كم ضحكت في هذه الجلسة الغريبة حين أحس الجماعة أنهم أحرار، وخيل إليهم أني تركت البيت، وجلست كما كنت أتعود أن أجلس أمامه في هذه الطريق الضيقة التي كانت تمتد، وما تزال تمتد فيما أظن بين البيوت في ربع السلحدار!
عرفت في هذه الجلسة ما كان يضحك القوم؛ ذلك أن صاحبهم الذي كان غائبا قرأ من أيام فصلا للشيخ أو لغير الشيخ في إحدى المجلات، فتأثر بما قرأ، وعاهد نفسه على حماية الدين، وتطهير المسلمين من البدع والفساد، وكتب على ورقة ألصقها بالحائط أمامه هذه الجملة: «حررت نفسي لخدمة الدين.»
ثم فكر في أول عمل يأتيه لخدمة هذا الدين، فخطر له أن يذهب إلى حيث الفساد أشد انتشارا، وإلى حيث الإثم أبعد في النفوس أثرا، فيحارب الرذيلة في موطنها، ولكنه لم يجرأ أن يتحدث بعزمه هذا إلى أصدقائه وزملائه، فجمع إليه نفرا من الطلاب المحدثين من بلده، فيهم سذاجة وقلوب طيبة، وفيهم ابن عم له ضئيل البصر جدا، وعرض عليهم رأيه هذا فأقروه وانتدبوا لمعونته، فلما أشرف الليل أو كاد، خرج خمسة القوم من حوش «عطي» ومضوا حتى وصلوا إلى حيث دور الفسق والدعارة يريدون الوعظ والإرشاد، فلم تكد تراهم المومسات حتى هممن بهم متضاحكات يدعون ويغرين، وهم أصحابنا أن يعظوا ويرشدوا، فانعقدت الألسنة ونضب الريق وجفت الحلوق.
واستمر أولئك النساء يعبثن، وما هي إلا أن أحس الوعاظ أنهم في خطر، فإذا هم يهرولون، ومنهم من يتعثر في جبته، ومنهم من يتعثر في عباءته، والنساء من خلفهم يدعون ويغرين ويتضاحكن، حتى انتهوا إلى درج في أقصى الشارع تدافعوا إليه، فتزل أقدامهم فيتساقطون، وقد فقد هذا عباءته، وطاحت عن رأس ذاك عمامته، وعادوا مع العشاء إلى بيوتهم، وإن قلوبهم لتجف هلعا، وإن وجوهم لممتقعة أشد الامتقاع.
وعرف الجماعة يومئذ أن ليس من اليسير اجتثاث الرذيلة من أصلها، ولا محاربة الشر حيث ينبت، وزالت عن حائط صاحبنا هذه الورقة التي كانت تذكره بأنه قد رصد نفسه لخدمة الدين.
وطائفة أخرى من الخواطر - لا أكاد أحصيها - كانت تضطرب في نفسي على ظهر السفينة، والقوم من حولي في جدهم ولعبهم، ولكني لا أستطيع ولا أريد أن أسطر من هذه الخواطر الآن شيئا، وإنما كانت تضطرب كل هذه الخواطر في نفسي حول ارتقاء الشيخين إلى منصب الرياسة الدينية العليا ومنصب الإفتاء.
هذان تلميذان من أخص تلاميذ الشيخ محمد عبده به، وأقربهم إليه، وأشدهم إيمانا بمذهبه، واقتناعا بدعوته إلى الإصلاح، وحرصا على أن تعود للإسلام - كما كان يريد الشيخ - مكانته العالية، فيؤثر في نفوس المسلمين، وتظهر عليه الهيبة والجلال أمام غير المسلمين، وعلى أن يكون الأزهر - كما كان يريد الشيخ - مهدا وملجأ ومنبعا لهذا النور الإسلامي الجديد، الذي يجب أن يغمر البلاد الإسلامية كلها، فيجتث منها أصول الشر، وينكس فيها أعلام البدع، ويعيد فيها إلى القلوب ما كان لها أيام السلف من نضرة وطهارة، ثم يتجاوز هذه البلاد إلى بلاد الديانات الأخرى، فيدعو إلى دين الله في دعة ولين، وإقناع بالحجة والموعظة الحسنة.
هذان تلميذان من أخص تلاميذ الشيخ به وأقربهم إليه، قد ارتقى أحدهما إلى حيث لم يستطع الشيخ نفسه أن يرتقي، فأصبح شيخ الأزهر، ورئيس المعاهد الدينية، وزعيم الهيئة الجديدة التي يسمونها هيئة «كبار العلماء»، ووصل أحدهما الآخر إلى حيث كان الشيخ، فجلس على كرسيه وتلقب بلقبه وأصبح مفتيا للديار المصرية، أو قل مفتيا للبلاد الإسلامية.
أفتراهما يذكران الآن ما كان يملأ نفسيهما حين كانا يختلفان في الأزهر إلى دروس الشيخ؟ أفتراهما يجدان فيما كان الشيخ يريد أن يجد فيه؛ من إحياء الإسلام على وجهه حرا سمحا طلقا، صديقا للحياة والحضارة والعلم والأدب، عدوا للجمود والتقليد والكيد والفناء في المستبدين وتأييد سلطتهم المطلقة؟
نعم لأول مرة منذ مات الشيخ وصل تلاميذه إلى حيث السلطان والقدرة على العمل والنفع، أفترى هؤلاء التلاميذ لا يزالون تلاميذ الشيخ يذكرونه ويتأثرونه، أم هي الحياة العملية وما يحيط بها من ظروف مختلفة قد تضطرنا إلى أن نقتنع مرة أخرى بأن الشيخ قد مات؟ ومع ذلك فلم يحتج الإسلام في يوم من الأيام إلى أن يفيق المسلمون فيحوطوه، ويذودوا عنه كما هو محتاج إلى ذلك في هذه الأيام ...
अज्ञात पृष्ठ