9
وفي باريس ملعب
لا يعرف باريس من لا يعرفه، ولا يزور باريس من لا يزوره، ولا يصل إلى حقيقة النفس الفرنسية من لم يختلف إليه، ويتذوق ما يلعب فيه، وكيف تفهم أثينا من غير أرستوفان؟
إذن فملعب
من باريس هو كملعب أرستوفان من أثينا في القرن الخامس قبل المسيح. في هذا الملعب الباريسي الصغير تظهر من النفس الفرنسية ناحيتان مختلفتان؛ إحداهما حلوة جدا، والأخرى مرة جدا، وكلتاهما مضحكة تحمل على الإغراق في الضحك، وأنا زعيم لك - إذا شهدت ما يلعب في هذا الملعب وفهمته على وجهه - أن تضحك كما لم تتعود أن تضحك قط، وأن تضحك بعد فراق الملعب بيوم وأيام، وأن تضحك كلما ذكرت هذه القصة التي شهدتها، وإني لأذكر الآن قصصا شهدتها منذ عشر سنين، فلا أستطيع أن أدفع الضحك عن شفتي.
في هذا الملعب الصغير تعرض عليك الحياة الفرنسية كلها: أدبها، وسياستها، وعلمها، وتجارتها، وزراعتها، وطبقات الشعب المختلفة فيها، على ألا يظهر الممثلون من هذا كله إلا ما هو خليق بالنقد، حري أن يبعث الاستهزاء والسخرية. شهدت فيه هذا العام قصتين فلن أنسى ثانيتهما التي كان موضوعها الوزراء الفرنسيون في حياتهم الخاصة بين أزواجهم وخليلاتهم، ومهما أنس فلن أنسى أحد هؤلاء الوزراء، وقد كلف بفتاة كانت تعمل في مكتبه، وما يزال بها حتى ترتفع بينهما الكلفة، وإذا هو قد نسي نفسه ومكانته ومنصبه وامرأته وكل شيء، وأصبح رجلا من عامة الشعب أمام امرأة من عامة الشعب، وإذا هو مستلق على الأرض يعبث بيديه ورجليه، ويمتلئ فمه بالضحك وأشنع ألفاظ المزاح، ويدخل رئيس الوزراء فيرى زميله في هذه الحالة، فهو دهش مبهوت، ولكنه لا يكاد يخلو إلى هذه المرأة حتى يكلف بها، وإذا هو يكيد لزميله، وإذا هو يتملقها ويتقرب إليها، وإذا الكلفة قد ارتفعت بينهما، وإذا أنت تسمع من الرئيس مثل ما كنت تسمع من صاحبه، ولكنك تضحك من الرئيس أكثر مما كنت تضحك من صاحبه؛ لأن هذا الرئيس قد اتخذ في شكله وحديثه وحركاته ما يذكرك أو يفرض عليك أن ترى وزيرا من وزراء فرنسا القائمين، كان رئيس وزارة فيها عشر مرات، ويبلغ الضحك أقصاه حين تسمع هذا الرئيس يسمي نفسه أرستيد
Aristide .
على أن للهزل في ملاهي باريس وملاعبها ألوانا مختلفة وفنونا متباينة، فأنت تشهد في بعض الملاعب هذا الهزل المريح الذي يقصد به إلى الضحك ليس غير، لا يدعوك إلى تأمل، ولا يضطرك إلى تفكير، ولا يخيل إليك أنه يمثل الحياة أو ناحية من الحياة، وإنما أنت مقتنع منذ ترى أول التمثيل أنك أمام هزل خالص لا أكثر ولا أقل.
هذه القصة التي شهدتها تمثل الموتى في الدار الآخرة، وهم يعبثون في الجنة ضروبا من العبث تشبه عبثهم في الدنيا، ومنهم من يحتال على بواب الجنة حتى يظفر بالإذن في أن يهبط إلى الأرض أول النهار على أن يعود إلى الجنة منتصف الليل، فإذا هبط إلى الأرض رأى أرملته وقد كادت تفتن برجل من الأحياء، فما يزال بها وهو متنكر حتى يصيبها ويصرفها عن خصمه، حتى إذا كانت ساعة الصعود إلى الجنة أبت صاحبته إلا أن تصعد معه، وخيل إليها أنه صاحب طيارة، فتطير معه وإذا هي في الجنة، ثم تنتهي القصة وإذا كل ما فيها حلم حلمه رجل بعد أكلة دسمة، وشراب كثير.
فإن أردت الجد فما أكثر ملاعب الجد، وما أكثر ما يعرض فيها من الفنون؛ منها القديم ومنها الجديد، منها الهادئ ومنها العنيف، منها ما يقصد إلى التسلية والعظة، ومنها ما يقصد إلى الدرس والبحث، ومثل ذلك في الموسيقى الجادة والموسيقى التي تتوسط بين هذا وذاك، ولديك الموسيقى الخالصة لا تسمع فيها إلا الأدوات الموسيقية يصحبها الغناء، والموسيقى يصحبها الرقص والغناء جميعا.
अज्ञात पृष्ठ