قالت: وما الذي طرأ عليه؟ قال: طرأ عليه الموت، فحال بينه وبين ما يريد! قالت: وهل تعلم كيف مات؟ قال : نعم، أنا أعلم الناس بذلك؛ لأنه لم يكن حاضرا معه في تلك الساعة وفي ذلك الموقف سواي، فارتعدت ونظرت إليه مدهوشة وقالت له: ألم يمت قتيلا بيد أعدائه؟ قال: لا، بل بيد أصدق أصدقائه! بل بيد أقرب الأقرباء إليه وأمسهم به رحما! فطاش عقلها وجن جنونها وصاحت: ماذا تريد أن تقول؟ قال: أريد أن أقول: إنني أنا الذي قتلته بيدي جزاء له على خيانته لوطنه! قالت: أنت يا ولده وفلذة كبده؟ قال: نعم، وأنت التي وضعت في يميني ذلك السيف الذي قتلته به؛ لأنك أفسدت نفسه وقتلت شعوره، وأغريته بخيانة وطنه، وسلبته جوهرة الشرف الثمينة التي كانت تضيء ما بين جنبيه، وكانت أكرم الجواهر وأغلاها، فلم أر بدا من أن أقتله لأستنقذ الوطن من يده، فتألمي ما شئت أيتها المرأة الشريرة وتعذبي، وتجرعي كئوس الحسرة والندم على ما أفلت من يدك من أمانيك وآمالك، وحسبي انتقاما منك على جريمتك التي أجرمتها إلي وإلى أبي وإلى الطبيعة، أن تعلمي أنني أنا الذي خيبت آمالك، وهدمت بيدي ذلك الصرح العظيم الذي أنفقت في تشييده أيام حياتك!
نعم أنا الذي قتلته بيدي، واقترفت أعظم جريمة يقترفها إنسان في العالم، ولولاك لما أقدمت على ذلك ولا خطر ببالي أن إنسانا في الوجود يقدم عليه، ولو كان في استطاعتي أن أكشف أمرك، وأهتك الستر عن جريمتك لفعلت، ولكنني لا أستطيع أن أفعل، إشفاقا على سمعة ذلك الرجل المسكين الذي قضى عليه سوء حظه أن يكون شريكا لك في حياتك وفي جرائمك، فعيشي معذبة مثلي، فريسة لآلامك وأحزانك، واستنفدي ماء شئونك حزنا على العرش الذي فاتك، والزوج الذي رحل عنك، واسهري لياليك الطوال خائفة مرتعبة من شبح الجريمة التي اجترمتها، وخيال الدماء التي سفكتها، وليطر قلبك خوفا وهلعا كلما ذكرت أنك وضعت في يد الولد سيفا ليقتل به الوالد، فمات الوالد قتيلا، وعاش الولد معذبا؛ ولتطل حياتك على ظهر الأرض لتطول آلامك وأحزانك، حتى إذا نزل بك الموت نزل بهيكل يابس من العظم، قد أحرقته اللوعات ، وأضوته الحسرات، وافترسته الهموم والأحزان.
وهنا سمعت ضجة عظيمة في الساحة، وهاتفون يهتفون: الملك! الملك! فاكتأب قسطنطين وتقبض وجهه، وتهللت بازيليد وتطلقت، وطوت وثيقة العهد برفق ووضعتها في جيبها، ثم قالت له: نعم، إنني سأعيش يا قسطنطين حزينة باكية كما قلت، ما من ذلك بد، ولكنني لا آذن لك أن تعيش يوما واحدا بعد اليوم على ظهر الأرض حتى لا ترى بعينيك مصائبي وآلامي، وتشمت بهمومي وأحزاني، فقد دسست لك الدسيسة في الجيش حتى ثار عليك، ووضع في عنقك ذلك الغل الثقيل، غل الخيانة الذي لا خلاص لك منه، وسترى الآن بقية ثأري وانتقامي!
وهنا دخل الملك والجنود من حوله يتقدمهم لازار وهو يصيح وهم يصيحون من خلفه: إنه خائن يا مولاي، إنه قد مالأ الأعداء علينا، إنه أفنى رجالنا، ورمل نساءنا، ويتم أطفالنا، فأعدنا عليه وانتقم لنا منه وللوطن! والملك يقول: دعوني وشأني، لا أصدق شيئا مما تقولون، ثم التفت إلى قسطنطين وقال له: أيها البطل العظيم، إن الوطن في خطر، وقد جئت أستنجد بك على دفع هذه النازلة التي نزلت بنا، وسأكون في المعركة المقبلة جنديا من جنودك، أقاتل بجانبك، وأبارك خطواتك، ولا تبتئس بما يقول هؤلاء القوم، فإنهم لا يعلمون من أمرك شيئا. إنا لا نعرف اليوم تحت سماء البلقان بطلا غيرك، وما كنا نعرف قبل اليوم بطلا غير أبيك، ولا نضمر لكما في قلوبنا غير الإجلال والإعظام، لمكانكما من خدمة الوطن وحمايته والذود عنه. أما الحظ الذي فارقك في تلك الوقائع الماضية، فأبشرك أن عهد فراقه لا يطول، وأنه سيعود إليك بعد أيام قلائل بالوجه الطلق الجميل، وستمحو بانتصاراتك المقبلة جميع آثار تلك الهزائم السالفة. ثم التفت إلى الجنود وقال لهم: يا أبطال البلقان وحماته، لا تخذلوا قائدكم، ولا تخفروا ذمته، فهو سيدكم اليوم، وابن سيدكم بالأمس، واعلموا أنني لا أصغي إلى تهمة لا أعرف لها برهانا ولا دليلا.
فصمت القوم صمتا عميقا، وساد بينهم السكوت هنيهة، وقد بدأت مراجل غيظهم وموجدتهم تفتر وتتقاصر، وهنا انفرج الجميع وإذا ببازيليد تتقدم رويدا رويدا - كما ينساب من مكمنه الأرقم - نحو موقف الملك حتى مثلت بين يديه، وقالت له بصوت عال سمعه جميع الجنود: أنا التي أتهمه يا مولاي، وأنا التي أقدم لك على تهمته الدليل والبرهان! فدهش الملك عند رؤيتها، وقال: الأميرة؟ قالت: نعم يا مولاي، أرملة القائد ميشيل برانكومير. إنني أتهم هذا الرجل بخيانة قومه وممالأة أعدائهم عليهم، وأقول لك: إنه كتب بينه وبينهم عهدا على أن يفتح لهم أبواب البلاد في الساعة التي يريدونها، فيمنحوه في مقابل ذلك عرش البلقان وتاجه، وقد دعاني الساعة ليشركني معه في هذه الجريمة التي يريد اقترافها، ويسألني أن أساعده عليها، فلم أر بدا من أن أرفع أمره إليك. أما البرهان الذي تريده فها هو ذا.
ومدت يدها إليه بتلك الوثيقة، فتناولها الملك ذاهلا وأخذ يقرؤها وهو يرتعد ويرتجف ويقول في نفسه: ماذا أرى؟ إخلاء الحدود! اجتياز الجبال! العرش! التاج! ختم برانكومير! يا للهول ويا للفظاعة! ثم نظر إلى قسطنطين فإذا هو تمثال جامد لا يتحرك ولا يطرف، فتقدم نحوه خطوة وقال: ما هي كلمتك يا قسطنطين؟ فصمت ولم يقل شيئا، فالتفتت إليه بازيليد وقالت له: أتستطيع أن تنكر شيئا مما أقول؟ فأوثقته وثاقا لا يستطيع معه قبضا ولا بسطا، إلا أنه رفع رأسه ونظر إليها نظرة غريبة مبهمة لم يعلم غيرها ماذا يريد بها، ثم عاد إلى صمته وإطراقه، فهاج الجند وأخذوا يصيحون: القتل القتل، الانتقام الانتقام.
وظل الملك يشير إليهم بيده يدعوهم إلى السكون والهدوء حتى هدءوا، فتقدم نحو قسطنطين خطوة ثانية ووضع يده على كتفه وسأله مرة أخرى: ماذا تقول يا قسطنطين؟ دافع عن نفسك، فإن سكوتك حجة عليك، لا تصمت ولا تطرق، وقل كلمة واحدة؛ فإني أصدقك في كل ما تقول، فاستمر في صمته وإطراقه وهو يقول في نفسه: كيف أدافع عن نفسي، وأي سبيل أسلكه إلى ذلك، والسبل جميعها وعرة شائكة، لا تقوى قدمي على اجتيازها، إنني لا أستطيع أن أبرئ نفسي إلا إذا اتهمت أبي ، وقد قتلته مرة فلا أقتله مرة أخرى! ثم ابتسم ابتسامة الممتعض وقال في نفسه: قد كنت أطلب الموت بكل سبيل حتى جاءني يسعى إلي بقدميه، فلم أخشاه وأرتاع منه؟ فليكن ما أراد الله أن يكون، ثم رفع رأسه إلى الملك وقال له: ليس عندي ما أقوله لك يا سيدي؛ فاصنع بي ما تشاء.
فصاح الجمهور: ليسقط الخائن! ليقتل المجرم! وهجموا عليه ليفتكوا به، فاعترض الملك طريقهم وقال لهم: دعوه وشأنه، فإن أمره موكول إلى مجلس القضاء، أما نحن فليس بين أيدينا إلا أن نفكر الآن في الطريق إلى الدفاع عن وطننا وحمايته، ودفع هذه النازلة الملمة بنا؛ فسيروا بنا أيها الجنود الأبطال إلى ساحة الحرب وأنا قائدكم.
ثم التفت إلى الحراس وأمرهم بالقبض على قسطنطين والذهاب به إلى السجن حتى يفصل القضاء في أمره.
فهتف به قسطنطين وقال: لي كلمة واحدة أحب أن أقولها لك يا مولاي. فذعرت بازيليد، وارتعد لازار، واشرأب القوم بأعناقهم، والتفت إليه الملك وقال: ماذا تريد أن تقول؟ قال: أنت تعلم يا مولاي أنني جندي قديم، ولدت في ساحة الحرب، وقضيت حياتي في ميادينها، ولا أمنية لي في الحياة غير أن أموت فيها، وأنت الآن قائد الجيش وصاحب الأمر والنهي فيه، فأذن لي أن أسير في ركابك جنديا صغيرا، لا قائدا ولا أميرا، لأقاتل معكم حيث تقاتلون، ولك علي عهد الله وميثاقه ألا أعود من تلك المعركة إلا منتصرا أو محمولا على الأعواد إلى حيث آوي إلى منزلي الأخير الذي لا رجعة لي منه، علني أكفر بذلك عن زلتي التي زللتها، وأنتقم من نفسي بنفسي. فعجب الملك لأمره وظل يردد نظره في وجهه هنيهة وكأن نفسه كانت تحدثه ببراءته وطهارته، إلا أنه لم يلبث إلا قليلا حتى زوى وجهه عنه وقال له: لا أستطيع أن آذن لك بشيء؛ فالموت في ساحة الحرب منزلة لا ينالها إلا الأمناء المخلصون!
अज्ञात पृष्ठ