - إنسانا وغير إنسان - وهو في حقيقته سيرورة متحولة أبدا من حال إلى حال، فما يكاد الكائن المعين يتخذ حالة ما، حتى يتغير متنقلا إلى حالة تليها، وهكذا تكون حقيقة الكائن في صيرورته للحاضر إلى جديد ينتقل إليه، إنها سيرورة وصيرورة في آن واحد، فهو سيرة متحركة، يصير بها إلى وضع جديد، انظر إلى شجرة في تاريخها، منذ تضع لها بذرتها في الأرض، تجدها تحولات مستمرة، إنها في يومها غيرها في أمسها، وسوف تكون في غدها غيرها في يومها، إنها تنمو دون أن تلحظ عيناك نموها يوما بعد يوم، إنها تسقط أوراقا وتضع أوراقا، إنها تتنفس الهواء شهيقا وزفيرا كما نفعل، وإن يكن زفيرنا نحن هو شهيقها، إن حياتها قصة طويلة عريضة، لا أعرف كم مجلدا يمتلئ بتفصيلاتها لو أننا رصدنا تغيراتها جميعا، بكل خلاياها وأليافها وأوراقها وأزهارها وثمارها، تعريا في الشتاء واكتساء في الربيع، تناميا في عهد القوة، ثم تفانيا في مرحلة الشيخوخة المؤدية بها إلى موت.
अज्ञात पृष्ठ