وهذه الدور نوعان؛ أحدهما يمثل أمس القريب أو البعيد، والآخر يمثل اليوم وغدا وبعد غد. الأول يمثل أمس وما كان فيه من حوادث وفنون وحياة خصبة من جميع نواحيها، وهي المتاحف، والآخر يمثل اليوم وغدا وما فيهما من لذة وأمل ورغبة في الترف وتهالك على النعيم، وهي دور التجارة الكبرى.
هذان القصران المتقاربان اللذان يتسميان باسم واحد، واللذان يتسلطان على النفوس تسلطا متشابها في القوة والبقاء، والاستئثار بالعقل، والاستهواء للب، يحتكمان في الفرنسيين والغرباء كما يشاءان؛ أحدهما متحف اللوفر، والآخر متجر اللوفر.
وكلاهما مكتظ طوال النهار بالزائرين والزائرات من كل جنس ومن كل إقليم، وكلاهما فتنة للزائرين والزائرات، ولكن فتنة المتحف أهون على الجيوب من فتنة المتجر.
فقصاراك إذا زرت المتحف أن تفتن بما فيه من آيات الفن الفرنسي الأجنبي على اختلافها وتباينها وتفاوتها في مقدار الجمال ونوعه وطبيعته وقيمته، ولكنك واثق أنك لن تجد في هذا المتحف إلا لذة بريئة خصبة فيها علم، وفيها إرضاء للذوق والشعور.
أما المتجر، ففي زيارته لذة قوية، ولكنها خطرة شديدة الخطر، ولا سيما إذا لم تزره وحدك بل زرته مع السيدات، ومهما يكن خطر متجر اللوفر وأمثاله على الجيوب والماليات الرفيقة، فإني لا أكره إذا زرت باريس أن ألم بها إلمامات طويلة أو قصيرة، خفيفة أو ثقيلة، فيها ربح وفيها خسارة، وفيها لذة ومتاع على كل حال؛ بل أصبحت - مع الأسف أو مع الرضا - لا أفهم المرور بباريس دون المرور باللوفر والبرنتان وجاليري لا فاييت، والوقوف عند بعض الأماكن فيها أتخير وأدفع إلى الشراء، وأستمع في شيء من الراحة واللذة لأحاديث البائعين والبائعات، وفنونهم الغريبة الحلوة في إغراء المشترين، والعبث بعقولهم وأذواقهم وجيوبهم معا.
14
للناس مذاهب مختلفة فيما يتبعون من الرحلة إلى أوروبا أو غير أوروبا من البلاد الأجنبية، فهم جميعا متفقون أو كالمتفقين على أنهم يدعون بلادهم رغبة في الراحة، والتماسا للترفيه على النفس، وتغييرا للبيئة، وفرارا من الجو الحار الثقيل، ولكنهم بعد هذا كله يختلفون في تصور الراحة وتغيير البيئة والفرار من الجو؛ فمنهم من يرى الراحة في الإيواء إلى سواحل البحر أو المحيط، يقضي نهاره متجردا أو كالمتجرد، مستلقيا أو كالمستلقي على الرمل، ينغمس في الماء ليخرج منه، ويخرج منه لينغمس فيه، وهو في هذه الأطوار المختلفة يستمتع بما يرى من أشخاص مجردين مثله، ويأخذ بحظه من حرية الطرف والتفكير والدعابة والعبث، حتى إذا كان الليل لم يستلق على الرمل، ولم ينغمس في الماء، وإنما اندفع إلى الكازينو، وانغمس في هذه الأمواج الملتطمة من الرجال والنساء، حول موائد اللعب، أو في مسرح الرقص، أو في المقصف أو حول الموسيقى.
وهذان الطوران من أطوار الحياة النهارية والليلية على ساحل البحر غريبان مختلفان أشد الاختلاف، ولا سيما في ما يمس الرجال؛ فهم عراة أو كالعراة بياض النهار، يظهرون من أجسامهم ما لا متعة في النظر إليه إلا أن يكون أحدهم قد صيغ على صورة أبولون، وهؤلاء الأشخاص قلة في الرجال، وتراهم في بعض المدن والسواحل يسرفون في هذا التجرد، كما تراهم في بعض المدن والسواحل يقتصدون، لا يقفهم عند حد من ذلك إلا لين البلديات وشدتها في ملاحقة المستحمين. فإذا كان الليل فقد سترت أجسامهم كلها، ودخلوا في ملابسهم الليلية أو السموكنج، لا يظهرون من أشخاصهم إلا أقل مقدار ممكن.
أما النساء فلهن منطق معقول: هن متجردات في النهار على الساحل، متجردات في الليل إذا أقبلن إلى الكازينو، ولكنهن لا يظهرن من أجسامهن في الليل ما يظهرن في النهار، إنما يظهرن في النهار نصفا، وفي الليل نصفا آخر: للنهار الأعجاز، ولليل الصدور.
وعلى هذا النحو تستطيع أن تفهم هذه الصورة المضحكة التي نشرها «الجورنال» ذات يوم، تمثل عاملا من عمال المحطات قد جلس إلى نافذته يبيع تذاكر السفر، وأقبلت عليه امرأة قبيحة المنظر شوهاء تشتري تذكرة، فهو مفتون بهذا الوجه القبيح المشوه؛ لأنه منذ أول الفصل لا يرى وجوها وإنما يرى أعجازا ...!
अज्ञात पृष्ठ